الأربعاء 21 رَجب 1446هـ 22 يناير 2025
موقع كلمة الإخباري
نقد شبهة كونت: لا يوجد حب بين الله وعباده، وإنما مصلحة
الشيخ باسم الحلي
2025 / 01 / 09
0

قال اندريه كريسون: أوّل من أثار هذه الدعوى أوجست كونت، حيث يقول: «أليست دعوة الأفراد إلى أن يفكروا دائماً في نجاتهم، وألا يفكروا إلّا فيها وحدها، هي في هذه الناحية عين ما صنعه هلفسيوس في تعاليمه الأخلاقية اللاسماوية؟!. إذا كان أيّ امرىء لن يكون صالحًا، إلّا لخوفه غضب الله أو لطمعه في نعمائه، فإنّه في الحقيقة لن يكون صالحاً ولا محبّاً للخير؛ إنّه لن يعمل ذلك من حبّه لغيره في الحقيقة، بل من أجل حبّه لنفسه. (المشكلة الأخلاقية والفلاسفة، أندريه كريسون، ص: 304).اهـ.

قول كونت: (لن يعمل ذلك من حبّه).

سيأتي الجواب الكامل، لكن لا ندري، هل الأستاذ كونت جاهل بما جاء في القرآن، أم هو مفترٍ، أم مصادر للحقيقة، أم ماذا، حسبنا الآن أنّ القرآن قال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (المائدة: 54). وقال: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران: 31)  كما سيأتي صريح القرآن أنّ أقصى غايات الله تعالى بعباده، وبالعكس، هي -عدا الحب- الرضا، وليس الطمع بالجنة، أو الخوف من النار، باتفاق المسلمين.  

لا تعجب إذا قلنا بأنّ كلام الأستاذ كونت أعلاه، في إطاره الغربي وموروثه الكاثوليكي البابوي، صحيح نوافقه عليه تماماً..؛ إنّ الأستاذ كونت ومن حذا حذوه، يقرأ علاقة الإنسان بإلهه، بناءً على تداعيات موروث الغرب وتاريخ الكنيسة الكاثوليكيّة التي كانت تبيع صكوك الغفران، وعقارات الجنّة؛ استخفافاً بالعقل الإنساني والقيم الأخلاقيّة..

الأستاذ كونت، كان يرى مهازل سطوة قوانين الرهبنة والترهبن، تلك التي أدّت إلى انتشار اللواط والسحاق وكلّ الملذات المحظورة في الكنيسة، وهذا تاريخ البابوات صادح بفضائحه التي يندى لها جبين المسيحيّة الممزقة بالتحريف والتشويه قبل غيرها؛ إذ لم تنهض المسيحيّة لإثبات نسبة الإنجيل إلى المسيح، ناهيك عن نسبة التوراة إلى موسى، إلى اليوم، بخلاف القرآن ؛ إذ لا شك أنّه مقطوع النسبة إلى محمد صلى الله على محمد وآل محمد، مهما حاول البعض تزوير ذلك..

الأستاذ كونت أسيرٌ لموروثه المسيحي خاصّة، والغربي عامّة، لم يصطدمه إلّا نتانة بالوعات طغيان تاريخه الغربي، وجيفة جرائم تراثه الكاثوليكي، في المجتمع والدين والأخلاق، هو محق في الاشمئزاز من رائحة تلك البالوعات اللاأخلاقيّة، تلك التي كفرت بها فطرة الإنسان عبر التاريخ. ولعلّه لم يستوعب جيّداً أنّ كلّ أفكاره في الدين والأخلاق والاجتماع مستوحاة من هذا الواقع المخزي، المفتقر في معاييره التي يزعم سماويتها، إلى أدنى مصداقيّة ثابتة؛ إذ الإنجيل المطروح، محرف المتن، زيادةً ونقصاً، لفظاً ومعنىً، لم يكن يوماً ما معياراً ثابتاً ولا تامّاً لأيّ شيء؛ إذ لا يصلح لذلك..

بخلاف القرآن العظيم في التاريخ؛ فمهما كان هناك طغيان وخزي في تاريخ المتأسلمين (طغاة المسلمين)، لكن لا شك أنّ عظمة القرآن فوق كل ذلك ؛ للقطع بنسبة ألفاظه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله، بلا تحريف ولا زيادة ولا نقيصة، وكذا نسبته المعنويّة، أي: خصوص الأصول القرآنيّة المتفق على معناها بين قاطبة المسلمين وأهل اللسان، الناهضة جدّاً لأن تدحض إشكاليّة كونت كما سيتضح أدناه.

الكيل بمكيالين !!

يشهد لذلك أنّ الأستاذ أندريه كريسون، عرض (في كتابه الفلسفة الأخلاقيّة) إلى مشكلة الأخلاق منذ فلسفة اليونان، مروراً باليهوديّة فالمسيحيّة، المنتقلتين بطريقة ما إلى الغرب، إلى ثورة البروتستانت، وما بعدها حتى يومه هو..، لكن لم نجد ذكراً للقرآن والإسلام والمسلمين؟!!.

ما الذي سوّغ له ولكونت تعميم الطعن لكل الأديان، من دون معرفة رأي القرآن في العلاقة بين الله وعباده؟!. 

آلى الأستاذ كونت على نفسه، كما هو منهج الغرب إلى اليوم، أن لا يعترف بأيّ حقيقة لم تخضع للمختبر الكونتي المشاد على المنطق الوضعي وفلسفته الوضعيّة؟!. 

لماذا، ومن أعطاه الحقّ أن يلغي الإسلام والمسلمين والقرآن من حساباته المختبريّة في المجتمع والتاريخ وحضارات الأديان..

نؤيّد أساتذة الأخلاق الغربيين، كالأستاذ ليفي برول (في كتابه: الأخلاق وعلم العادات) أنّ المبادىء الميتافيزيقيّة المطلقة لعلم الأخلاق، المستقاة من موروث أخلاق الغرب (اليهودي الكاثوليكي البروتستانتي) تلك التي التزمها بعض من سبقه من أساتذة الأخلاق والدين، غير مقنعة بناء على موروثهم البابوي وتراثهم الغربي.. 

لكن ما الذي سوّغ لهم، سيما الأستاذ كونت، أن يعمم هذا كحقيقة مطلقة، مع أنّها (حقيقة التعميم) الكفر الوضعي بعينه؟!. أليست هذه ميتافيزيقا، لم تقم الفلسفة الوضعيّة إلّا على الكفر بها، فلم الكيل بمكيالين؟!!.

مهما شككنا في شيء، لا نشكّ أنّ التقييم الكونتي لبيان عقيدة الإسلام في علاقة الإنسان بالله تعالى، هي طارئة أو عجولة، لا تحظى بالمصداقيّة ولا الواقعيّة؛ إذ من منهم طالع القرآن، واستوعب سيرة الإسلام بجديّة ليقول ما يقول، أو ليقرنه بتراثهم الغربي وموروثهم البابوي؟!.

هذا الأستاذ أندريه كريسون، لم يعرض لعقيدة الإسلام بمنهج موضوعي عادل، فلم يذكر رأي الإسلام والقرآن بإنصاف في كلّ كتابه..؛ كلّ ما تعاطاه أنّه نقل ما قاله كونت ومن سبقه، نقلاً أشبه بنعيق الغراب، لا يفهم منه إلّا شؤم الإزعاج، وسذاجة التشكيك، واستسهال التهمة، بلا أدنى إنصاف ولا موضوعيّة..

مقصود كونت الأساس!!

حسب موروث الكنيسة الكاثولكيّة، والتي هي نتيجة سفاح اليهوديّة والمسيحيّة الغربيين، فإنّ علاقة الإنسان بالله، علاقة غير نزيهة، مجرّدة عن كلّ قيمة منبعها الحبّ والضمير والأخلاق؛ وعليه فلا وجود لما يسمّى بالضمير الأخلاقي العام، ذاك الدائر مدار الشمول المطلق..

استدلّ كونت على هذا -والعبارة لي-: إنّ أكثر من تكلّم في الأخلاق العامة، والضمير الأخلاقي العام، هم الفلاسفة وأهل الأديان؛ فأمّا الفلاسفة، فالمنطق الوضعي، القائم على الملاحظة المختبريّة الماديّة التي لا تعرف الشموليّة، حكم على ما جاء به الفلاسفة بكونه لا يعدو الفرضيات والتأملات (=ميتافيزيقا) لا يشهد لها أيّ واقع مختبري (=علمي مادّي)..

وأمّا ما جاء به أهل الأديان، فعدا كونه في كثير من مفاصله ميتافيزيقا تأمليّة، فهو مصاب بفيروس التناقض الواضح، والتهافت الصارخ..؛ فإنّ الأديان تدّعي، كما هو أجلى مبادئ مسيحيّة الصليب والأقانيم الثلاثة، قيامها على مبدأ الحبّ الذي يجمع بين الله وعباده، الذي بدوره يجمع بين النّاس أنفسهم ليتعايشوا..

وهذا (كما تزعم دعوى كونت) عين التهافت؛ فإنّ حقيقة العلاقة بين الله وعباده، ليست الحبّ والصلاح كما تدعي الأديان، ولا أحكام الضمير كما يزعم رجالاتها، ولا الأخلاق كما هو مسطور في كتبها كالتوراة والإنجيل والدامبادا (كتاب البوذيين) والأوستا (كتاب المجوس) وغيرها، وشموليّة كلام كونت، تُدخل القرآن والإسلام بعنوة، تحت سلطة دعواه..

دعوى كونت العجولة، قائمة على أن العلاقة مع الله، قائمة على الخوف من النّار وألم العذاب، والطمع بدخول الجنة والنعيم؛ ومعه لا وجود لمفهوم الطيّب والصالح والخيّر والمحب، إلّا ما كان تحت سطوة الطمع والخوف، لا ثالث لهما. 

كلّ غرض مزعمة كونت أعلاه، إلغاء الاعتراف بالأخلاق والقيم والصلاح والخير والطيبة في قرائة المجتمع والتاريخ، التي زعمتها الفلسفة والأديان. 

مزعمة كونت وإجماع شوبنهاور!!

ذكر شوبهاور (في كتابه أساس الأخلاق) أنّ للسلوك أنواع خمسة هي على الترتيب من السيء إلى الحسن كالآتي، قال: 

الأوّل: الفضاضة، وهي المبادرة في إيلام الآخرين بلا سبب. 

الثاني: الأنانيّة، وهي تحصيل المنفعة الشخصيّة وإنْ تضرر الآخرون وتألموا.

الثالث: العدالة، وهي تقيّد الأفعال بعدم الإضرار بالآخرين. 

الرابع: الطيبة: وهي: المبادرة لنفع الآخرين.

الخامس: النسك، كالزاهد العازف عن كل الدنيا. 

 ما يهمنا هو دعوى شوبنهاور الإجماع، فقد قال: هناك إجماع عام على نوعين من السلوك: 

الأوّل: الفضاضة. في نظر كلّ إنسان مشؤومة، غير جديرة أن يلتمس لها عذر.

الثاني: الأنانيّة -في أصح الآراء- أعظم ينبوع للرذيلة. (المشكلة الأخلاقية والفلاسفة، أندريه كريسون، ص: 275).

لا أظنّ أنّ هناك اثنان من البشر، يختلفان في هذا؛ فما من شك أنّ الفضاضة على المعنى أعلاه مشؤومة، عين الشريّة والألم، يدل عليه بيقين أنّ قاطبة المجتمعات الإنسانيّة، المؤمنة بالله وغيرها، حتى الأستاذ كونت نفسه، لا يرى الفضاضة إلّا شؤم وألم وشقاء.

اللهم باستثناء، ما لو كان الأستاذ كونت مريضاً نفسيّاً بالمازوخيّة، كالأستاذ جون بول سارتر وصاحبته سيمون دي بفوار ومن على شاكلتهم، ولا أظنّ أنّ المريض النفسي صالح لأن تتقيّم بترهاته الأخلاق والخير والصلاح.

فلنتخيّل لو كان رئيس أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا مازوخياً فضّاً أنانيّاً؟!.

جواب مزعمة كونت!!!

لا وجود -فيما زعم كونت- للحب والقيم والأخلاق والخير والصلاح، كمبدأ ميتافيزيقي، كما يدعّي الفلاسفة وأهل الأديان، وبالتالي فإنّ علاقة أهل الأديان بربهم هي علاقة مصلحة لا غير، فهم يعبدونه طمعاً بنيل نعيم الجنّة، وخوفاً للخلاص من عذاب النار، لا أكثر ولا أقل، ولا وجود لعلقة الحب المزعومة بين الله وعباده.

لكن من أين جاء الأستاذ كونت بهذا، هل قرأ القرآن بإمعان ليزعم هذا الهراء، أم أحاط خبراً بكلّ سنّة النبي محمد صلّى الله عليه وآله، ليفوه بهذه التهمة الثقيلة؟!!.

ربما لم تستطع المجوسيّة والبوذيّة واليهوديّة والمسيحيّة الإجابة عن هذا، لكن أخطأ الأستاذ كونت خطأً فادحاً في مقارنة ذلك بالإسلام..

لا شكّ ولا ريب أنّ الله تعالى في عقيدة الإسلام والقرآن، سيثيب المطيع بالجنّة، ويعاقب العاصي بالنّار، لكن من قال له أنّ أوج العلاقة بين الله وعباده، مقتصرة على نيل نعيم الجنّة، والخلاص من عذاب النّار، بل من قال أنّ غاية الله تعالى وعباده المؤمنين هي هذه؟!.

لم يقل الله، ولا القرآن، ولا النبي، ولا اتفاق المسلمين أنّ العلاقة المقتصرة على ذلك؛ فإنّ القرآن منذ نزوله قبل 1400 سنة إلى اليوم ما زال يؤكّد أنّ غاية الله تعالى، وبالتالي هي غاية المسلم، رضا الله تعالى والحب الجامع بينهما..

الغاية الأقصى رضا الله وحبّه، وليس الخوف والطمع!!

قال الله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ).

وقال ايضاً: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).. (التوبة: 20)..

ثمّ قال سبحانه في الآية التي تليها مباشرة، مبيّناً معنى (أَعْظَمُ دَرَجَةً): (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التوبة: 21-22).

وهما صريحان أنّ عند الله تعالى أمران: 

الأوّل: أعظم درجة، وهو الرضوان، وهذا أعظم درجة من الجنّة. 

الثاني: درجة عظيمة (أجر عظيم) وهو نعيم الجنّة.

وقال أيضاً: (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ) (آل عمران: 15) والآية واضحة صريحة فصيحة، بوجود أمرين عند الله: الجنة والرضوان، وعلى هذا المنوال قوله تعالى: (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ) (الحديد: 20).

الرضوان أكبر من الجنّة وما فيها.

يصرّح القرآن بكلّ فخر، رغم أنف الأستاذ كونت، أنّ الرضوان أكبر من الجنّة، بل لا قياس بينهما؛ فلقد قال سبحانه: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 72).

الملاحظ أنّ الله تعالى، وصف نيل الجنّة بالأجر العظيم، ونيل رتبة الرضوان أعظم، وهنا حكم الله أنّ الرضوان هو الفوز العظيم، والرضوان صيغة مبالغة من الرضا، سيما لو كان بين طرفين، كما هو الحال بين العاشق ومعشوقه، والحبيب ومحبوبه.

وفي بيان أنّ رضا الله سبحانه على عباده، ورضا عباده عنه (=الرضوان) هو الفوز العظيم، وهو الأجر الأعظم قال تعالى: (يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (المائدة: 119).

وهو، بمعونة ما سبق، صريحٌ فصيحٌ أنّ الفوز العظيم، والأجر الأعظم، ليس الجنّة والنّار، وإنّما الرضوان بين الله وعباده؛ فدخول الجنّة وإنْ كان أجراً عظيماً، لكن ليس هو الفوز العظيم.

معنى الرضوان نصّاً وإجماعاً!!

قد أجمع المسلمون، دون خلاف بينهم، إجماعاً مركباً، أنّ الرضوان صيغة مبالغة من الرضا، أو هو الرضا بين الله تعالى وعباده في أقصى درجاته، والحب في أشد مراتبه، فليست العلاقة بين الله وعباده كما زعم كونت، هي المصلحة الماديّة الملجئة للعبادة والتديّن، المجرّدة عن كلّ خير وحب وصلاح لولاها..

أصل الرضوان (سيما الرضا المطلق المتبادل بين طرفين) أشرف الغايات وأعلاها، ولا يضرّ أشرفيّة هذه الغاية الأقصى، وجود الغاية الأدنى الدائرة مدار من تقاصر عن الارتقاء لنيل رتبة الرضوان، وبقي يعبده سبحانه، خوفاً وطمعاً، وقد قال القرآن: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران: 31).

ليس من حق الأستاذ كونت، ومن كان على منواله، أن يلزمنا بما لا نلتزم من العقيدة، وقد ذكر المسلمون جميعاً أنّ الرضوان مرتبة أعلى من الجنّة وما فيها، لن ينالها من عباد الله تعالى إلّا أعلى المسلمين إيماناً بالله، وأكملهم رضاً بقضائه، وأشدّهم حبّاً له، وأقربهم إليه سبحانه.. 

ففي صحيح هارون بن خارجة (صحيح باتفاق العلماء)، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إنّ العبّاد ثلاثة: قوم عبدوا الله عزّ وجل خوفاً، فتلك عبادة العبيد. 

و: قوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الأُجَرَاء. 

و: قوم عبدوا الله عز وجل حبّاً له، فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة». (الكافي2: 84. تحقيق: علي أكبر غفاري).


وفي خبر يونس بن ظبيان قال: قال الصادق جعفر ابن محمد عليه السلام: «إنّ الناس يعبدون عزوجل على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه، فتلك الحرصاء وهو الطمع، وآخرون يعبدونه خوفاً من النّار، فتلك عبادة العبيد وهي رهبة، ولكنّي اعبده حبّاً له عزوجل فتلك عبادة الكرام وهو الامن لقوله عزوجل: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فمن أحبّ الله عزوجل أحبه الله، ومن أحبه الله عزوجل كان من الآمنين».

 تفسير قول أمير المؤمنين علي عليه السلام: (ما عبدتك طمعاً...)

قال المجلسي في بحار الأنوار: (قال أمير المؤمنين وسيد الموحدين صلوات الله عليه: ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك) (بحار الأنوار 67: 186).

لا يعني قول أمير المؤمنين عليه السلام أعلاه، إلّا رتبة الرضوان، وهي تعني فيما تعني، على ما أوضح القرآن: الفوز العظيم؛ ليكون مقصود الأمير عليه السلام: لا أطلب منك إلّا رضاك؛ لأنّ نيل رضاك (=الفوز العظيم) أكبر من نيل الجنّة، وأكبر من نيل الخلاص من النّار (=الأجر العظيم).

خطأٌ في تفسير آية الرهبة!!

قال تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء: 90).

ربما يتوهم منها دلالتها على دعوى كونت، وأنّ المدار هو الرغبة والرهبة، أي: الخوف من النار والطمع في الجنة..

وهذا خطأ محض؛ فزكريا ويحيى عليهما السلام، في عقيدة القرآن، وضمان الرحمان، في أعلى مرتب الجنان؛ فتعيّن أنّ الرهبة والرغبة يدوران على ما هو أكبر من ذلك، وليس هو غير الرضوان؛ كونه أكبر من الجنة.

وأيضاً فقوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) (الاسراء: 57). لا ينافي ما سبق فإنّ رجاء نزول الرحمة، والخوف من العذاب، وعبادة الله لأجل ذلك، غاية حقيقيّة للمؤمن، وهي كما قال القرآن: (أجرٌ عظيم)، لكنها كما قال القرآن ليست هي الغاية الأقصى (الفوز العظيم) لصريح القرآن أنها الحب والرضوان.

بلى أغلب الخلق، ليسوا كيحيى وزكريا والأنبياء، لن ينالوا الرضوان، إلّا من طريق دخول الجنّة، ولن يقف قضاء الله سبحانه، فيهم بعد دخولهم الجنّة، حتى يحقق فيهم غايته القصوى بزيادة فضله إلى أعلى من مجرّد دخول الجنّة، وهو الرضوان، كما قال سبحانه: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)  (النساء: 173) 



التعليقات