تشترك الديانات
الإبراهيمية الثلاث في حكاية كتبها المقدسة (القرآن والتوراة
والإنجيل) حقائق للعلم فيها كلمة، غير أنها ـ أي الكتب الثلاثة ـ
تتفاوت بشدة في درجة انطباقها على ما أثبته العلم من تلك الحقائق،
ورغم أن الموضوعات العلمية التي تناولتها التوراة وكذلك الإنجيل أقل
بكثير مما تناوله القرآن، إلا أننا نجدها قد خالفت العلم في أكثرها،
بخلاف القرآن الكريم، الذي جاء مطابقاً لمخرجات العلوم الحديثة
باعتراف كبار مفكريهم، يقول في ذلك الفرنسي مورس بوكاي: «ولكن بعد
تدقيق النص العربي بإمعان شديد قمت بجردة شاملة استبان لي منها أنه
ليس في القرآن تأكيد يمكن أن ينتقد من الوجهة العلمية في هذا العصر
الحديث. وقد قمت بالتدقيق ذاته للعهد القديم والأناجيل بالموضوعية
نفسها، فلم يكن ثمة بالنسبة الى الأول ما يحوج الانتقال الى أبعد من
سفر التكوين للوقوف على تأكيدات مناقضة العلم المعترف به في هذا
العصر.. ويغرق المرء دفعة واحدة لدى فتح الاناجيل، عند نسب المسح
الذي يبدو من الصفحة الأولى في مشكلة مهمة، هي أن نص متّى هو في هذه
النقطة متناقض صراحة مع نص لوقا، وأن هذا الأخير واضح التناقض مع
المعارف الحديثة المتصلة بقدم الإنسان على الأرض». القرآن والتوراة
والإنجيل والعلم، ص 17 ـ 18.
الأمر الذي يكشف لنا بلا أي ريب صون القرآن من أن تمتد له يد التحريف، بخلاف الكتب السابقة عليه، يقول بوكاي: «وهكذا يبدو إسهام الإنسان في نص العهد القديم عظيماً، وإننا لنتحقق دونما عسر من نص الى آخر، ومن ترجمة الى أخرى، ومع التصحيحات المستخلصة حتمياً، أن النص الأصلي كان تحريفه ممكناً خلال أكثر م ألفي سنة». نفس المصدر، ص21.
فكما لا يخفى على من له إطلاع على تاريخ تدوين العهد القديم، أنه يتكون من 39 كتاباً، خمسة منها منسوبة الى موسى عليه السلام تسمى التوراة، والتي سيقتصر كلامنا حولها، كونها الأهم منها، ومن المتفق عليه بين جمهور النقاد المتخصصين في الدراسات التوراتية أن الكتب الخمسة المذكورة لم يكتبها موسى عليه السلام، وإنما هي تركيب من أربعة مصادر، تعرف بالوثائق الأربعة:
المصدر اليهوي، سمي بهذا الاسم، لأن اسم الإله فيه (يهوه)، وقد كتب في القرن التاسع قبل الميلاد، في بلاد يهوذا (الدولة الجنوبية).
المصدر الإلوهيمي، سمي بهذا الاسم، لأن أسم الإله فيه (إلوهيم)، وقد كتب بعد ذلك بمدة ليست طويلة، في دولة إسرائيل (الدولة الشمالية).
المصدر التثنوي، سمي بذلك، لأن فيه تمت إعادة الشريعة من قبل موسى عليه السلام، يعود الى العصر الثامن قبل الميلاد، على رأي أدموند يعقوب، والى العصر السابع على رأي الأب دوفو.
المصدر الكهنوتي، سمي بذلك لأن الكهنة ورجال الدين هم من ألفه، وقد كتب في عصر المنفى أو بعده، في القرن السادس قبل الميلاد.
وقد تم دمج المصادر الأربعة السابقة بصورة غير محكمة، تظهر تفاصيلها من خلال تكرار الأخبار، مع تعارض واضح في التفاصيل، كما ستقف عليه في طيات قصة الخلق، فنجد في سفر التكوين نفسه قصتين للخلق، الأولى مصدرها الوثيقة اليهوية، والأخرى بحسب الوثيقة الإلوهيمية، وفيهما تناقض فاحش، بالإضافة لمخالفتهما لحقائق العلم.
ومثال التناقض بين القصتين، أن آدم عليه السلام قد خلق في القصة الأولى في آخر أيام الخلق (اليوم السادس)، (فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ... وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا سَادِسًا). 1/ 31. هذا في الإصحاح الأول، بينما نجد الكتاب المقدس يروي أمراً مخالفاً في الإصحاح الثاني، فإن آدم خُلق بحسب القصة الثانية بعد خلق السماوات والأرض، (َأُكْمِلَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَكُلُّ جُنْدِهَا.. وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً). 2/8.
كما أن القصة الأولى في الإصحاح الأول حكت عن خلق حواء مع آدم، (ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ)، بينما القصة الثانية في الإصحاح الثاني حكت عن خلق آدم ثم خلقت النباتات والحيوانات ثم خُلقت حواء!!
من هنا يصدق قول مورس بوكاي: «ودونما ريب، فإن الأسفار الخمسة هي في مجال نقد النص، المثل الأكثر وضوحاً للتعديلات التي أجراها الناس في مختلف عهود تاريخ الشعب اليهودي، وللروايات الشفوية وللنصوص المأخوذة عن الأجيال الماضية». نفس المصدر، ص34.
وأما المخالفات العلمية فحدث عنها ولا حرج، ولكثرتها وكونها مشهورة معروفة عند الجميع حتى المدافعين عن الكتاب المقدس، نكتفي بذكر بعضها:
فبحسب التوراة كان خلق النبات في اليوم الثالث من بدأ الخلق، (قال الله: «لتنبت الأرض عشباً وبقلاً يبزر بزراً، وشجراً ذا ثمر يعمل ثمراً كجنسه، بزره فيه على الأرض». وكان كذلك. فأخرجت الأرض عشباً وبقلاً يبزر بزراً كجنسه، وشجراً يعمل ثمراً بزره فيه كجنسه. ورأى الله ذلك أنه حسن. وكان مساء وكان صباح يوماً ثالثاً).1/13.
بينما كان خلق الشمس في اليوم الرابع، (وقال الله: «لتكن أنوار في جلد السماء لتفصل بين النهار والليل، وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين. وتكون أنواراً في جلد السماء لتنير على الأرض». وكان كذلك. فعمل الله النورين العظيمين: النور الأكبر لحكم النهار، والنور الأصغر لحكم الليل، والنجوم. وجعلها الله في جلد السماء لتنير على الأرض، ولتحكم على النهار والليل، ولتفصل بين النور والظلمة. ورأى الله ذلك أنه حسن. وكان مساء وكان صباح يوماً رابعاً).1/19.
بيد أن ظهور وجود نباتي شديد التنظيم، من دون شمس بل سابق عليها أمر محال علمياً!! ولم يستطع دفع ذلك حتى أكثر المدافعين عن الكتاب المقدس، مثل بنيامين سميث، حيث قال: «إذ كان الكتاب المقدس يقول إن الشمس قد خُلقت في اليوم الرابع بعد خلق الأرض، فإن كل أمل في التوفيق بين سفر التكوين وعلم الفلك سيضيع». Genesis,Science,and the Beginning,p.28
كما أن هناك مخالفة علمية أخرى فظيعة، فالمعروف علمياً إن النجوم قد تكون بعد فترة قصيرة من عمر الكون، 180 مليون سنة بعد الانفجار، وهي سابقة بكثير على تكون الشمس والقمر، فإنهما لم يوجدا إلا في الثلث الأخير من عمر الكون، أي أقل من خمسة مليارات سنة، بينما يصرح الكتاب المقدس أن الله قد خلق الشمس والقمر قبل النجوم، فخلقهما في اليوم الأول (وَفَصَلَ اللهُ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ. وَدَعَا اللهُ النُّورَ نَهَارًا، وَالظُّلْمَةُ دَعَاهَا لَيْلاً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا وَاحِدًا) 1/6، بينما أكمل خلق السماوات والأرض أي النجوم في اليوم السابع، (فَأُكْمِلَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَكُلُّ جُنْدِهَا. وَفَرَغَ اللهُ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ) 2/2.
المخالفة الأخيرة التي بها نختم، فالمعروف علمياً هو أن الأرض قد انفصلت عن الشمس أي هي سابقة عليها، بينما بحسب التوراة تكون الأرض هي المتقدمة فقد خلقت في اليوم الثالث، (وَقَالَ اللهُ: «لِتَجْتَمِعِ الْمِيَاهُ تَحْتَ السَّمَاءِ إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَلْتَظْهَرِ الْيَابِسَةُ». وَكَانَ كَذلِكَ. وَدَعَا اللهُ الْيَابِسَةَ أَرْضًا... وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا ثَالِثًا)، 1/13.
بينما خلق الشمس في اليوم الرابع، (فَعَمِلَ اللهُ النُّورَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ: النُّورَ الأَكْبَرَ لِحُكْمِ النَّهَارِ، وَالنُّورَ الأَصْغَرَ لِحُكْمِ اللَّيْلِ، وَالنُّجُومَ. وَجَعَلَهَا اللهُ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتُنِيرَ عَلَى الأَرْضِ، وَلِتَحْكُمَ عَلَى النَّهَارِ وَاللَّيْلِ، وَلِتَفْصِلَ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ. وَرَأَى اللهُ ذلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا رَابِعًا)، 1/ 19.
في ظل هكذا موروث من الديانات الابراهيمية وخرافات وثنية، اقتحم القرآن الكريم باب بدايات الخلق، وقد جاء بالعجب، وما زال، نكتفي بذكر مثالين:
الأول: توسع الكون: اهتدى العلماء في بداية القرن العشرين الى أن الكون في حالة توسع مستمرة، وقد تم إثبات ذلك أولاً من خلال الحسابات الرياضية، ثم من خلال المراصد الفلكية، على يد هابل، فما عاد هناك شك في هذا الشأن، يقول جورج جاموف في كتاب خلق العالم ص 77، في هذا الصدد «إن فضاء العالم المتشكل من مليارات المجرات في حالة انبساط سريعة، والحقيقة هي أن عالمنا ليس في حالة من السكون، بل انبساطه مقطوع به.. والإذعان إلى أن عالمنا منبسط يهئ المفتاح لخزينة أسرار معرفة العالم لأنه إذا كان العالم الآن في حالة الانبساط فيلزم أن يكون في زمان ما في حالة انقباض شديد».
وقد تكلم القرآن عن هذا المعنى بوضوح في قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)، الذاريات: 47.
الثاني: نشأة الكون من نار لا من ماء: كان الاعتقاد السائد في الأمم القديمة كما في مصر وبلاد ما بين النهرين واليونان، أن أصل الكون من ماء، كما أنه التصور الذي تبناه مؤلفي الكتاب المقدس، كما في الرسالة الثانية لبطرس 3/5: (السماوات كانت منذ القديم، والأرض بكلمة الله قائمة من الماء وبالماء).
العجيب هنا ان القرآن جاء مخالفاً الأسطورة القديمة مبيناً أن السماء كانت دخاناً، قال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)، فصلت: 11. والدخان كما هو معروف الآتي من النار، فهذه الآية ليست فقط خالفت الثقافة السائدة وقت نزولها بل جاءت نقيضاً لها، مع أن المتوقع من النبي صلى الله عليه واله موافقة اهل الكتاب في ذلك خاصة مع حرصه على هدايتهم واستجلابهم.
لن تجد جواب ذلك إلا في مخرجات العلم المعاصر؛ إذ يخبرك أن كوننا ظهر الى الوجود بعد انفجار عظيم حام، المعروف علمياً (Big Bang)، وبعبارة الفيزيائي فرنسيس ب. كسافييه: «يتفق جُل الفيزيائيين والكوسمولوجيين اليوم أن الكون من المحتمل أنه قد تطور عن كرة نارية من المادة مع انفجار أولي (الانفجار الكبير)، والكون منذ ذلك الحين في توسع». God of the Atoms, p.42.
وفي مقابلة، قال البروفيسور الياباني يوشيودي كوزان، مدير مرصد طوكيو: «لقد تضافرت الأدلة وأصبحت الآن شيئاً مرئياً مشاهداً، نرى الآن نجوماً من السماء تتكون من هذا الدخان الذي هو أصل الكون»، العلم وحقائقه، ص130.
فقد شاهد العلماء إن الغازات الناشئة من الانفجار العظيم قد تجمعت وشكلت ما يعرف بالغبار الكوني، الذي يُعد اللبنة الأولى في تشكيل الكواكب والمجرات، لذا رفض البروفيسور كوزان تسمية هذه الظاهرة بالضباب، حيث قال: «الضباب بارد، وأما هذا الدخان الكوني فإن فيه شيئاً من الحرارة، نعم الدخان عبارة عن غازات تعلق فيها مواد صلبة، ويكون معتماً. وهذا وصف الدخان الذي بدأ من الكون، فقبل أن تتكون النجوم كان عبارة عن غازات تعلق فيها مواد صلبة وكان معتماً، وكذلك كان حاراً فلا يصدق عليه وصف الضباب، بل إن أدق وصف هو أن نقول هو دخان»، نفس المصدر.
ويقول الفيزيائي الملحد ستيفن هوكنج: «بإمكانك ان تقول إننا صُنعنا من دخان الانفجار العظيم»، نفس المصدر، ص131. وكذا علماء الفلك العاملون في مشروع (مرصد هيرشل الفضائي): «يتكون الغبار الكوني من جزيئات صغيرة من المواد الصلبة التي تطفو في الفضاء بين النجوم، إنه ليس مثل الغبار الذي تجده في منزلك، وإنما هو أقرب الى الدخان»، نفس المصدر.
من خلال ما تقدم يتضح دقة الوصف القرآني، ومطابقته لآخر الأبحاث العلمية المعتمدة في المجتمع العلمي. وهل يمكن صدور هذه الحقائق في وسط ثقافي كان يعتمد الخرافات والأساطير الوثنية، أو العلوم الأولية الساذجة؟