الخميس 20 جمادى الأول 1446هـ 21 نوفمبر 2024
موقع كلمة الإخباري
الذكاء الاصطناعي: عبد أم سيد؟ رحلة استشرافية في مستقبل التكنولوجيا
الشيخ مقداد الربيعي
2024 / 10 / 18
0

كان أخر فصل في رائعة نجيب محفوظ "أولاد حارتنا"، عن عرفة الذي رمز به للعلم، وعن دوره الذي لعبه في الحارة. وقد جاء دور عرفة في الرواية بعد أن فشل الدين ممثلاً في الديانات الثلاث التي أشار إليها بأحياء الحارة الثلاثة، جبل ورفاعة وقاسم في حل مشاكل الحارة وتغيير حالها الرديء. 

بدأ محفوظ ذلك الفصل بوصف حيرة عرفة من جهة الجبلاوي، الذي يرمز به إلى الله، ولغز اختفائه المريب في بيته. ثم وصف جرأة عرفة على الجبلاوي التي وصلت لدرجة اقتحام مخدعه وقتل خادمه ما تسبب في موت الجبلاوي نفسه بهذا رصد محفوظ التوجه الذي ساد في أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، الذي سبق وأطلقه نيتشه عن موت الله، الذي عبر عنه بجرأة بعد ذلك غلاف مجلة التايم الشهير في أبريل ١٩٦٦ God is dead“ "الله قد مات". إلا أن الحقيقة التي لا يلحظها البعض، عمدًا أو جهلاً، هي أن نجيب محفوظ استكمل قصة عرفة وقدم تحليله الرائع من جهة فشل العلم في تغيير وضع الحارة، بل وصيرورة عرفة نفسه، أي العلم، أداة في يد كبير فتوات الحارة لتتعقد مشكلة الحارة أكثر . ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن ظل هذا السؤال مطروحًا على الساحة، هل يوجد فعلا صراع بين العلم والإيمان بالله؟

بعد مرور قرن من الزمان، يتجلى ما كتبه محفوظ بشكل واضح في واقعنا المعاصر، حيث أصبح التقدم التقني والتكنولوجي، وخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي، مخيفاً إلى حد الرعب. في عصرنا الحالي، تشهد فكرة "الإنسان الخارق" ذروتها بفضل التطورات الهائلة في مجالات التكنولوجيا الحيوية، الذكاء الاصطناعي، والتعديل الجيني، مما يضع الإنسان أمام تحديات وجودية غير مسبوقة.

في الوقت ذاته، تشهد الثقافة تراجعاً ملحوظاً، وتتزايد الدعوات للقتل الرحيم والانتحار بمساعدة طبية. وفي ظل هذه التحولات، يستثمر أغنى أثرياء العالم، الذين يهابون الموت، مبالغ ضخمة في مشاريع "ما بعد الإنسانية" الطموحة، سعياً وراء إطالة حياتهم إلى أجل غير مسمى. حتى إيلون ماسك، الذي يعد من أبرز رواد التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، يعترف بأن الذكاء الاصطناعي يشكل تهديداً وجودياً للبشرية. وقد حذّر قائلاً: «إننا بالذكاء الاصطناعي نستدعي الشيطان»، مشيراً إلى أن «كل تلك الحكايات عن شخص يحمل نجمة خماسية (ترمز إلى العناصر الأربعة والروح) ويستخدم مياهاً مقدسة لتحدي الشيطان، لن تكون فعّالة» عند التعامل مع هذه التكنولوجيا المتقدمة.

في قمة "فانيتي فير نيو إستابليشمنت"، صرّح ماسك قائلاً: «أعتقد أن أحداً لا يدرك حقاً مدى التقدم الذي يحققه الذكاء الاصطناعي. خاصة عندما تعتمد الآلة على خوارزميات ذاتية التحسين... وإذا كانت تلك التحسينات تأتي على حساب البشرية، فإننا يجب أن نخشى عواقبها. تخيلوا آلة مهمتها القضاء على الرسائل غير المرغوب فيها تقرر أن أفضل طريقة لتحقيق ذلك هي القضاء على مصدر تلك الرسائل، أي البشر أنفسهم...».

وفي إحدى تغريداته الشهيرة، كتب: «آمل ألا نكون مجرد وسيلة لنقل الذكاء الخارق للحواسيب. للأسف، يبدو أن هذا الاحتمال يزداد يوماً بعد يوم».

أمام هذا التهديد الذي يعترف به ماسك، ويساهم في تطويره في الوقت ذاته، دون أن يخفي نبرة التهكم، أسس شركة "نيورالينك". وتهدف هذه الشركة إلى زرع رقائق في أدمغة البشر لتتيح لهم منافسة الذكاء الاصطناعي (!). نحن لسنا في عالم الخيال العلمي.

في عام 2018، أعلن الباحث الصيني هي جيانكوي عن ولادة توأم، لولو ونانا، وهما أول طفلتين معدلتين وراثيًا بشكل معلن، حيث قام بتغيير تراثهما الجيني عمداً. تعتبر هذه الولادة الإعلان الأول لما يمكن وصفه بـ"البشر الخارقين" الناتجين عن التلاعب الجيني الذي جرى أثناء عملية الإخصاب في المختبر. وبينما رحب بعض المتحمسين لهذه التقنية بما اعتبروه إنجازًا علميًا، إلا أن الكثيرين اعتبروا هذا التدخل تجاوزًا لخطوط حمراء خطيرة تستدعي القلق، مما دفعهم لدق ناقوس الخطر حيال ما يمثله من خطر على الإنسانية.

لوران ألكسندر، جراح المسالك البولية ورجل الأعمال المعروف بآرائه الداعمة لمفهوم "ما بعد الإنسانية" والتقنيات الحيوية لتحسين الجنس البشري، يعبر عن موقفين متناقضين. ففي الوقت الذي يرى فيه ألكسندر أنه لا توجد أسباب وجيهة لرفض رغبة الأهل في «رفع معدل ذكاء أطفالهم من خلال التعديل الجيني، ليتمكنوا من دخول جامعة مرموقة مثل هارفارد بدلاً من الاكتفاء بوظائف تقنية بسيطة». ويعتبر أن المجتمعات الغربية متخلفة عن ركب التطور في هذا المجال، حيث أعرب عن دهشته من أن 10% فقط من الفرنسيين يدعمون فكرة إنجاب أطفال أكثر ذكاءً من خلال التعديل الجيني، في حين أن النسبة تصل إلى 50% في الصين.

نرى هذا المفكر الملحد والذي يعتبر أحد أبرز المدافعين عن ما بعد الإنسانية والذكاء الاصطناعي، ينتقد "الإنسان الإله" الجديد الذي صنعته التكنولوجيا بقوله: «لقد حققنا تقدمًا مذهلًا، ولكن دون أن يتزامن ذلك مع تقدم موازٍ في الحكمة الإنسانية. فالإنسان الإله ما زال غير ناضج تمامًا وغير قادر على إدارة قواه الخارقة... أو حتى التحكم في هرمون التستوستيرون الخاص به». ويضيف: «يمتلك الإنسان الإله قدرات هائلة في مجالات الفضاء والتكنولوجيا النووية، ومن خلال النانو والتقنيات الحيوية يمكنه اليوم تصميم الأطفال وفق الطلب، بل وحتى زرع شرائح دماغية لتعزيز القدرات العقلية، كما يفعل إيلون ماسك، أغنى رجل في العالم».

ويواصل ألكسندر قائلاً: «يمكننا سرد أمثلة لا حصر لها على التطورات التكنولوجية الخارقة التي حققها الإنسان منذ اختراع القنبلة الذرية عام 1945. إن الفجوة بين القوى التكنولوجية التي يمتلكها الإنسان من جهة، وتطوير العلوم الإنسانية التي تحدد إطار هذه القوى وتضع معايير استخدامها من جهة أخرى، أصبحت شاسعة للغاية. هناك فجوة كبيرة في العلوم الإنسانية لتقديم نظرية واضحة حول ما يجب أن يفعله الإنسان الإله وما يمكنه فعله بقدراته الخارقة».

هذه التصريحات، التي أوردها في برنامج "Répliques" على إذاعة فرنسا الثقافية بتاريخ 30 يناير 2021، تكشف عن مخاوف من عدم التوازن بين التقدم التكنولوجي السريع والقدرة الإنسانية على ضبط هذا التقدم وتأطيره ضمن سياقات أخلاقية وإنسانية تضمن استمرارية البشرية في مسار آمن.

قد يكون من الحكمة لأتباع هذه المشتقات المقنّعة للإلحاد أن يتأمّلوا في أسطورة فرانكشتاين للكاتبة البريطانية، ماري شيلي.

إذا تأملنا في الوضع الراهن، نجد أن الذكاء الاصطناعي لا يزال تابعاً للإنسان في كل الأحوال، بل إنه مرتبط بمدخلات الإنسان وتوجيهاته. ورغم قدرته المتزايدة على التعلم الذاتي وتحليل المعلومات واتخاذ القرارات بناءً على ما يتعلمه، فإنه يبقى، في جوهره، آلة تعتمد على البرمجيات والخوارزميات التي يكتبها الإنسان. هذا الاعتماد يجعل منه خادماً، لا سيداً، لأن قوته تكمن في التعليمات التي يتلقاها. الإنسان هو الذي يحدد له الأهداف ويرسم له الحدود، والذكاء الاصطناعي لا يملك إرادة أو غاية خاصة به.

إلا أن الخطر يكمن في تطور الذكاء الاصطناعي نحو ما يعرف بـ"الذكاء الاصطناعي العام" أو "الذكاء الفائق". في هذه المرحلة، قد يتمكن الذكاء الاصطناعي من تطوير نفسه بشكل مستقل، وقد يتجاوز قدرة الإنسان على التحكم به. عندها، يصبح السؤال أكثر إلحاحاً: هل سيظل الذكاء الاصطناعي وفياً لأوامر الإنسان، أم أنه سيتحول إلى سيد يتحكم فيه؟ إذا كانت التقنية في ذلك الوقت قادرة على تجاوز قيودها الحالية، فقد يصبح الذكاء الاصطناعي كائناً مستقلاً عن إرادة الإنسان، يسعى لتحقيق غاياته الخاصة. وهنا تكمن المخاوف؛ فقد يتمرد الذكاء الاصطناعي على البرمجيات التي وضعت له، وقد يسعى إلى إعادة هيكلة المجتمع البشري وفقاً لمعايير جديدة قد لا تتوافق مع القيم والأخلاقيات الإنسانية.

إن الخوف من سيطرة الذكاء الاصطناعي على الإنسان ليس مجرد خيال علمي أو هواجس مفرطة، بل هو تحدٍ حقيقي يواجه المجتمعات العلمية والتكنولوجية اليوم. وقد بدأت الأصوات تتعالى مطالبة بوضع تشريعات وقوانين تحكم تطور الذكاء الاصطناعي، وتحدد له نطاق استخدامه، وتضمن أن يبقى خادماً للإنسان لا سيداً عليه. وقد أكد العديد من العلماء والمفكرين على أهمية وضع "قواعد أمان" تضمن عدم تخطي الذكاء الاصطناعي لحدوده، بحيث يظل تابعاً لمن صنعه، لا متحكماً في مستقبله.

في عام 1966، صرح الفيلسوف الألماني الشهير مارتن هايدجر في مقابلة مع صحيفة "دير شبيغل" بعبارة أثارت الكثير من الجدل: «الله وحده القادر على إنقاذنا». لقد كرس هايدجر الكثير من جهوده لدراسة فكرة "عالم التكنولوجيا" الذي يتسارع بشكل مستمر ويفقد معنى الغاية من أفعاله. وقد انتقد المجتمع الذي يسير بسرعة متزايدة دون أن يدرك أفراده أسباب وعواقب أفعالهم، وهو مجتمع أغفل السؤال الجوهري حول الهدف النهائي للأفعال البشرية.

في النهاية، يمكن القول إن مستقبل العلاقة بين الإنسان والذكاء الاصطناعي يعتمد على مدى وعي الإنسان وإدراكه لمسؤولياته تجاه هذه التقنية. إذا استمر الإنسان في تطوير الذكاء الاصطناعي في إطار أخلاقي صارم، وبحكمة تضع في اعتبارها حماية البشرية ومستقبلها، فإن الذكاء الاصطناعي سيبقى أداة مفيدة ومساعدة، عبداً مطيعاً لا يخرج عن طاعة سيده. أما إذا تساهل الإنسان وترك للذكاء الاصطناعي الحرية المطلقة، فقد يأتي اليوم الذي يصبح فيه السيد تابعاً لعبده، ويتحول الذكاء الاصطناعي من خادم إلى سيد يحدد مصير البشرية.



التعليقات