الجمعة 31 رَجب 1446 16هـ 31 يناير 2025
موقع كلمة الإخباري
أول ما ابتلي به العراقيون بعد إسقاط النظام البعثي عام (2003) هي الأعمال الإجرامية والعزف على وترِ الطائفية، من قبل جهات خارجية تمتلك أدواتها في الداخل والمتمثلة بالعصابات الإرهابية
كيف نجحت المرجعية العليا ومؤسساتها بردع الطائفية والفكر المتطرّف؟
خاص ـ كلمة | سراج علي
2025 / 01 / 30
0

قبل عـامين أصدرت منظمة الأمم المتحدة تقريراً باللغة الإنجليزية، أكدت فيه أن المؤسسات الدينية في العراق تمثل كيانات مهمة للعمل على الوقاية من التطرّف العنيف ومكافحته، وتطرقت فيه إلى المشهد الديني المتنوع باعتماد منهجية بحث متعددة الطرق، وأشّرت مدى إمكانية مشاركة رجال الدين في تحقيق ذلك.

وحمل التقرير على صفحته الأولى (الغلاف) صورة لمرقد الإمام علي (ع) في مدينة النجف، في إشارة إلى دور هذه الأماكن الدينية المقدسة لدى الطائفة الشيعية في العراق والعالم، وكذلك لوجود المرجعية الدينية العليا ودورها في إشاعة ثقافة التعايش وبناء السلام ونبذ التفرقة والطائفية، وضمان حماية جميع المكونات الدينية في العراق.

وجاء تقرير المنظمة بعد الزيارة التاريخية لبابا الفاتيكان فرنسيس للعراق ولقائه المرجع الديني الأعلى للشيعة السيد علي السيستاني في بيته بمدينة النجف بتاريخ (6 آذار/ مارس 2021)، وقد أكّد الأخير على الدور الذي تلعبه الزعامات الدينية والروحية الكبيرة في الحدِّ من مآسي الشعوب المقهورة.

كما أكّد المرجع الأعلى "أهمية تضافر الجهود لتثبيت قيم التآلف والتعايش السلمي والتضامن الإنساني في كل المجتمعات، مَبْنياً على رعاية الحقوق والاحترام المتبادل بين أتباع مختلف الاديان والاتجاهات الفكرية".

وأكد السيد السيستاني حينها بأن يعيش المواطنون المسيحيون كسائر العراقيين في أمن وسلام وبكامل حقوقهم الدستورية، وأشار إلى "جانبٍ من الدور الذي قامت به المرجعية الدينية في حمايتهم وسائر الذين نالهم الظلم والأذى في حوادث السنين الماضية، ولا سيما في المدة التي استولى فيها الإرهابيون على مساحات شاسعة في عدة محافظات عراقية، ومارسوا فيها أعمالاً إجرامية يندى لها الجبين".

وهنا لفت السيد السيستاني إلى ما يتسبّب به العنف والتطرف بجميع أشكاله بجانب كبير من هذه المآسي، حيث تخوض جماعات مسلّحة متنوّعة المشارب والألوان والجغرافية هجماتها وحروبها العبثية بحق المدنيين الأبرياء.

وقد عانى العراقيون خلال فترات عديدة من أزمة الطائفية وانتشار ثقافة التطرّف والقتل المجاني، وربّما كان النصيب الأكبر من هذه الأضرار هم أبناء المكوّن الشيعي ويأتي المسيحيون بعدهم بالدرجة الثانية.

وانطلاقاً من هذه المقدّمة الضرورية، يفتح موقع (كلمة) هذا الملف لمعرفة ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات الدينية بشكل عام والشيعية بشكل خاص في الوقاية من التطرف العنيف، وما هو الدور الذي تلعبه هذه الجهات بالفعل؟ مع التطرّق لنماذج مهمة في مواجهة العنف والتطرّف الذي يتعرض له أبناء المكون الشيعي خاصةً والمسلمين وأبناء الطوائف الأديان الأخرى عامة.

تغيير العام 2003 وموجة الطائفية

قبل الحديث عن هذه الفترة التاريخية المهمة من حياة العراقيين؛ فإن مراكز بحثية عديدة أشارت إلى أنّ أزمة الطائفية في العراق ليست وليدة هذه الفترة، وإنّما كانت هناك نعرات طائفية ومحاولات بائسة لزرع الفتنة بين الطوائف والمكونات العراقية.

واعتبرت مراكز الأبحاث بأن "إعلان آية الله العظمى السيد محسن الحكيم زعيم المرجعية الشيعية حرمة قتل الأكراد في الوقت الذي كانت الدولة العراقية تقاتلهم في الستينيات مثالاً على ذلك".

كما أشارت إلى أنّ "النظام البعثي بقيادة صدام حسين سعى إلى خلق مثل هذه الفتنة بين أبناء الشعب العراقي، كما عمل نفسه بسياسة طائفية في مواجهة أبناء المكون الشيعي ودفعه ذلكَ إلى قتل مئات الآلاف منهم ودفنهم في مقابر جماعية".

ولذا كانَ العراق ولا يزال ساحةً للأنشطة الطائفية والأعمال والهجمات المتطرفة، ولكن منذ العام (2003) حاولت جماعات إرهابية ترتبط بأجندة خارجية أن تفرض وجودها في البلد، من خلال الهجمات الإرهابية والأعمال الإجرامية، بدءاً من تنظيم القاعدة الإرهابي الذي نشط بصورة كبيرة بعد إسقاط النظام البعثي وصولاً إلى العامين (2006 و 2007) ومن ثم إلى احتلال جزء من الأراضي العراقية من قبل عصابات داعش الإرهابية عام (2014).

وبحسب الباحثَين العراقيين خالد موسى وعهود سامي فإنّ "أول ما ابتلي به العراقيون بعد إسقاط النظام البعثي عام (2003) هي الأعمال الإجرامية والعزف على وترِ الطائفية، من قبل جهات خارجية تمتلك أدواتها في الداخل والمتمثلة بالعصابات الإرهابية".

وأكّدا بأنّه "لولا دور المرجعية الدينية العليا وحكمتها في مواجهة الطائفية والدعوات للاقتتال لأصبح البلد في خبر كان".

ويظهر من التتبّع التاريخي للأعمال العنيفة التي حصلت ما بعد العام (2003)، كيفَ أرادت بالدرجة الأولى إشعال فتيل الطائفية بين أبناء المكونين الشيعي والسني، لتحقق الجماعات الإرهابية أهدافها.

وقد ازدادت حدّة العمليات بعد تصريحات الإرهابي أبو مصعب الزرقاوي الذي دعا إلى الحرب على الشيعة في (أيلول/ سبتمبر 2005)، وأصبح بذلك يشكل تحدياً كبيراً أمام العراقيين.

ووصف الزرقاوي الشيعة بأنهم "العقبة التي لا يمكن التغلب عليها، والثعبان الكامن، والعقرب الماكر الخبيث" الذين لا يمكن التعامل معهم إلا "بجرهم إلى المعركة". 

وقد استغل الزرقاوي وأمثاله السياسات الأميركية التي تبنتها بعد الغزو والتي بنيت على افتراض الانقسامات الطائفية، فضلاً عن الأجندة الطائفية لبعض العناصر في الدولة العراقية الناشئة.

وفي إزاء مثل هذه التهديدات الخطيرة، تحرّكت مجموعة من العراقيين من أهالي الكوفة لتوجيه استفتاء إلى السيد السيستاني تطلب رأيه في كيفية الرد على الزرقاوي وأتباعه، بعد أن أصبحت حرباً مكشوفة، وعن الموقف الشرعي، فأجابهم بضرورة ضبط النفس وعدم الرد، محذراً من الفتنة، كما أوصاهم بالتعاون مع الأجهزة الأمنية في مكافحة الزمر الإرهابية.

وذكر السيد السيستاني في جوابه الذي نشره مكتبه في النجف بتاريخ (27 أيلول/ سبتمبر 2005) بأن "الهدف الأساس من إطلاق هذه التهديدات ومما سبقها وأعقبها من أعمال إجرامية استهدفت عشرات الآلاف من الأبرياء في مختلف أنحاء العراق هو إيقاع الفتنة بين أبناء هذا الشعب الكريم، وإيقاد نار الحرب الأهلية في هذا البلد العزيز للحيلولة دون استعادته لسيادته وأمنه، ومنع شعبه المثخن بجراح الاحتلال وما سبقه من القهر والاستبداد من العمل على استرداد عافيته والسير في مدارج الرقي والتقدّم".

وأكّد بأن "معظم العراقيين – ولله الحمد - على وعي تام بهذه الأهداف الخبيثة، وسوف لن يسمحوا للعدو الطامع بتحقيق مخططاته الإجرامية، مما نالهم من ظلم وأذى وأُريق على ثرى بلدهم الطاهر من دماء زكية لأهليهم وأحبتهم".

وبحسب العديد من المراقبين ممن تحدّثوا لـ (كلمة) عن هذه المرحلة التاريخية الحساسة والخطيرة من تاريخ العراق، أشاروا إلى "الدور الذي لعبته المرجعية الدينية العليا في النجف والعتبات المقدسة في مواجهة الأخطار الإرهابية وما يترتّب عن هجماتها ورسائلها الداعية للطائفية والعنف والاقتتال الأهلي".

وأوضحوا بأنّ "تنظيم القاعدة كان الشرارة الأولى التي أرادت اندلاع الحرب الطائفية الأوسع في البلد؛ وخصوصاً بعد إقدامها على تفجير مرقد الإمامين العسكريين (ع) في سامراء"، مشيرين إلى أن "المرجعية العليا تصرّفت حينها بحكمة ودراية وعرفت أنّ المقصود من هذه العملية ليس المرقد الديني بقدر ما أنّه يستهدف أجيالاً من المسلمين العراقيين من أبناء المكونين الشيعي والسني".

ومما لا يمكن إغفاله أنّ التنظيمات الإرهابية والجماعات المتشدّدة التي عرّضت العراقيين وخصوصاً من المكون الشيعي للقتل، تتبع المذهب السني ولكن بصورته المتطرفة، وأرادت من هجماتها الدموية أن يعمد أبناء الشيعة للاقتصاص من كل سنيّ في العراق.

وتؤشّر ذلك الباحثة ليديا خليل في مقال لها باللغة الإنجليزية نشره معهد لوي للأبحاث (Lowy Institute) بتاريخ (6 كانون الأول/ ديسمبر 2019) وترجمه (كلمة)، قالت فيه: إن " وعندما عمل تنظيم القاعدة في العراق على تأجيج الصراع الطائفي الأهلي من خلال هجماته الوحشية التي أوقعت أعداداً كبيرة من الضحايا في أماكن العبادة الشيعية، كان السيستاني هو الذي نصح أتباعه الشيعة بعدم الانتقام".

تفجيرات سامراء والفتنة الكبرى

وبعد اعتداء الجماعة الإرهابية على قبة المرقد العسكري، كان بيان الإدانة والاستنكار الصادر عن المرجعية الدينية العليا قد أشّر غاية تلك الجماعة من عمليتها الإجرامية.

وجاء في بيان المرجعية الصادر بتاريخ (شباط/ فبراير 2006): إن الكلمات قاصرة عن إدانة هذه الجريمة النكراء التي "قصد التكفيريون من ورائها إيقاع الفتنة بين أبناء الشعب العراقي ليتيح لهم ذلك الوصول إلى أهدافهم الخبيثة".

في حين شدّد بيانها على العراقيين جميعاً وهم يعيشون حال الصدمة والمأساة للجريمة بأن "لا يبلغ بهم ذلك مبلغاً يجرّهم إلى اتخاذ ما يؤدي إلى ما يريده الأعداء من فتنة طائفية طالما عملوا على إدخال العراق في أتونها".

ومن هنا يظهر أن المرجعية العليا تنبّهت مبكراً لمثل هذه الأحداث والأعمال الإجرامية وما تخفي الجماعات الإرهابية وراء عصابتها السوداء التي أعمت عيونها وعقلها وراحت تقتّل الأبرياء في البلد على أساس طائفيّ.

بل عندما سُئل عما إذا كان يخشى اندلاع حرب أهلية في العراق، كان السيد السيستاني يجيب قائلاً: "لا نخشى مثل هذه الأمور إذا لم تتدخل الأطراف الأجنبية في الشؤون العراقية".

وتشير الباحثة كارولين صايغ إلى أن السيد السيستاني "كان يعارض فكرة أن الغرباء قد ينقذون العراق أو يستطيعون ذلك، وكان حريصاً على ربط العنف بالاحتلال، الذي قال إنه يتحمل كل المسؤولية عما يشهده العراق".

وتماشياً مع وصفه للهجمات الطائفية بأنها جرائم، كان السيد السيستاني يولي تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين أقل قدر ممكن من الاهتمام في خطبه وتصريحاته. وكان يفضل الإشارة إلى أفعاله باعتبارها "تهديدات" من "جماعة منحرفة".

وفي دراسة أعدّها مركز (Project on Middle East Political Science) وترجمها موقع (كلمة) ذكر فيها أن السيد السيستاني "عمل على تقديم بديل للخطاب الطائفي الذي لجأ إليه كثيرون لتفسير هذه الأحداث. لقد تحدث كثيراً عن تاريخ العراق الطويل والمعقد. وقال إن التقليل من أهمية أو إغفال حقيقة التعايش بين السنة والشيعة في ذلك التاريخ كان جهلاً محضاً".

وتابع بأنه "بدلاً من ذلك، أكد على سنوات من التعاون بين الطوائف في الدفاع عن البلاد عندما كانت تتعرّض للهجوم، وكرر مرات عديدة أن العراقيين من طوائف مختلفة كانوا أخوة في الإنسانية وشركاء في الوطن الأم".

وعن تلك الفترة الحرجة من تاريخ العراق، اعتبرت منظمات دولية ووسائل إعلامية أن "العنف الطائفي الذي شهده العراق كانت له دوافع واضحة، أو كان موجهاً نحو جماعة دينية معينة".

ومن أجل الحدّ من هذه الظاهرة التي كادت أن تفتك بالعراقيين وتؤدي إلى صراع وحرب أهلية لا تبقي ولا تذر، كانت الحلول تنطلق من هناك من مدينة النجف حيث المرجعية الدينية العليا.

بتاريخ (3 شباط/ فبراير 2007) أصدر مكتب السيد السيستاني بياناً حول الوحدة الوطنية ونبذ الفتنة الطائفية.

وذكر بيان المرجعية بأن "الأمة الإسلامية تمر بظروف عصيبة وتواجه أزمات كبرى وتحديات هائلة تمس حاضرها وتهدّد مستقبلها".

وتابعت بأن "الجميع يدرك ـ والحال هذه ـ مدى الحاجة إلى رصد الصفوف ونبذ الفرقة والابتعاد عن النعرات الطائفية والتجنّب عن إثارة الخلافات المذهبية"، موضحة أن "الخلافات التي مضى عليها قرون متطاولة ولا يبدو سبيل إلى حلّها بما يكون مرضياً ومقبولاً لدى الجميع فلا ينبغي إذاً إثارة الجدل حولها خارج إطار البحث العلمي الرصين، و لاسيما انها لا تمسّ أصول الدين وأركان العقيدة (....)".

وشدّدت بأنه "ينبغي لكلّ حريص على رفعة الاسلام ورُقيّ المسلمين أن يبذل ما في وسعه في سبيل التقريب بينهم، والتقليل من حجم التوترات الناجمة عن بعض التجاذبات السياسية؛ لئلا تؤدي الى مزيد من التفرّق والتبعثر، وتفسح المجال لتحقيق مآرب الأعداء الطامعين في الهيمنة على البلاد الإسلامية والاستيلاء على ثرواتها".

كما أشارت المرجعية أيضاً إلى أن "هناك من يحاول تكريس الفرقة والانقسام العميق وتعميق هوّة الخلافات الطائفية بين المسلمين"، ومنها كما ذكرها البيان "بعض وسائل الإعلام ـ من الفضائيات و مواقع الانترنيت والمجلات و غيرها ـ التي تنشر بين الحين والآخر فتاوى غريبة تسيء الى بعض الفرق والمذاهب الاسلامية وتنسبها الى سماحة السيد دام ظله في محاولة واضحة للإساءة الى موقع المرجعية الدينية وبغرض زيادة الاحتقان الطائفي وصولاً الى أهداف معينة".

ولفت البيان إلى أن "ما أوصى به السيد السيستاني أتباعه ومقلّديه في التعامل مع إخوانهم من أهل السنة من المحبة والاحترام، و ما أكّد عليه مراراً من حرمة دم كل مسلم سنياً كان أو شيعياً و حرمة عرضه وماله والتبرؤ من كل من يسفك دماً حراماً أيّاً كان صاحبه، كل هذا يفصح بوضوح عن منهج المرجعية الدينية في التعاطي مع أتباع سائر المذاهب ونظرتها إليهم، ولو جرى الجميع وفق هذا المنهج مع من يخالفونهم في المذهب لما آلت الامور الى ما نشهده اليوم من عنف أعمى يضرب كل مكان و قتل فظيع لا يستثني حتى الطفل الصغير والشيخ الكبير والمرأة الحامل".

ولم يكن هذا البيان لوحده الذي صدر عن المرجعية العليا ما يؤكّد على موقفها من الأزمة الطائفية ونظرتها للعراقيين على اختلاف طوائفهم وأديانهم ومكوّناتهم، بل صدرت منها العبارة التاريخية التي يذكرها وجهاء السنة قبل الشيعة "لا تقولوا أخوتنا السنة بل أنفسنا السنة".

داعش.. الخطر الأكبر على العراق والعالم

وفيما بعد وبعد أن دخل العراق في مرحلة جديدة من الخطر الطائفي والتهديد الإرهابي المتمثل بعصابات داعش الإرهابية؛ أصدرت المرجعية الدينية العليا فتواها التاريخية لحمل السلاح والتطوّع في صفوف القوات الأمنية لصد الخطر المحيط بجميع العراقيين.

كانت فتوى الدفاع الكفائي التي أصدرتها المرجعية في (حزيران/ يونيو 2014) تمثل الخيمة الكبيرة التي ضمت جميع المكونات العراقية بلا تفرقة، حيث دعت إلى الدفاع عن أبناء الوطن والأرض والمقدسات، واعتبر الكثير من المراقبين بأن هذه الفتوى لم تحفظ فقط العراقيين وإنما جنّبت العالم مخاطر داعش وطموحاته التوسعية.

وكانت توصيات المرجعية الدينية العليا تتوالى على لسان ممثليها في مدينة كربلاء وخلال خطبة الجمعة من الصحن الحسيني؛ بالدفاع عن حرمة جميع العراقيين بلا استثناء.

بتاريخ (3 حزيران/ يونيو 2016) ألقى ممثل المرجعية الدينية في كربلاء الشيخ عبد المهدي الكربلائي خطبة الجمعة من الصحن الحسيني، والتي حملت توصياتها للمقاتلين الملبين لفتوى الدفاع الكفائي.

وجاء في أحد مضامينها "الله الله في النفوس فلا يستحلن التعرض لها بغير ما أحله الله في حال من الأحوال وما أعظم الخطيئة في قتل النفوس البريئة وما أعظم الحسنة بوقايتها وإحيائها"، موضحاً ان “الشريعة الاسلامية ومن خلال الآيات القرآنية الكريمة والاحاديث النبوية اهتمت اهتماماً شديداً بحفظ وصيانة دم الانسان بصورة عامة، إلا في حالات معينة أباحت فيها ذلك ومنها الدفاع عن الدين والمقدسات والوطن والعرض والمال".

ونبهت المرجعية الى "حرمة التعرّض لعموم المواطنين من غير المقاتلين سواء أكان بالتعرض لأرواحهم او لأموالهم"، ولفتت الى أن "الحرمة تتأكد للضعفاء ومن هؤلاء كالشيوخ والنساء والصبية حتى لو كان هؤلاء المواطنون من ذوي الاشخاص المقاتلين كآبائهم وأبنائهم وإخوانهم طالما أنهم ليسوا في حال القتال".

يكتبُ الباحث حسن عباس في دراسته التي نشرها على موقع (New Lines Institute) وترجمها (كلمة): "سوف يتذكّر الناس دائماً أنّ السيد السيستاني كان رجلاً شجّع الانسجام الطائفي ودافع عن السيادة العراقية، وسوف يكون إرثه مؤثراً للغاية بحيث لا يمكن تجاهله".

في حين ترى الباحثة كارولين صايغ في بحث مطوّل لها باللغة الإنجليزية ترجمه (كلمة) أن "الرسالة الرئيسية التي وجهها السيد السيستاني بشأن الطائفية، والتي استمدها من حجم تصريحاته حول هذه القضية، هي أن الهوية العراقية يجب أن تكون شاملة لجميع الطوائف بدلاً من تحديدها من خلال اتفاق تقاسم السلطة الذي يفضل طائفة واحدة على حساب الآخرين".

وأضافت، "لقد سُئِل السيستاني مراراً عما إذا كان ينبغي للشيعة أن يحظوا بمكانة خاصة في الحكومة. وكان موقفه، الذي أصبح ثابتاً بمرور الوقت، هو أن "الشيعة يريدون ما يريده كل العراقيين، أي الحق في تقرير المصير". وكرر أن وضعهم في الدولة "ليس خاصاً"، ولا يختلف عن بقية السكان. ورغم أنه قد يبدو من الطبيعي أن يهتم آيات الله العظام بالشيعة باعتبارهم ناخبين لهم، فإن السيستاني أوضح أنه "يمثل مصالح ليس الشيعة فحسب، بل ومصالح كل العراقيين في تعزيز الديمقراطية التي تركز على العراق".

ويظهر لأعمال العنف والتطرّف أنها موجهة نحو جماعية دينية أو عرقية دينية معينة، على غرار الجرائم التي ارتكبتها ما تُعرف بالدولة الإسلامية في العراق وسوريا (داعش) الإرهابية.

وتعد هذه المرحلة التاريخية من حياة العراقيين هي الأخرى من أخطر ما حصل في البلد، وظهرت عمليات الإرهابيين وجرائمهم بحق أبناء المكون الشيعي ومن ثم أبناء المكونين المسيحي والإيزيدي، حجم المؤامرة التي كانت تُحاك للبلد.

وبصعود تنظيم ما يُعرف بـ (الدولة الإسلامية في العراق وسوريا ـ داعش) أعاد السيد السيستاني ضبط خطابه للتركيز على التهديد الجديد، وأشار إلى أن عناصر داعش الإرهابية "مجموعة من الغرباء" أو "المنحرفين" الذين يستهدفون أي شيء تصل إليه أيديهم" بهدف "قتل كل من يختلف معهم في الرأي".

كما اعتبر أن الرد "يجب أن يكون من مسؤولية الجميع"، موصياً السياسيين بأن "يتجاوزا الأنا والغيرة والتنافس".

أما نداءه الخاص وفتواه التاريخية (فتوى الدفاع الكفائي) فكانت موجّهة للشعب العراقي بشكل خاص حيث جاء في نص الفتوى التي تلاها ممثل المرجعية الشيخ عبد المهدي الكربلائي أن "جميع المواطنين القادرين على حمل السلاح ومحاربة الإرهابيين دفاعاً عن بلدهم يجب أن يتطوعوا وينضموا إلى قوات الأمن".

وأكّد العديد من المراكز البحثية التي تناولت صدى فتوى الدفاع الكفائي بأن "السيد السيستاني لم يضع أي إملاءات طائفية، بل كانت تصريحاته على مر السنين وحتى خلال ذروة القتال الطائفي تدعو جميع العراقيين إلى الوحدة والتآلف ونبذ التفرقة" ولكن تأثير السيد السيستاني بحسب مراكز البحوث "يظهر عميقاً في فتواه لحمل السلاح ضد خطر داعش الإرهابي".

ولذا فإن الدين بحسب منظمة الأمم المتحدة يعد "مصدراً مهماً للتهدئة من دوامة العنف في البلاد، سواء أكان من خلال تنسيق المنظمات والوكالات الدولية لبناء السلام أو من خلال الآليات المستقلة للنخب الدينية".

وبناء على ذلك رأت المنظمة بأن "هناك أساساً لمشاركة المؤسسات الدينية ورجال الدين في الوقاية ومكافحة التطرف العنيف أو التطرف المؤدي إلى العنف.

وربطت أيضاً تحرك الأحداث التاريخية الرئيسية رجال الدين على العمل في بناء السلام وتوفر فرصاً لإطلاق البرامج، ومنها زيارة البابا فرنسيس إلى العراق التي كان لها أثر إيجابي على تحفيز رجال الدين لبناء السلام ومد الجسور بين الأديان، مما يشير إلى أن المجتمعات الدينية العابرة للوطنية يمكن أن يكون لها تأثير على التطورات على المستوى الوطني.

من جهته أكد مركز البيان للدراسات والتخطيط أن خطاب المرجعية الدينية يعد خطاباً وطنياً وشاملاً لجميع العراقيين بلا استثناء.

وفي دراسة نشرها المركز بتاريخ (22 آذار/ مارس 2015) أكد فيها بأن "خطابات المرجعية الدينية الأخيرة بعد صدور فتوى الدفاع تدل على أن توجيهاتها تتحرك في أفق ترسيخ الخطاب الوطني في العراق، ومنع تحول العراق الى ساحة حرب وصراع اقليمي ودولي، وهو أمر يستطيع أن يكون عاملاً موحداً لكل العراقيين في مواجهة واحد من أكبر التهديدات التي واجهها بلدهم".

العتبات المقدسة ومواجهة التطرف

لم يطوِ العراق تلك المرحلة الخطيرة من الطائفية لولا جهود المؤسسات الدينية وخصوصاً العتبات والمراقد الدينية، التي وضعت برامج خاصة للتحذير من الانزلاق في مهاوي الطائفية، وكذلك أسهمت في مد جسور الأخوة والمصالحة الوطنية.

ولمواجهة الطائفية العنيفة، كانت هناك حاجة حقيقية إلى زيادة أنشطة صنع السلام التي قامت بها العتبات المقدسة للحد من العنف، وتعزيز التفاهم المتبادل، والتسامح الديني وتنفيذ منهاج بناء السلام التطبيقية في المدارس والجامعات ومن خلال إقامة الندوات الفكرية والمؤتمرات الدولية.

يتذكّر الصحفي عماد الدعمي الزيارات التي كانت تشهدها العتبتان الحسينية والعباسية في كربلاء لشيوخ ووجهاء العشائر العراقية إبان فترة أزمة الطائفية.

وقال الدعمي لـ (كلمة): إنّ "العتبتين الحسينية والعباسية عملتا على ترجمة توصيات المرجعية الدينية العليا بالدعوة إلى خلق الانسجام والأواصر الأخوية والوطنية بين أبناء الوطن الواحد".

وتابع بأنّ "لمثل هذه الجهود دوراً كبيراً في إظهار الصورة الحقيقية للتعايش الأخوي بين أبناء المكونين الشيعي والسنّي، وقد انطلقت الدعوات إلى تعميق أواصر الأخوة ونبذ الطائفية والتفرقة من رحاب المرقدين الحسيني والعباسي".

كما حرصت العتبتان الحسينية والعباسية وكذلك العتبة العلوية في النجف والكاظمية في بغداد فضلاً عن الأمانات الخاصة للمزارات الشيعية في مختلف محافظات البلد على إقامة المؤتمرات والندوات الفكرية التي استضافت فيها باحثين ومتخصصين، وخرجت بتوصيات مهمّة في آليات مكافحة الفكر المتطرّف.

وبحسب الباحث الاجتماعي حيدر حسنين فإنّ "معضلة مواجهة الأعمال المتطرفة والإجرامية ليست في الأشخاص الذين يقومون بهذه الأعمال؛ وإنّما بالفكر المتطرّف الذي يدفعهم لارتكاب جرائمهم".

وقال في حديث لـ (كلمة): إنّ "من الضروري جداً مكافحة هذا الفكر الذي يعمي الإنسان ويحوّله إلى وحشٍ ضارٍ يقدم على القتل وارتكاب الفظائع، ملفوفاً بغطاء ديني وفتاوى تكفيرية ترى في الآخرين أنّهم على خطأ".

وأضاف بأنّ "عملية تغير هذا الفكر المتطرف بحاجة إلى التثقيف والتوعية وإظهاره على حقيقته، حتى لا ينغر به آخرون وخصوصاً من الشباب والمراهقين" مبيناً بأن "العتبات المقدسة مارست مثل هذه الأدوار المهمة في مكافحة هذا الفكر ونجحت إلى حدٍ كبير" بحسب قوله.

وخلال خطبة الجمعة من الصحن الحسيني في كربلاء بتاريخ (21 حزيران/ يونيو 2013) أكد وكيل المرجعية العليا السيد أحمد الصافي بأن نبذ الطائفية يقود البلد إلى برّ الأمان.

وذكر السيد الصافي بأن "اختلاف وجهات النظر هي من الأمور الصحية، ولكن عندما تتحول اختلاف وجهات النظر الى صراعات دموية أو عسكرية، بل الأسوأ من ذلك إذا تحولت إلى صراعات طائفية؛ فإنها لا تضر بوحدة الوطن والشعب فحسب، بل ستترك أثاراً أخرى في المستقبل؛ لأن معركتها لا يوجد فيها أحد رابح، بل الكل خاسر"، مؤكداً على أن "نبذ الطائفية ليس شعاراً، بل يحتاج إلى ممارسة على الأرض؛ كون أن نبذها يقود البلد الى بر الأمان".

وقبل ثلاث سنوات أقامت العتبة الحسينية في كربلاء مؤتمرها الأول لمكافحة التطرف العنيف المؤدي إلى الإرهاب. الذي يحمل عنوان (المؤتمر الوطني الأول للحد من التطرف والارهاب)، والذي أُقيم تحت شعار (القاعدة وداعش تهديداً للسلم المجتمعي)، للفترة من (٢٢ إلى ٢٣ شباط/ فبراير 2022)، بمشاركة جهات حكومية وأمنية وخدمية وأكاديمية وشخصيات دينية من مختلف الطوائف.

وأكدت أمانة العتبة المقدسة حينها على "الانحراف الفكري والإرهاب التكفيري أخطر أنواع الإرهاب الذي يجب التصدي له ومحاربته".

ولم تنظر العتبة الحسينية إلى خطورة الطائفية الصادرة عن الجماعات التكفيرية والإرهابية، بل أشّرت كذلك ما أسمته بالإرهاب الفكري والثقافي الذي تروّج له الثقافة الغربية المستوردة ووسائل الإعلام المضللة ومواقع التواصل الاجتماعي السلبية.

وأكدت في مرات عديدة بأن هذه الجهات أصبحت "تشكل خطراً على ثقافتنا وقيمنا وديننا وتسيطر على مستقبل جيلنا، من خلال إدخال الأساليب الجاذبة وأفلام الرعب وغيرها، فهي واحدة من وسائل نشر الإرهاب الثقافي الذي تسعى به إلى تغيير المنظومة الأخلاقية للمجتمع العراقي".

ولذا شددت بأن على "الدولة والمنظمات والمؤسسات الدينية مسؤولية كبيرة دينية وأخلاقية من خلال توفير فرص العمل وتقديم الخدمات الأساسية، وعلى المؤسسات الاجتماعية والدينية تفعيل التضامن والتكافل والإرشاد الأسري لتقوية العلاقة الأسرية لأنها النواة الأساسية لتكوين المجتمع والحفاظ عليها من التيارات المنحرفة".

وحينها أكدت منظمة الأمم المتحدة على الدور الكبير للعتبات المقدسة في مكافحة التطرّف واعتبرته دخولاً مهماً جداً. كما جاء على لسان مدير برنامجها الإنمائي في الفرات الأوسط علي كمونه.

وقال كمونه أن "العتبة الحسينية وكذلك العتبة العباسية تمتلكان تأثيراً كبيراً من الناحية الدينية والاجتماعية، فضلاً عن قدرتها في إيصال الفكرة للمواطنين بصورة سليمة".

وأوضح أن "خطوة إقامة مؤتمرات عن مكافحة الإرهاب والتطرف تمثل ركيزة مهمة لدعم ومساعدة برنامج الأمم المتحدة لقطع خطوات كبيرة بهذا المجال".

كما يؤشّر مراقبون آخرون تحدّثوا لـ (كلمة) خطوات مهمة للعتبة العباسية في كربلاء، من خلال جهودها في توثيق جرائم الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية من القاعدة وداعش عبر إصدار الموسوعات الكبيرة وإنشاء مركز خاص باسم المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف.

وأكد هؤلاء بأنّها "ضرورية جداً لتعريف العالم بحجم الدمار الذي لحق بالعراقيين جراء الإرهاب والطائفية؛ إلى جانب مهمّة أخرى وهي حفظ مثل هذه المعلومات في سجل التاريخ حتّى لا تزيّف الحقائق، وكذلك لتكون درساً للأجيال اللاحقة في التصدي للخطر الطائفي".



التعليقات