لا تزال الآثار النفسية والاجتماعية الوخيمة تنتظر ذلك المتعرّض لشرف الآخرين بالهتك والضياع، فالدنيا دار امتحان وابتلاء يمحّص فيها الفرد ويبتلى تارة بأمواله وأخرى بأولاده وثالثة بغرائزه الجنسية ورابعة بنفسه وهكذا... والذين يأتون الى هذه الدنيا ينقسمون الى قسمين، احدهما يتمتع بطيبات ما رزق الله تعالى بنظرة نوعية فتراه يأكل ويشرب ويعمل وينكح دونما تعد على حقوق الغير ويستفيد الاستفادة المثلى من هذه النعم، والآخر يزاول هذه الأمور في دائرته الضيقة ربما يتطاول على الآخرين سرقة وسفاحا وظلما لكي يشبع نزواته ويروي ظمأه الذي لا يمكن أن ينطفأ أواره إلا بصعقات كونية توقفه عند حدّه.
وطالما ان هذه الصعقات والكدمات نعبّر عنها بالأضرار النفسية والاجتماعية التي تصيب الفرد بما هو فرد وبما هو كائن يعيش في أوساط الآخرين، وهي تبعات وضعية تنزل عليه كالصاعقة ولا حيلة له وقتذاك إلا الانصياع وتلقي تداعياتها سواء على النطاق الفردي أو الاجتماعي، وبطبيعة الحال ان الانسان السوي يعيش أحسن الحال؛ بمروئته وغيرته وكرامته وحيائه وصباحة وجهه وسمعته الطيبة، أما اذا ما فقد هذه الأمور بين عشية وضحاها بسبب تمرّده على الأمر الالهي وتعدّيه على حقوق الغير ولاقى ما لاقى من المحن والمتاعب والمصائب ـ فلا يلومنّ إلا نفسه.
شئنا أم أبينا ان للزنا ومخالفة التعاليم الإلهية في تلبية الرغبات الجنسية آثارا وضعية دنيوية يكتوي بنارها الزاني سواء بقي الزاني على غيّه أم تاب، وليس لها علاقة بالآثار الأخروية فإنها تمحى خاصة عن الذين يطرقون باب التوبة النصوح بعد ارتكابهم تلك الموبقات بوقت قصير، لماذا تبقى الآثار الدنيوية للزاني بعد التوبة وتمحى عنه الآثار الأخروية؟ ربما تكون تلك الآثار الوضعية هي تزكية للنفس قبل ان يغادر الحياة الدنيا لعظم الجريمة التي ارتكبها الزاني في غفلة من أمره، ومن المعلوم ان الزنا كما جاء في الروايات يجمع مفاسد الشر كلها من: قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة، ووأد الفضيلة.
ثمة تداخل بين الآثار النفسية والاجتماعية احدهما يؤثر على الآخر سلبا على حياة الزاني فتجعله عرضة لمحق الحياء وصفاقة الوجه والقلب، بل سواده وعتمته، وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو للناظرين، ونتيجة هذه الدواهي فان الزاني يبتلى بملازمة الفقر والهلاك، وهو ما يصيبه من الذل والانكسار الى ان يلقى مصيره المحتوم غير مأسوف عليه، وفي الأثر قال الإمام علي (عليه السلام): (الزنا يورث الفقر) الخصال للصدوق: ٥٠٤ / ٢.
لكل انسان حرمة وكرامة، والذي يرتكب فاحشة الزنا فإنها تسقط تلك الحرمة والكرامة، والانسان بدونهما هو أقرب للبهيمية من الانسانية، تراه مضطرب الضمير والوجدان، خائف وجل يحسب كل صيحة عليه، مهزوز الثقة بنفسه وبمجتمعه المحافظ الذي يعيش في أوساطه، وبالتالي فان الحالة النفسية التي تنتاب الزاني تؤثر على نفسه أولا ومن ثم ينعكس ذلك التأثير السلبي في تعامله مع الناس وقبل ذلك في تعامله مع الخالق المتعال، كيف لا يكون كذلك والواقع المر يؤكد ان الزنا يذهب حرمة فاعله، ويسقطه من عين ربه وأعين عباده، ويسلب صاحبه اسم البر، والعفيف، والعدل، ويعطيه اسم الفاجر، والفاسق، والزاني، والخائن؟!.
ناهيك عن الوحشة التي يضعها الله في قلب الزاني، وهي نظير الوحشة التي تعلو وجهه؛ فالعفيف على وجهه حلاوة، وفي قلبه أنس، ومن جالسه استأنس به، والزاني بالعكس من ذلك تماماً، ترى وجهه تعلوه الغبرة والكتمة والجهامة، وفي قلبه اضطراب وخفقان وان كان يحاول اظهاره بالأنس والفرح، بيد انه مصطنع يقف على حقيقته أولئك الذين خبروه وعايشوه، وبطبيعة الحال ان المضطرب المقطب الوجه المنتهك لأعراض الناس لا يجتمع حوله الا أولئك الذين من صنفه، والطيور على أشكالها تقع.
قلنا ان العلاقة مريبة بين حياة الزاني وما يعانيه من حالات نفسية خانقة وبين نظرة المجتمع اليه، فالتعدي على شرف الآخرين والشعور الداخلي بالذنب والضعة يجعل من الزاني بعبعا يحذر الجميع من التقرب اليه ومخالطته ومجالسته، والمثل الدارج يقول الاقتراب من كورة الفحم اما ان تكتوي بنارها او ان تتصخم بسوادها، اذ ان الناس ينظرون إلى الزاني بعين الريبة والخيانة، ولا يأمنه أحد على حرمته وأولاده، ولعل العار الذي يلحق من قذف بالزنا أعظم من العار الذي ينجر إلى من رمي بالكفر وأبقى؛ إلا إن التوبة من الكفر على صدق القاذف تذهب رجسه شرعاً، وتغسل عاره عادة، ولا تبقي له في قلوب الناس حطة تنزل به عن رتبة أمثاله ممن ولدوا في الإسلام، بخلاف الزنا؛ فإن التوبة من ارتكاب فاحشته وإن طهرت صاحبها تطهيراً، ورفعت عنه المؤاخذة بها في الآخرة يبقى لها أثر في النفوس، ينقص بقدره عن منزلة أمثاله ممن ثبت لهم العفاف من أول نشأتهم، وانظر إلى المرأة ينسب إليها الزنا كيف يتجنب الأزواج نكاحها وإن ظهرت توبتها؛ مراعاة للوصمة التي أُلصقت بعرضها سالفاً.
ومن أضراره الرائحة الكريهة التي تفوح من الزاني، يشمها كل ذي قلب سليم، تفوح من فيه، ومن جسده، علاوة على ضيقة الصدر وحرجه؛ فإن الزناة يعاملون بضد قصودهم؛ فإن من طلب لذة العيش وطيبه بمعصية الله عاقبه الله بنقيض قصده؛ فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، ولم يجعل الله معصيته سبباً إلى خير قط، ولو علم الفاجر ما في العفاف من اللذة والسرور، وانشراح الصدر، وطيب العيش؛ لرأى أن الذي فاته من اللذة أضعاف أضعاف ما حصل هذا في الدنيا، أما في الآخرة فان الزاني يعرض نفسه لفوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنات عدن، ويمكن الاشارة هنا الى نبي الله يوسف عليه السلام كيف انه اعرض عن الفاحشة المحرمة مع زليخا، فانه حصل عليها وعلى غيرها بالزواج الطاهر، اضافة الى ما اصطفاه الله تعالى بالنبوة وما حباه من الحكم والعلم والحكمة والمحبة في قلوب المؤمنين.
العلاقة المريبة للزاني لا تقتصر على المجتمع بل تتعداه الى بقية أفراد أسرته، فان الزنا يجرئ على قطيعة الرحم وعقوق الوالدين، وكسب الحرام، وظلم الخلق، وإضاعة الأهل والعيال وربما قاد إلى سفك الدم الحرام، وربما استعان عليه بالسحر والشرك وهو يدري أو لا يدري؛ فهذه المعصية لا تتم إلا بأنواع من المعاصي؛ فهي محفوفة بجند من المعاصي قبلها وجند من المعاصي بعدها، وهي أجلب شيء لشر الدنيا والآخرة، وأمنع شيء لخير الدنيا والآخرة، اذ ان الزنا يذهب بكرامة الفتاة ويكسوها عاراً لا يقف عندها، بل يتعداها إلى أسرتها؛ حيث تدخل العار على أهلها، وزوجها، وأقاربها، وتنكس به رؤوسهم بين الخلائق، وإذا حملت المرأة من الزنا، فقتلت ولدها جمعت بين الزنا والقتل، وإذا حملته على الزوج أدخلت على أهلها وأهله أجنبياً ليس منهم، فورثهم ورآهم وخلا بهم، وانتسب إليهم وهو ليس منهم إلى غير ذلك من مفاسد زناها.
اضافة الى أن الزنا جناية على الولد؛ فإن الزاني يبذر نطفته على وجه يجعل النسمة المخلقة منها مقطوعة عن النسب إلى الآباء، والنسب معدود من الروابط الداعية إلى التعاون والتعاضد؛ فكان الزنا سبباً لوجود الولد عارياً من العواطف التي تربطه بأدنى قربى يأخذون بساعده إذا زلت به فعله، ويتقوى به اعتصابهم عند الحاجة إليه، كذلك فيه جناية عليه، وتعريض به؛ لأنه يعيش وضيعاً في الأمة، مدحوراً من كل جانب؛ فإن الناس يستخفون بولد الزنا، وتنكره طبائعهم، ولا يرون له من الهيئة الاجتماعية اعتباراً؛ فما ذنب هذا المسكين؟ وأي قلب يحتمل أن يتسبب في هذا المصير؟! ناهيك عن ان الزنا يهيج العداوات، ويزكي نار الانتقام بين أهل المرأة وبين الزاني، ذلك أن الغيرة التي طبع عليها الإنسان على محارمه تملأ صدره عند مزاحمته على موطوئته، فيكون ذلك مظنة لوقوع المقاتلات وانتشار المحاربات؛ لما يجلبه هتك الحرمة للزوج وذوي القرابة من العار والفضيحة الكبرى، ولو بلغ الرجل أن امرأته أو إحدى محارمه قتلت كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت!.
ليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل يتعداه الى مهابة الرجل في العائلة خصوصا اذا اصبح أبا او جدا، فان تلك المهابة تتهاوى في حالة الزنا كتهاوي اوراق الشجر في الخريف، فانه يؤثر سلبا على محارم الزاني، فشعور محارمه بتعاطيه هذه الفاحشة يسقط جانباً من مهابتهن ويسهل عليهن بذل أعراضهن إن لم يكن ثوب عفافهن منسوجاً من تربية دينية صادقة، بخلاف من ينكر الزنا ويتجنبه، ولا يرضاه لغيره؛ فإن هذه السيرة تكسبه مهابة في قلوب محارمه، وتساعده على أن يكون بيته طاهراً عفيفاً.
معاول الزنا لا تقتصر على تهديم أعمدة الحالات النفسية والاجتماعية للفرد فحسب، بل تتعداها الى الأضرار الجسيمة على الصحة التي يصعب علاجها والسيطرة عليها، بل ربما أودت بحياة الزاني، كالإيدز، والهربس، والزهري، والسيلان، ونحوها، وبالتالي فان الزنا سبب لدمار الأمة نفسيا واجتماعيا واخلاقيا وصحيا؛ فقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام): (حرم الزنا لما فيه من الفساد من قتل الأنفس، وذهاب الأنساب، وترك التربية للأطفال، وفساد المواريث، وما أشبه ذلك من وجوه الفساد) وفي رواية الإمام الصادق (عليه السلام) - من أسئلة الزنديق عنه (عليه السلام) -: لم حرم الله الزنا؟ قال: (لما فيه من الفساد، وذهاب المواريث، وانقطاع الأنساب، لا تعلم المرأة في الزنا من أحبلها، ولا المولود يعلم من أبوه، ولا أرحام موصولة، ولا قرابة معروفة) بحار الانوار للمجلسي: ٧٦ / ٣٦٦ / ٣٠.