الجمعة 21 جمادى الأول 1446هـ 22 نوفمبر 2024
موقع كلمة الإخباري
هل ينكر العلم وجود الله؟!
الشيخ مقداد الربيعي
2024 / 06 / 21
0

يحرص ريتشارد دوكنز ـ الملحد المشهور ــ على إظهار جملة من العلماء البارزين بصورة الملحدين، ليوهم القارئ بأن هؤلاء قد أوصلتهم أبحاثهم العلمية لنفي الإله، وكل من أسلم عقله للعلم يصل إلى النتيجة نفسها!

تقوم حقيقة هذه الدعوة على أن الطريق الوحيد المأمون الذي يمكن من خلاله إثبات الأشياء ونفيها في الخارج هو المنهج العلمي التجريبي، الذي يسلكه العلماء التجريبيون في بحوثهم ودراساتهم، وقد صرح بذلك عديد من الملحدين، منهم بتراند راسل: «إن الذي يعجز العلم عن اكتشافه لا يستطيع البشر معرفته». العلم والدين 243. ويقول جي، ي، مورلاند ـ أحد المعاصرين الغلاة في العلم ـ: «العلم وحده عقلاني، العلم وحده يحقق الحق وأن كل شيء آخر مجرد عقيدة ورأي... إذا كان هناك شيء لا يمكن قيامه واختباره بالطريقة العلمية فلا يمكن أن يكون صحيحاً أو عقلانياً». القضية الخالق، لي سترويل 94.

وبما أن الوجود الإلهي لا يمكن إثباته بالطريق العلمي التجريبي، فإنه لا يصح الإيمان بوجوده ولا التسليم بخلقه للكون، يقول بوجين سكون العالم في المركز القومي للتعليم العلمي: «لا يمكن أن نضع إلهاً كلياً في أنبوب اختبار». القضية الخالق، 24.

وكتب قبله ستيوارت مل مقالاً بعنوان: (الإيمان بالله والدين المنزل)، قال فيه: «إن الله لا مكان له في العالم الحديث؛ نظراً لعدم قدرة الإنسان على إخضاع فكرة الإلوهية للتجربة». الإلحاد في الغرب، رمسيس عوض، 206.

العلم وحدوده

لكن انتظر.. هل يستطيع العلم إثبات أو نفي الإله؟ وقبل ذلك ما هو العلم المقصود عند هؤلاء؟

فما لم نعرف المقصود من العلم، سوف لا نعرف نطاقه وحدوده، وبالتالي لا يمكننا الإجابة عن قدرة العلم على الإثبات أو النفي.

العلم في المصطلح الحديث يُراد منه ما يتم إثباته بواسطة الحس والتجربة. وكل ما لم يمكن اختباره وقياسه، فهو خارج عن حدوده. وعلى هذا الأساس يختص العلم بالمحسوسات (الماديات)، ولا يتعداها.

والسؤال عن علاقة العلم بوجود الله هو سؤال فلسفي وعقائدي عميق، وليس سؤالًا يمكن للعلم الإجابة عليه بشكل مباشر. العلم يتعامل مع الظواهر الطبيعية والقوانين التي تحكمها من خلال الملاحظة والتجريب، ويهدف إلى تقديم تفسيرات مبنية على أدلة تجريبية.

بينما قضايا من قبيل وجود الإله أو عدم وجوده ليست مما يمكن إخضاعها للاختبار والتجربة، إذن فالمنهجية العلمية الصحيحة تقتضي أن لا يحكم عليها من خلال المنهج التجريبي بإثبات ولا نفي، لكونها خارجة عن نطاقه.

محاكمة علمية 

وللتأكيد على هذه النقطة المحورية، وفضح مغالطة دوكنز لابد أن نتحاكم لأهم جهة أكاديمية في العالم، لتفصل في هذا النزاع، وهي الأكاديمية الأمريكية للعلوم، وقد صرحوا بالتالي: «العلم هو وسيلة للمعرفة عن العالم الطبيعي، ويقتصر على تفسير العالم الطبيعي من خلال الأسباب الطبيعية، لذلك لا يمكن للعلم أن يقول أي شيء عما هو فوق طبيعي، فمسألة وجود الله أو عدم وجوده هي أمر يقف العلم تجاهها على الحياد». من خلق الله، إدكار اندورز، 70.

وهذا المعنى صرح به كبار العلماء أيضاً، منهم ستيفن جاي جولد، حيث يقول: «العلم لا يمكنه بأساليبه المشروعة أن يتخذ قرارات فاصلة في قضية وجود الله فنحن لا نؤكدها ولا ننكرها، وبصفتنا علماء لا يمكننا التعليق عليها أصلاً». العلم ووجود الله، هل قتل العلم الإيمان بوجود الله؟ جون لينكس، 160.

وبعبارة أخرى العلم المقصود هنا يجيب عن كيفية حدوث الظاهرة، وأما أسئلة من قبيل من فعل الظاهرة، ولماذا فعل، تكون خارجة عن دائرة اختصاصه، وتحتاج إلى حقول معرفية أخرى، كالدين والفلسفة. يشير إلى هذا حامل جائزة نوبل سير بيتر ميداوار في كتابه (نصيحة إلى العالِم الشاب): «إن وجود حدود للعلم شيء واضح من عجزه عن الإجابة على أسئلة من مستوى أسئلة تلاميذ المدرسة الابتدائية، بما يتعلق بأول وآخر الأشياء، أسئلة من نوع: (كيف بدأ كل شيء؟) أو (لماذا نحن هنا؟)، (والغاية من الحياة؟).. ويضيف: بأننا يجب أن نلجأ إلى الأدب التخيلي وإلى الدين للحصول على الأجوبة لهذه الأسئلة». Hannah Devlin. Hawking: God Did Not Greate The Universe. 12 Sep 2010.

ويؤكد فرانسيس كولنز: مدير معهد الجينوم على هذا: «العلم لا حيلة له في الإجابة عن أسئلة من نوع "لماذا جاء الكون إلى الوجود؟"، ما معنى الوجود الإنساني؟" " مالذي سيحدث بعد أن نموت؟"». أقوى براهين جون لينكس، ص70.

ويكتب أوستن فاور: «كل علم يختار منحى من مناحي الأشياء في العالم ويظهر لنا كيف تعمل، وكل شيء يقع خارج المجال يقع خارج مجال هذا العلم، ونظراً لأن الإله ليس جزءً من هذا العالم، وبالأحرى ليس أحد مظاهره، لا يمكن أي شيء يقال عن الخالق ـ مهما كان حقاً ـ ان يصير عبارة تنتمي الى أي نوع من أنواع العلوم». Fan 1997. P. 26ـ/ Is science a religion?. The Humanist. Jan   رفعت الجلسة.

والمقام يذكرني بقصة كتبتها قديماً في استهلالي لإحدى المقالات، عن رجلٍ رأى أحدَ العمّال يبحث عن المعادن تحت الرمال عن طريق جهاز الكشف عن المعادن. فتعجّب من دقة الجهاز وقدرته على التنبؤ بما هو مدفون تحت الأرض من المعادن.

فأخذ نفس هذه الآلة وبدأ يبحث عن أشياء بلاستيكية وخشبية مدفونة تحت الأرض باستخدام هذه الآلة نفسها. فلمّا لم يجد قال: "لا يوجد في هذا الشاطئ خشب ولا بلاستيك لأنني استعملت هذه الآلة التي أثبتت كفاءتها في البحث عن المفقودات فلم أجد شيئاً".

يبدو أن هذا الرجل قد ارتكب خطأ كبيراً في استعمال الآلة تلك في غير موضوعها. تخيل أنه زاد على ذلك من شدة إعجابه بهذه الآلة فقال: لا يوجد في الوجود خشب أو بلاستيك، لأنني كلما استعملت هذه الآلة لم أجد شيئا. وأنا لا أصدق غيرها!!

فخطأ هذا الإنسان ليس في تصديقه لهذه الأجهزة بعد أن أثبتت كفاءتها في الكشف عن المعادن، وإنما خطؤه في أنه قصر المصدر الوحيد للمعرفة على هذه الأجهزة. فهي ـ بالرغم من كفاءتها في مجالها - لا تكشف عن كل شيء في العالم.

دوكنز وأمثاله يرتكبون الخطأ ذاته في معرض حماستهم للعلم التجريبي، ويقول إنه لن يصدق إلا ما رآه بعينيه، وأن العلم التجريبي هو مقصده الأوحد للكشف عن أي حقيقة. وهذا القائل يظلم العلم التجريبي، ويسيء فهم دوره من حيث يظن أنه يتبعه وينصره.

بل أكثر من ذلك، فقد يكون دوكنز متخصصاً في علم الأحياء، إلا أن ذلك لا يؤهله لأبداء الرأي في المسائل الفلسفية، خصوصاً وأن الأفكار التي اشتهر بنقاشها وتستند إليها سمعته ليست مسائل بيلوجية، وإنما أفكار فلسفية بامتياز.

وبعبارة ثانية: نسأل دوكنز هل يعتقد بحجية الدليل العقلي أو لا، فإن آمن بذلك، فالدليل العقلي يؤدي لأثبات إله بكل وضوح، لذا نجد أغلب فلاسفة أوروبا الكبار من المؤمنين، وقد أشار الفيلسوف المعاصر إدوارد فيزر لذلك: «إن المرء لا يجد ذكراً في أي من كتب "الملحدين الجدد" لأي من أعمال الفلاسفة العظام في تاريخ الحضارة الغربية ــ من أمثال ديكارت ولايبنتز ولوك وبيركلي وبويل ونيوتن وغيرهم ــ بأنهم كانوا يعتقدون اعتقاداً راسخاً بوجود الإله، على أسس حجج عقلانية بحتة. بل يجد المرء إنهم ـ الملحدون ـ لا يذكرون لقرائهم شيئاً عن المشاكل الفلسفية الكبيرة التي تواجه مذهبهم العلمي (إن العلم التجريبي هو المصدر العقلاني الوحيد)... وبخلاف الصورة التي تُرسم عادة عن الفلاسفة وتُظهرهم مشككين متطرفين لا علاقة لهم بالدين، فإن الرأي القائل بأن وجود الإله يمكن إثباته عقلياً قد حضي بانتشار واسع بين الفلاسفة إن لم يكن هو الرأي المهيمن». الخرافة الأخيرة، ص44 ـ 45.

وإن لم يكن يؤمن بالدليل العقلي ويقتصر على مخرجات العلم الحسي (التجربة)، فهذه الدعوة نفسها (العلم الحسي هو الطريق الوحيد للمعرفة)، هي مسألة لا يتم إثباتها بالعلم، بل لابد من الاستدلال عليها عن طريق العقل، «إذ إن العلموية أو الوضعية (الاقتصار على العلم التجريبي كمصدر وحيد للمعرفة) هي في حد ذاتها موقف فلسفي لا غير». الخرافة الأخيرة، ص188. لذا كانت هذه الرؤية (العلموية او الوضعية) متناقضة في نفسها.

ويؤكد أستاذ الفيزياء التطبيقية جورج هربرت لونت وجود التناقض نفسه عند الغلاة في العلم المنكرين لوجود الله، فيقول في كلام مفصل: «فمن المعروف في علم الهندسة أننا نستطيع أن نبني كثيراً من النظريات على عدد قليل من البديهيات، (يقصد بالبديهيات الأمور التي لا يمكن اختبارها وإقامة التجربة عليها) أو تلك الفروض التي نسلم بها دون مناقشة أو جدال حول صحتها، فالعلماء يسلمون أولاً بالبديهيات، ثم يتبعون مقتضياتها أو النتائج التي تترتب عليها، وعند إثبات أي نظرية نجد أن برهانها يعتمد في النهاية على مسلمات أو أمور بديهية، ومع ذلك فإن النظريات مجتمعة لا تستطيع أن تقدم دليلاً على صحة بديهية من هذه البديهيات، ولكننا نستطيع أن نختبر صحة هذه البديهيات بمعرفة ما يترتب على استخدامها من اتفاق او تضارب مع التطبيقات العملية والحقائق المشاهدة.

ولاتعتبر صحة النظريات التي تقوم على الأخذ بهذه البديهيات، ولا مجرد عدم مشاهدة آثار للتناقض بين هذه النظريات وبين الواقع والمشاهد، دليلاً او برهاناً كافياً، فالواقع أننا نقبل البديهيات قبول تسليم وإيمان، وليس معنى ذلك بطبيعة الحال أنه تسليم وإيمان أعمى لا يقوم على البصيرة.

وكذلك الحال فيما يتعلق بوجود الله، فوجوده تعالى أمر بديهي من الوجهة الفلسفية، والاستدلال بالأشياء على وجود الله ـ كما في الإثبات الهندسي ـ لا يرمي إلى إثبات البديهيات، ولكنه يبدأ بها، فإذا كان هناك اتفاق بين هذه البديهية وبين ما نشاهده من حقائق هذا الكون ونظامه، فإنه يعد دليلاً على صحة البديهية التي اخترناها، وعلى هذا فإن الاستدلال على وجود الله يقوم على أساس المطابقة بين ما نتوقعه إذا كان هناك إله وبين الواقع الذي نشاهده.

والاستدلال بهذا المعنى ليس معناه ضعف الإيمان، ولكنه طريقة مقبولة البديهيات قبولاً يتسم باستخدام الفكر، ويقوم على أساس الاقتناع بدلاً من ان يكون تسليماً أعمى». الله يتجلى في عصر العلم، 185. 

ويقول البروفيسور أ. ي. ماندير: «إن الحقائق التي نتعرفها مباشرة تسمى الحقائق المحسوسة، بيد أن الحقائق التي توصلنا إلى معرفتها لا تنحصر بالحقائق المحسوسة، فهناك حقائق أخرى كثيرة لم نتعرف عليها مباشرة، ولكنا عثرنا عليه على كل حال، ووسيلتنا في هذا السبيل هي الاستنباط، فهذا النوع من الحقائق هو ما نسميه بالحقائق المستنبطة، والأهم أن نفهم أنه لا فرق بين الحقيقتين، وإنما الفرق هو في التسمية، من حيث تعرفنا على الأولى مباشرة وعلى الثانية بالواسطة، والحقيقة دائماً هي الحقيقة، سواء عرفناها بالمباشرة او بالاستنباط... إن حقائق الكون لا تدرك الحواس منها غير القليل، فكيف يمكن أن نعرف شيئاً عن الكثير الآخر؟ .. هناك وسيلة وهي الاستباط او التعليل. وكلاهما طريق فكري، نبتدأ به بواسطة حقائق معلومة، حتى ننتهي بنظرية: إن الشيء الفلاني يوجد هنا ولم نشاهده مطلقاً». A.E. mander Clearer thinking. 46.  هذا أولاً.

وثانياً، إن طرق إثبات الوجود الخارجي للأشياء لا تقتصر على طريق الإدراك الحسي، وإخضاعه للاختبار والتجربة، وإنما يمكن إثباته عن طريق آثاره وأفعاله، فكثير من الحقائق التي يؤمن بها العلماء التجريبيون ويصدقون بها، ويبنون عليها اكتشافاتهم، لم يتم إثباتها عن طريق الحس والتجربة، يقول واين أولت ـ وهو من المختصين بالكيمياء الحيوية ـ مبيناً تناقض الذين ينكرون وجود الله بناء على ان وجوده لا يخضع للمنهج العلمي التجريبي: «يسلم العلماء بصحة بعض الفروض المقبولة ، والتي ليس هناك سبيل لأدراكها إدراكاً حسياً، فليس هناك من يستطيع أن يدعي أنه رأى البروتون او الإلكترون، ولكن الناس يلمسون آثارهما، وكذلك الحال فيما يتصل بتركيب الذرة وخواصها، وكذلك الحال فيما يتعلق بتركيب الأجرام السماوية البعيدة، وما يفصلها من مسافات شاسعة، مما لا نستطيع أن نخضعه لتجاربنا، أو نقيم الأدلة المباشرة على صحة نظرياتنا وفروضنا حوله. فمن الواضح أن كثيراً من المعلومات التي يحتاجها الإنسان في حياته ويسلم بصحتها، لابد أن يتقبلها ويؤمن بها إيماناً يقوم على التسليم بصحتها، وليس معنى ذلك أنه إيمان أعمى، فهو إيمان يسمح بأن يوضع على محك الاختبار في شتى مواضيعه، فيزداد بذلك قوة وتدعيماً ويستطيع الإنسان أن يمارس مثل هذا الإيمان فيما يتصل بفكرة وجود الله». الله يتجلى في عصر العلم، تحرير جون كلوفرمونسيما، 136.

في النهاية، العلم ليس مخصصًا لإثبات أو نفي وجود الله، وإنما لفهم العالم الطبيعي وتفسير الظواهر بناءً على أدلة وتجارب. مسائل الإيمان والروحانيات تظل مجالًا للفلسفة والدين والتجارب الشخصية.



التعليقات