سلوك الانسان وتعامله مع نفسه وأهله ومجتمعه هو الذي يحدد مصيره في الدنيا والآخرة، وبما ان مصيره الموت والفناء، وبما ان الموت انتقال من حال الى حال، فالأحرى به ان يهذّب سلوكه؛ ليتقبّل وقع أهوال سكرة الموت بكل اريحية وتسليم، وإلاّ هو في مخمصة لا منجى منها ولا خلاص، وكما جاء في قواميس اللغة ان السكر معناه في الأصل سد طريق الماء، ويجري في ذلك على كل محل مسدود، وعليه فان حالة السكر والثمالة تقع حاجزا وسدا بين الإنسان وعقله، والقرآن الكريم في قوله تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) ق: ١٩. حينما ذكر سكرة الموت فهي حال تشبه حالة الثمل السكران، إذ تظهر على الإنسان بصورة الاضطراب والانقلاب والتبدّل، وربما استولت هذه الحالة على عقل الإنسان وسلبت شعوره واختياره.
انها مرحلة صعبة ومصيريّة في آن واحد، وكيف لا تكون كذلك مع أن الموت مرحلة انتقالية مهمة ينبغي أن يقطع الإنسان فيها جميع علائقه بالدنيا التي تعلّق بها خلال سنين طويلة، وأن يخطو في عالم جديد عليه ملئ بالأسرار، خاصة أن الإنسان - لحظة الموت - يكون عنده إدراك جديد وبصر حديد - فهو يلاحظ عدم استقرار هذا العالم بعينيه ويرى الحوادث التي بعد الموت، وهنا تتملّكه حالة الرعب والاستيحاش من قرنه إلى قدمه فتراه سكرا وليس بسكر.
ولا يزال الانسان وبما فرّط في حياته وبما أساء الى ربه وأساء الى العباد، فانه طالما يتمادى في غيّه ويتوغّل في فساده حتى اذا اصطدم رأسه بصخرة الموت، وفاق من غفلته التي كان عليها، فانه يفيق من تلك الغفلة والثمالة اذا اجتمعت عليه سكرة الموت وحسرة الفوت، لماذا الحسرة بعد السكرة؟ لأنه المصير الأسود الذي ينتظر المجرم والفاجر والفاسق، انه القلق وقصر اليد وتهجّم الوجه الذي يصيب المذنب حينما يداهمه الموت بسكراته الماحقة، انه الهروب من الواقع المظلم الحالك الذي تجلّى بتحطّم سيكلوجيا الذات بمطرقة سكرات الموت القاصمة، فالموت قد ولج في أعماقه ولات حين مندم ولات حين رجوع، قال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) المؤمنون: 99 – 100.
سكرات الموت عندما تداهم الانسان فإنها تحيل بينه وبين أهله، بل تحيل بينه وبين منطقه، وهو يتقلّب بين أحضانها تراه ينظر الى أهله ببصره ويسمع بأذنه وهو في كامل قواه العقلية، بيد ان اكمة الموت ضربت نطاقا على فمه افقدته النطق والتفاهم، هنا تتوارد على مخيلته كيف أفنى عمره وفيم أذهب دهره، يتذكّر بكل حسرة وندامة كيف انه جمع الأموال دونما تمحيص بحليتها وحرمتها، وهو يعلم ان في حلالها حساب وفي حرامها عقاب وفي شبهاتها عتاب، ليته لم يجمعها من حرام وشبهة، وقد لزمته تبعات جمعها، وأشرف على فراقها والرحيل عنها.
لعلّه تتقاطر على ذهنه في تلك اللحظات العصيبة، كيف انه تعب وشقي وقامر وجازف وأعطى الكثير من صحته ومهجته في جمعها، ليأتي الورثة من ورائه يتنعمون فيها ويتمتعون بها؟! فيكون له الغرم ولغيره الغنم، له العبء وحمل الصخور والاثقال، ولغيره الهناء من دون مشقة وعناء، هنا تسكب العبرات وتتقاطر الدمعات وتنزف الندامات، كيف انه علقت رهان عمله لغيره، كيف أن سهر الليالي وكدح النهارات في مواصلة الجمع والادّخار يتحوّل الى صحراء قاحلة ليس عند مشاهدة الموت فحسب، بل في حياته عند جمعها وحرمان نفسه ومن يلوذ به من نفعها والاستفادة منها.
تحذير لكل من سوّلت له نفسه بجمع الأموال كيف شاء من دون تمحيص حلّه عن حرامه، تحذير للتجّار ورجال الأعمال الغافلين عن ذكر الله، تحذير لكل من تطاول على المال العام، ما منكم الا واردوا الموت الزئام، ما منكم الا وقد وقع في أحضان سكرات الموت، ولايزال الذي يتقلب في أحضان سكرات الموت يعض يده ندامة على ما فرّط في حياته، هنا تتقاطر على مخيّلته لماذا لم يحسن الى نفسه وعياله والفقراء من مجتمعه؟! لماذا جمع كل تلك الأموال من البخل أو الحرام ولم يتهنأ بما كدحت يداه حلالا طيبا مستساغا؟! لماذا بذل كل تلك الجهود لجمع الأموال التي كانت سبّة عليه لا ينتفع منها قبل الموت وبعده؟! لماذا حوّل بستان جمعه للأموال الى صحراء قاحلة يتيه في فلواتها بينما غيره يتمتع بأجوائها الساحرة؟! لماذا حيزت أمواله الى أولئك الذين كانوا يغبطونه بها ويحسدونه عليها؟! سكرة الموت تلجم ندمه من دون رجعة، فهو في تيه وسط تضارب علاقاته بالدنيا وأسرار العالم الجديد، عليه معايشة الواقع بعيدا عن الندم والامنيات.
نعم انه الواقع المرير الذي يدق أبواب جميع الخلائق من الأحياء، انه الموت المحتّم الذي يراود الجميع بسكراته المذهلة وصدماته الساحقة وتداعياته الماحقة، انها المساحة الواقعة بين الحياة والموت، فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتى يقضي على لسانه وسمعه وبصره، ثم يزداد الموت التياطا والتصاقا به، تمهيدا لخروج روحه من جسده، ومن ثم تحوّله الى جثّة هامدة لا حراك فيها ولا استقرار، فيبادر أهله الى تكفينه ودفنه لئلا يتأذّوا من جيفته التي لا تطاق، ويلاقي مصيره الأسود بما كسبت يداه من ظلم وفساد وطغيان، هذا هو حال الذي كان يصول ويجول في الدنيا بخلا وفسادا وعصيانا لا يأبه بمصيره الذي ينتظره في أولى محطاته ألا وهو سكرة الموت بما فيها من رعب واستيحاش وفزع، ولكن الذي ينتظره بعد تلك المحطة أدهى وأهول وأقسى ولا يتأهّب اليها الا المهتدون.
يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير الأمثل: حتى الأنبياء وأولياء الله الذين يواجهون حالة النزع والموت باطمئنان كامل ينالهم من شدائد هذه الحالة نصيب، ويصابون ببعض العقبات في حالة الانتقال، كما قد ورد في حالات انتقال روح النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بارئها عند اللحظات الأخيرة من عمره الشريف المبارك أنه كان يدخل يده في إناء فيه ماء ويضعها على وجهه ويقول: لا إله إلا الله، ثم يقول: إن للموت سكرات.
كما أن الامام علي عليه السلام ينذر البشرية بقوله: (إنكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم وسمعتم وأطعتم ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا وقريب ما يطرح الحجاب).
ثم يضيف القرآن في ذيل الآية قائلا: ذلك ما كنت منه تحيد، أجل إن الموت حقيقة يهرب منها أغلب الناس لأنهم يحسبونه فناء لا نافذة إلى عالم البقاء، أو أنهم لعلائقهم وارتباطاتهم الشديدة بالدنيا والمواهب المادية التي لهم فيها لا يستطيعون أن يصرفوا قلوبهم عنها، أو لسواد صحيفة أعمالهم.
أيا كان فهم منه يهربون.. ولكن ما ينفعهم ومصيرهم المحتوم في انتظار الجميع ولا مفر لأحد منه، ولابد أن ينزلوا إلى حفرة الموت ويقال لهم هذا ما كنتم منه تفرّون!!.
وقد ينسى الإنسان المغرور جميع الحقائق التي يراها بأم عينيه على أثر حب الدنيا وحب الذات حتى يبلغ درجة يقسم فيها أنه خالد كما يقول القرآن في هذا الصدد: (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ) ابراهيم: 44. ولكن سواء أقسم أم لم يقسم، وصدّق أم لم يصدّق، فإن الموت حقيقة تحدق بالجميع وتحيق بهم ولا مفر لهم منها. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج ١٧ - ص ٣٣.
سكرة الموت تنزل كالصاعقة على رأس الانسان، وأن ألمها وتداعياتها عليه عظيمة وكما وصفها رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أدنى جبذات الموت بمنزلة مائة ضربة بالسيف) كنز العمال للمتقي الهندي، ٤٢١٥٨. وهذا يستدعي بالإنسان ان يتأهّب ويستعدّ للموت لاستقبال سكراته بكل رحابة صدر، ولا يكون ذلك الا بالطاعة والانصياع لأوامر الله تعالى واجتناب معاصيه، والإمام علي (عليه السلام) يقول في هذا الصدد: (فإنكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم، وسمعتم وأطعتم، ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا، وقريب ما يطرح الحجاب!) نهج البلاغة: الخطبة ٢٠.