أخيرا وعلى مضض رضخ لإرادة أبنائه، فأزال من صالة الضيوف شهاداته التقديرية وصور تكريمه الرفيعة التي حصل عليها خلال مسيرته العلمية والثقافية، بذريعة انها غير ملائمة للحداثة التي تفترض موضتها جدران خالية الا من اكسسوارات تجميلية. ومع انه لم يقتنع بمبررات الأبناء، وحاول ثنيهم عما يريدون، فلطالما افتخر بها، ودلل على نجاحاته من خلالها، وكثيرا ما يتأملها، فوراء كل صورة حكاية طويلة تعود بالذاكرة الى دخان الفوانيس واللمباة الذي ملأ أنفه وفمه، ولسعات البعوض التي أدمت جسده، ما أن يبصرها حتى يتسلل الفرح الى ثنايا روحه، كماء بارد في نهار قائظ يشعر بمساراته أينما حلت في الشرايين، لكنهم لم يترددوا بالتصريح انها تفقد الصالة جماليتها، غير آبهين لخلود اسمه الذي قد يحتاجونه يوم ما للقول: هذا أبونا .
***
يجهل الأبناء كم كانت تلك المسيرة شاقة، فقد أبصروا النور وجميع احتياجاتهم لباها الأب العظيم والتي اختلط فيها عرق الجبين برماد المواقد، ما كان يريد لهم التعرض للعسر، او أن يعانوا عقد نقص تضعف من ثقتهم بالنفس، او تحول دون ارتقائهم لما يتطلعون، فضاعف جهده، وواصل ليله بنهاره، واقتصد بنومه، ليطول يومه، ولكن ماذا يفعل للموضة التي ساوت تاريخه بالأرض كبلدوزر متوحش لا يفرق بين حجر وشجر .
لا يعير الأبناء كثير اهتمام لحكاية فوزه بالمركز الأول في محفل كبير حضرته شخصيات من مختلف أرجاء الدنيا، او حكاية تلك الصورة التي توثق وجود أبيهم مع شخصية معروفة علميا، بل يتلمس في وجوههم بأن كل ما تحقق لا جدوى منه، فلا العلم او الثقافة بنافعة في أيامنا التي يعلو فيها صوت المال على كل صوت، وهالة المنصب على كل هالة. بينما لا يريد من المال أكثر من حاجته، ولا تغريه مناصب مهما علت .
حاول أن يجد لأبنائه سبعين عذرا، فقد خلقوا لزمان غير زمانه، صار فيه خلو الجدران أجمل من التوثيق للعلم او الافتخار بالثقافة، هكذا يرى من تنقلهم خطوط النقل من باب البيت الى باب الجامعة، بينما كان عليه ليواصل دراسته أن يمشي على الاقدام سبعة كيلو مترات ذهابا ومثلها ايابا، ويتخذ من الدرب الترابي سبورة لحل مسائله الرياضية، وأن يتحمل تسلل البرد القارص الى عظامه، فملابسه المتهالكة لا تقيه لسعاته او تحميه من مطر قد يصادف هطوله طول الطريق .
لا ضير الحياة تغيرت وعليه تلبية رغباتهم، او الاستسلام برضاه قبل أن تُزال انجازاته قسرا من جدران يريدونها خالية الا من علامات حداثتهم، فوجوده على الجدران لا يضيف لحياتهم معنى، معانيهم مختلفة عن معانيه، وربما يقولون في سرهم: لقد هدر الآباء أعمارهم بما لا طائل منه .
قد يكون لهم الحق فيما يذهبون، فما عاد العلم بكاف للوصول الى منصب رفيع، او لبناء بيت في أماكن تتلاطم قربها الأمواج، او لشراء سيارة فارهة، او للجلوس في مقدمة الصفوف، فيمكن لذلك التحقق من دون الحاجة للعلم او الثقافة.
انظروا حولكم، وتأملوا بمن يدير واقعنا ويتحكم بحياتنا، ستجدون ان أكثرهم ممن لا حظ لهم من علم او ثقافة، سطحيون لا عمق لهم، لم تعد الثقافة سلما للعلو، المظاهر هي الحاكمة، فقد صارت الناس تستقبل بالأحضان على المظاهر والثراء والمناصب، وآذانهم صاغية لما يقولونه، مع ان التافه من القول هو الطاغي على كلامهم، فما جدوى الثقافة وما ضرورة العلم؟، هكذا انتهى كلام صاحبنا مع نفسه، فنقل صوره وشهاداته الى غرفة في مؤخرة البيت لا يدخلها أحد سواه، وبات ينظرها من سريره، ويبحر في عوالمها لوحده، وفي لحظة غضب اقتحم الصالة وصرخ بوجه أبنائه: انتبهوا، لا مدخل للنهوض الا بالعلم والثقافة .