السبت 27 جمادى الآخرة 1446هـ 28 ديسمبر 2024
موقع كلمة الإخباري
النسيج الاجتماعي للعراق.. كيف تنظر المرجعية العليا للعشيرة؟
خاص ـ كلمة | سراج علي
2024 / 12 / 22
0

لا يمكنُ قراءة المشهد العراقي الاجتماعي على مدى قرون عديدة، دون أن نقف عند نسيجه الاجتماعي الذي يتكوّن منه المجتمع، والمتمثل بالعشيرة التي تضمّ أفراداً من أبناء العمومة، يقودها رجل عاقل وحكيم من بينهم يُسمّى بــ "شيخ العشيرة"، ومثلما لهذه العشيرة من أدوار على مستوى ضبط سلوك المجتمع وتحقيق السلم والاستقرار، فإنّ عليها واجبات تؤديها تجاهه وكذلك وطنها الذي تعتزّ بالانتماء إليه.
ومثلما سجّل التاريخ مواقف بطولية خالدة للعشائر العراقية وخصوصاً في محاربة الغزاة والمحتلين ومواجهة الأخطار التي تواجه بلدهم، فإنّ هذا النسيج لا يخلو أيضاً من تصرّفات وسلوكيات وعادات تحتكم لـ "العصبية" و"الجاهلية"، وهو ما يعني تحوّل هذا النسيج إلى مهدّد للسلم والأمن المجتمعي.
ولكن، يُنتظر طبعاً من هذه العشائر أن تمارس أدوارها في ضبط سلوك المجتمع وتحقيق السلم والاستقرار؛ وليس العكس من ذلك، وتبقى الفاعلية والسلوك ما بين هذين المتناقضينَ يعتمدُ على انضباط العشيرة نفسها وانطلاقها من التعاليم الإلهية في ممارسة أدوارها الاجتماعية، أما عكس ذلك، فيعني حصول الظلم والتعدي على حقوق الآخرين، سواء أكان داخل العشيرة نفسها أو على العشائر وأبناء المجتمع من خارج العشيرة الواحدة.
فعندما تتباهى عشيرة ما أنّ أجدادها نصروا الإمام الحسين (ع) في معركته ضد معسكر الباطل، يختلفُ عن غيرها وقفت مع الباطل ونصرته، سواء في ذلك الزمن من عاشوراء (61 للهجرة) أو فيما بعد، بمعاونة الظالمينَ والتعدّي على حقوق الناس أو انتهاك حقوق النساء وغيرها من الحالات السلبية التي نهت عنها الشريعة الإسلامية الغرّاء.
يمكنُ أن نعرفَ موقف الشريعة الإسلامية من العشيرة، في حديثين متفرقين للإمام علي (ع)، أحدهما ينصر العشيرة ويدعو للتمسّك بها، والثاني يستنكر العشيرة التي تحتكم للباطل وليس للحق.
حيث يوصي الإمام علي ابنه الإمام الحسن المجتبى (ع) قائلاً: "وأكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول".
في حين يوبّخ المنذر بن الجارود العبدي، وقد خان في بعض ما ولّاه (ع) من أعماله قائلاً: "فإذا أنت فيما رقي إليّ عنك لا تدعْ لهواك انقياداً ولا تُبقي لآخرتك عتاداً، تعمّر دنياك بخرابِ آخرتك وتصلُ عشيرتك بقطيعةِ دينك..!".
ومن هذهِ المواقف والنصوص الإسلامية العظيمة وغيرها -كما هو معروف في الصناعة الفقهية- ينطلقُ المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني لوضع الأحكام الشرعية الخاصة بالعشائر، مؤكداً على دورها الاجتماعي والإصلاحي ومحذراً في الوقت ذاته من تحوّلها إلى مكون يهدّد العباد والبلاد.

  دعوة المرجعية للسلم ونبذ الطائفية 


خلال مرحلة الفتنة الطائفية ما بين (2005 – 2007) حمّل المرجع الأعلى العشائرَ العراقية مسؤولية حفظ الأمن ونبذ التفرقة، وأصدرَ بتاريخ (18 يوليو/ تموز 2006) رسالة خاصة للشعب العراقي، ربما هي الأطول من بين رسائله وبياناته؛ نظراً للأزمة التي كانت تعصف بالعراق ما بعد فترة تغيير النظام الحاكم؛ وتصاعد العنف الذي تغذّيه أطراف خارجية وأخرى داخلية؛ وانتشار الجماعات الإرهابية التي سعت إلى زعزعة الأمن والاستقرار وإشعال حرب أهلية وطائفية بين أبناء الوطن الواحد.
وكانت مثل هذه الرسالة التي سنقف عند مضامينها، بمثابة تأكيد لما استشرفته المرجعية العليا لمستقبل العراق، ولما يمكن أن تؤول له الأمور في حال الرضوخ للمؤامرات والشائعات ودعوات إذكاء الفتنة الطائفية في البلاد.
وبدأت الرسالة بالآية القرآنية الكريمة من (آل عمران/ 103) التي تدعو المؤمنين إلى الاعتصام بحبل الله وعدم التفرقة بينهم.
وأعرب السيد السيستاني في رسالته عن حزنه وألمه الذي يعتصر قلبه، لما يتعرض له أبناء الشعب العراقيّ يومياً جراء الاعتداءات، وقال: إن "أبناء الشعب يتعرضون يومياً لمآسٍ واعتداءات: ترويعاً وتهجيراً, خطفاً وقتلاً وتمثيلاً, ممّا تعجز الكلمات عن وصف بشاعتها وفظاعتها ومدى مجافاتها لكل القيم الإنسانية والدينية والوطنية".
ويمضي للقول: "لقد كنت ـ ومنذ الأيّام الأولى للاحتلال ـ حريصاً على أن يتجاوز العراقيّون هذه الحقبة العصيبة من تاريخهم من دون الوقوع في شرك الفتنة الطائفية والعرقية, مدركاً عظم الخطر الذي يهدّد وحدة هذا الشعب وتماسك نسيجه الوطني في هذه المرحلة, نتيجة لتراكمات الماضي ومخططات الغرباء الذين يتربصّون به دوائر السوء ولعوامل أخرى" مشيراً إلى أنه "بتضافر جهود الطيبين وصبر المؤمنين وأناتهم أمكن من تفادي الانزلاق إلى مهاوي الفتنة الطائفية لأزيد من سنتين, بالرغم من كل الفجائع التي تعرّض لها عشرات الآلاف من الأبرياء على أساس هويّتهم المذهبيّة".
ويعرب السيد السيستاني عن أسفه بأنه "الأعداء لم ييأسوا وجدّوا في تنفيذ خططهم لتفتيت هذا الوطن بتعميق هوّة الخلاف بين أبنائه, وأعانهم ـ وللأسف ـ بعض أهل الدار على ذلك, حتّى وقعت الكارثة الكبرى بتفجير مرقد الإمامين العسكريين (عليهما السلام) وآل الأمر إلى ما نشهده اليوم من عنف أعمى يضرب البلد في كل مكان ـ ولاسيّما في بغداد العزيزة ـ ويفتك بأبنائه تحت عناوين مختلفة وذرائع زائفة, ولا رادع ولا مانع".
وفي موقف أبوي ومن رجل ناصح أمين، يقول السيد السيستاني: "أكرّر اليوم ندائي إلى جميع أبناء العراق الغيارى من مختلف الطوائف والقوميات بأن يعوا حجم الخطر الذي يهدّد مستقبل بلدهم, ويتكاتفوا في مواجهته بنبذ الكراهية والعنف واستبدالهما بالمحبّة والحوار السلمي لحلّ كافّة المشاكل والخلافات".
كما ناشد المخلصين الحريصين على وحدة هذا البلد ومستقبل أبنائه من أصحاب الرأي والفكر والقادة الدينيين والسياسيين وزعماء العشائر وغيرهم بأن "يبذلوا قَصارى جهودهم في سبيل وقف هذا المسلسل الدامي الذي لو استمر ـ كما يريده الأعداء ـ، فلسوف يلحق أبلغ الضرر بوحدة هذا الشعب ويعيق لأمدٍ بعيد تحقّق آماله في التحرّر والاستقرار والتقدّم".

  ماذا قالت وسائل الإعلام والمراكز البحثية؟ 


وفقاً لما رصده موقع (كلمة) في تقارير وسائل الإعلام ومقالات الكتّاب والباحثين عن هذه الفترة الحرجة التي مرّ بها العراق وموقف المرجعية الدينية العليا، فقد ذهبت إلى القول: إنّ "السيد السيستاني أنقذ العراق بحكمته"، والتي نمر عليها سريعاً قبل توسّع الحديث عن موقف المرجعية من العشائر العراقية.
في دراسة أعدّها مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث في الكويت تحت عنوان (السيستاني.. المرجعية التي أنقذت شعباً) يقول الباحث الدكتور عماد الصادق وهو يتحدث عن الوضع العراقي إبان الأزمة الطائفية: "أنقذت حكمة تدخلات السيد السيستاني في الأزمات شعباً بأسره من الانزلاق في صراعات طائفية دموية"، مبينا أن "فتاويه تعدّ الأكثر دعماً لخطاب التسامح والتعايش والسلام ومدنية الدولة ووحدة مكونات المجتمع ونبذ الطائفية".
أما الكاتب رانج علاء الدين فيذكر في مقال له نشره مركز الشرق الأوسط للدراسات بعنوان (إنقاذ العراق: ماذا يمكن أن يفعل آية الله العظمى السيد السيستاني) قائلاً: إن "الرجل الوحيد الذي يمكنه إنقاذ العراق هو آية الله العظمى السيد علي السيستاني. إذ يعد على نطاق واسع في العراق كرجل مصالحة. فهو عمل على مدار (87 سنة) رجل دين موقّر" بحسب قوله.
يكتب الصحفي محمد العمري على صحيفة (أسواق العرب) مقالاً مفصلاً بعنوان (الرجل الوحيد الذي يمكنه إنقاذ العراق) قائلاً: "في العام (2006) ساعد السيستاني على احتواء — على الرغم من أنه لم يتمكن من إيقافها — موجة جديدة من العنف الطائفي في العراق التي اندلعت بعدما قصف تنظيم “القاعدة” في العراق ضريح الإمام الحسن العسكري (...)، وقد لعب السيستاني دوراً مهماً في الحد من مستوى العنف من خلال دعوته إلى الوحدة والاعتدال".
ويضيف "كان يمكن أن تكون الأمور أسوأ بكثير في حالة غيابه ومن دون جهوده لإنهاء الصراع".
وكذلك يقول الكاتب لؤي الخطيب في مقال مفصّل باللغة الإنكليزية نشره موقع (هاف بوست): "واصل السيستاني توجيه الرأي العام من خلال ممثليه خلال صلاة الجمعة، داعياً إلى الوحدة، ومحاربة الفساد، ومحاربة النزعات الطائفية".
وفي هذا السياق أيضاً وفي دعوات مستمرة من المرجعية الدينية العليا للعشائر العراقية على حفظ الأمن والاستقرار والإشادة بأدوارها التاريخية، قال وكيل المرجعية السيد أحمد الصافي خلال استقباله وفداً من عشائر بني كعب بتاريخ (5 فبراير/شباط 2019): إن "العشائر العراقية لعبت دوراً مهماً في التصدي لتنظيم داعش الإرهابي".
وأوضح الصافي بأن "العشائر وقفت موقفاً مشرّفاً أيام المنازلة الكبرى ضد عصابات داعش الإرهابية؛ عبر تقديم الدعم لأخوتهم المقاتلين ومؤازرتهم في سبيل تحقيق النصر المؤزّر".
واعتبرَ بأن هذا السلوك الإيجابي والمشرّف "ما هو إلا نتيجة للتربية التي عمّقتها منابر الإمام الحسين (ع) في نفوس الناس" على حدّ وصفه.
كما وشدّد ممثل المرجعية العليا الشيخ عبد المهدي الكربلائي خلال استقباله لوفد من العشائر بتاريخ (11 اكتوبر/ تشرين الأول 2012) على الدور الاجتماع  والوطني المهم الذي تلعبه العشائر في المجتمع العراقي.
الكربلائي أكّد على "أهمية التحلِّي بالوعي في مسألة الانتماء" وقسّمه إلى ثلاثة محاور "الانتماء للإسلام، والوطن، والعشيرة"، موضحاً أن "الانتماء للإسلام يتطلَّب إلماماً بالأحكام الشرعيّة والدينية ولزوم تطبيقها بما تشتمل من امتثالٍ للأوامر واجتنابٍ للنواهي بما يحقّق رضا الله تعالى".
وتابع بأنّ "الانتماء للوطن يستلزم الشعور الوطني العالي والتحلِّي بالمسؤولية والتفاني في خدمة هذا الوطن، وأمّا الانتماء الثالث فيحثُّنا على المحافظة على التاريخ العريق والسُمعة الطيِّبة لعشائرنا العراقية الأصيلة فلا يخفى على القاصِ والداني ما للعشائر العراقية من دورٍ كبيرٍ ومشرِّفٍ في طرد الاحتلال الإنكليزي، وإسهامهم في فرض الأمن بعد سقوط الطاغية، ودورهم الفاعل في إخماد نار الفتنة الطائفية التي عمل على تأجيجها المُغرضون".

  الأحكام الدينية والأعراف العشائرية 


بعد مخاضٍ عسير من انتهاء موجة الطائفية بفضل حكمة المرجع الأعلى والتفاف العشائر حولها ـ من المكوّنين السني والشيعي وتأكيد الالتزام بتوصياتها وكذلك مواجهة خطر عصابات داعش الإرهابية وطردها من البلد، كان ولا يزال الهمّ الأكبر بالنسبة للمرجعية أن تكون الأحكام والأعراف العشائرية غير متنافية مع الأحكام الشرعية؛ في سبيل منع الحالات السلبية التي طرأت على المجتمع أو ازدادت في فترات متلاحقة.
ويؤكّد الشيخ عبد المهدي الكربلائي في لقاءات عديدة مع وفود العشائر العراقية التي تزور العتبة الحسينية بأنّ هذا الأمر "في غاية الأهمية، ويجب أن تكون الأحكام والأعراف العشائرية غير متنافيةٍ مع الأحكام الشرعية، كما يجب على رئيس العشيرة وأبنائها أخذه بعين الاعتبار".
ولفت إلى أن هذه "مسؤولية شرعيّة قبل أن تكون إنسانية ووطنية حثَّنا عليها ديننا الحنيف، خاصّةً ونحنُ ننتسبُ الى بلدٍ كان مهدٌ للحضارات ومهبطٌ للرسالات ومرقدٌ للأئمة الطاهرين" بحسب قوله.
تماماً وفي الوقت الذي ثمّن فيه ممثل المرجعية العليا السيد أحمد الصافي في خطبة صلاة الجمعة من الصحن الحسيني بتاريخ (12 يوليو/ تموز 2019) دور العشائر العراقية وتاريخها "المشرّف وقيمها النبيلة"، فقد انتقد ما وصفها بـ "التصرّفات الدخيلة التي باتت تؤثر على هذا التاريخ والقيم الأصيلة".
وقال الصافي: إنه "خلال الفترة المتأخرة شهدت بروز تصرفات تتطفل على هذا التكوين العشائري الأصيل، الذي يعتز به وتسيء للقيم النبيلة للعشائر"، لافتاً إلى أنّ "هذه التصرفات باتت تأخذ مساحة غير طيبة".
وفي السطور اللاحقة، يؤشّر السيد الصافي بعضاً من هذه التصرّفات "الدخيلة"، ومنها:
1. استحصال مبالغ طائلة من الاحتكام؛ نتيجة الاحتكاك الذي يحصل بين الأطفال أو الشباب وكذلك الشيوخ.
2. بعض العشائر عند الاحتكام تفرض مبالغ مجحفة وأموالاً طائلة لغلق الموضوع، مما جعل هنالك من يتصيد لافتعال المشاكل بهدف الاستفادة.
3. الأموال الطائلة بحسب الصافي لا يقبل بها الشرع وتعد هذه المبالغ أكل مال بالباطل، إلى جانب أنه يعدّ خلاف المآثر الحميدة للعشائر العراقية.
4. حالة تزوير الحقائق انتصاراً لفرد من أفراد العشيرة وإن كان خاطئاً، وهذا أمر بحسب الصافي ينأى عنه الحكماء والعقلاء.
5. تعطيل المؤسسات والجهات مثل عيادة الطبيبة؛ لأنه اخطأ بحق المريض وهو أمر يؤدي إلى تعطيل الحياة.
6. بعض موظفي الدولة يشتكون عند تطبيق القانون محاسبته من قبل العشيرة، وكذلك شرطي المرور يعاقب إذا قام بمحاسبة شخص تجاوز على القانون؛ لأنه لا يعرف انتماءه لعشيرة معينة، وكذلك عدم قبول العشيرة بنقل من ينتمي لها من موقع إلى آخر داخل مؤسسات الدولة.
كما وانتقد الشيخ عبد المهدي الكربلائي في خطبة صلاة الجمعة بتاريخ (7 ديسمبر/ كانون الأول 2018) "العنف العشائري".
ودعا إلى "ترك الأساليب السلبية"، مؤكداً أن "المرجعية الدينية تطالب بمعالجة الظواهر والسلوكيات التي تشكّل خطراً على التعايش السلمي والمجتمعي".
كما أشار إلى أن "إجلاء العوائل (حملها على ترك مكانها) والنهوة (تزويج البنت بالغصب) أمور بعيدة عن الإسلام والأعراف العشائرية".
وفي استفتاء وجّهه أحد (المؤمنين) من المنطقة الجنوبية بتاريخ (شوال 1438 للهجرة) طلب فيه من المرجعية الدينية العليا بيان الموقف الشرعي من بعض الأعراف العشائرية وما إذا كانت مخالفة للشريعة الإسلامية.
ومن هذه الحالات التي ذكرها صاحب الاستفتاء هي "إذا جنى شخصٌ على الآخر فإنّ المجني عليه أو ذويه يتقاضون من الجاني مرّتين، مرة في محاكم الدولة وأخرى عشائرياً".
فكان جواب المرجعية العليا بأنه "لا يجوز إلزام الجاني أو عاقلته بدفع ما يزيد على الدية الشرعية، ولو عفى من يستحق الدية عن بعضها لم يجز له أن يعود إلى مطالبته"، مضيفاً "نعم مع تحقق الصلح بين الطرفين يجب تنازل المجني عليه وذويه عن الحق الشخصي أمام المحاكم".
وفي حقل الاستفتاءات المنشورة على الموقع الإلكتروني لمكتب المرجع الأعلى، ننقل ما وردَ عن (أحكام الفصل العشائري):
السؤال: ما هو حكم الفصل العشائري المتعارف لدينا في العراق بالنسبة إلى:
١ـ الشخص أو الأشخاص الذين يحدّدون قيمة الفصل؟
٢ـ الشخص أو الأشخاص الذين يأخذون الفصل؟
٣ـ مَن يُجمع منهم مبلغ الفصل بالرضا أو الإكراه؟
٤ـ مَن يُكرِه الآخرين على دفع قيمة الفصل؟
وكان جواب المرجعية العليا كالآتي:
١ـ إذا كان ذلك من قَبيل الحكم والقضاء فلا يجوز إلّا بشروطهما الشرعيّة، فلا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله أو القضاء ممّن ليس أهلاً لذلك شرعاً. وأمّا إذا كان اقتراحاً للمصالحة بين الطرفين مثلاً فلا إشكال فيه إن لم يكن فيه تضييع لحقّ ذوي الحقوق الشرعيّة، كأن يؤدّي إلى إلزام الكبير بأقلّ من حقّه من دون رضاه أو إعطاء القاصر دون حقّه فيكون إعانةً على الظلم.
٢ـ لا يجوز أخذ الفصل في حالتين:
الأولى: إذا أعطاه صاحب المال بإكراه ولم يكن مستحقّاً عليه شرعاً.
الثانية: إذا كان المستحقّ لأخذه صبيّاً، أو كبيراً لا يرضى بأخذ غيره له، كما لو كان الفصل من قبيل الدية ولم يكن الآخذ من ورثة المقتول أو ممّن رضي ورثته بأخذه.
٣ـ ليس عليهم شيء.
٤ـ لا يجوز إكراه الآخرين فيما لم يثبت عليهم حقّ شرعي.
الدكة العشائرية.. و "مطلوب دم"!
من الظواهر السلبية التي ابتلي بها المجتمع العراقي وازدادت في الآونة الأخيرة، هي ما تُعرف بـ "الدكة العشائرية" التي تعتبرها العشائر الأصيلة ذاتها بأنّها "ظاهرة سلبية تسيء للتعاليم الإسلامية والأعراف والقيم الاجتماعية".
وفيما مضى لم تُعرف مثل هذه الظاهرة، سوى وجود ظاهرة مشابهة بشكل أقل حدّة وتُعرف بـ (الكوامة العشائرية) والتي تتمثل بإرسال خبر إلى عشيرة الجاني أو صاحب المشكلة لإعلامها بما فعله الجاني أو المعتدي في حال لم تكن تعلم بذلك؛ وبناءً على ذلك تتحرّك عشيرته نحو عشيرة المجني عليهِ للجلوس والاتفاق على ما يردّ كرامة وحق المجني عليه والاقتصاص من الجاني، وفي هذه الحالات إما أن يتم الاحتكام للأعراف الأصيلة والثوابت الشرعية؛ أو قد تخرج الأمور عن إطارها العرفي والديني؛ ويحصل ما لا يحمد عقباه. بحسب ما يذكرهُ شيوخ العشائر.
أما بالنسبة لـ "الدكة العشائرية" التي تصدر في الأغلب ممن تصفه مديرية شؤون العشائر في وزارة الداخلية بـ "المستشيخين" فقد تطوّر الأمر إلى حالة خطيرة تهدّد السلم المجتمعي وتنافي بشكل تام الأعراف القيم العشائرية التي تربى عليها المجتمع العراقي، ناهيكَ عن ابتعادها عن الثوابت الشرعية وحرمتها الشديدة في مواضع ذكرتها المرجعية الدينية العليا.
يقول أحد وجهاء العشائر وهو الشيخ حسين الخالدي لـ (كلمة): إنّ "الدكّة العشائرية تحوّلت إلى خطر كبير، فلا يحتكم فيه الأشخاص من عشيرة تعرضت لاعتداء مهما كان كبيراً أو صغيراً للعقل، وإنما للغة السلاح والتهديد كإنذار منها للشخص المعتدي أو المتسبب بمشكلة ما"، مبيناً أن "مثل هذه الحالة ترافقها ردود فعل تؤدي إلى سقوط قتلى ومصابين بين العشيرتين؛ كون أن الكلام أصبح للسلاح وشرعة الغابة وليس العقل والتفاهم لوضع الحل اللازم والعقلاني".
وفي إزاء ذلك، أوضحت مديرية شؤون العشائر في وزارة الداخلية، في بيان لها، أن "عقوبة الدكة قد تصل للإعدام"، كما أكدت "التحرك لإقرار قانون السلم المجتمعي".
وكان وزير الداخلية عبد الأمير الشمري قد وجّه في وقت سابق، "بتطبيق قانون تجريم الدكة العشائرية على أرض الواقع".
وبحسب قرار مجلس القضاء الأعلى رقم (13 لسنة 2005) فإنّ "الدكة العشائرية وكل من يكتب على الدور او المحال التجارية (مطلوب دم او عشائرياً)، يدخل منظمة قانون مكافحة الإرهاب وعقوبات السجن المؤبد وقد تصل الى الإعدام ولا تقبل كفالة".
وذكر البيان السابق لمديرية شؤون العشائر أيضاً بأن "قانون السلم المجتمعي يتضمن أموراً عديدة منها عدم الاعتداء على موظفي الدولة، خاصة شريحة الأطباء، علاوة على انه يشمل عدم إطلاق العيارات النارية في المناسبات الاجتماعية"، مبيناً أن "توجيهات صدرت للأجهزة الأمنية بعدم السماح لأي شخص بإطلاق العيارات النارية في المناسبات الاجتماعية، الأمر الذي أدّى الى حدوث انخفاض ملحوظ في إطلاق العيارات النارية في المناسبات".
وفي ظل مثل تنامي هذه الحالات أو الظواهر السلبية وسط المجتمع العراقي، أصدرت المرجعية الدينية العليا بيانات عديدة أدانت وانتقدت فيها هذه الظواهر؛ كما أسهمت جهود العتبتين الحسينية والعباسية على مدى عدّة سنوات من خلال الخطب والبيانات واللقاءات المباشرة مع العشائر؛ في التقليل منها؛ كما التزمت العديد من العشائر العراقية الأصيلة بتوصيات المرجعية العليا ولم يصدر منها فيما بعد أي تصرّف يخالف الأعراف والضوابط الشرعية.
ويمكن إجمال ما صدر من المرجعية الدينية العليا بما يخص الحالة المجتمعية العشائرية بالتالي:
أولاً/ دعت المرجعية الدينية العليا الجميع إلى التعايش السلي والمحبة والأخوة وحرمة التقاتل العشائري.
ثانياً: تحريم إدانة غير الجاني أو ملاحقة أخوانه وأقاربه لجناية لم يرتكبوها بأنفسهم أو بشكل مباشر.
ثالثاً: عدم تجاوز الديات أو الفصل العشائري للدية الشرعية التي أقرتها الشريعة الإسلامية الغراء.
رابعاً: منع (الجلوة) وهي إجبار شخص أو عائلة بأكملها على مغادرة منطقتها السكنية؛ لأحد أفرادها أو أقاربها ارتكب جريمة ما.
خامساً: تحريم (النهوة) وهي قيام ابن العم من منع ابنة عمّه من الزواج من شخص آخر، وكذلك تحريم ما تُعرف بـ (المرأة الفصلية) وهي تزويج امرأة قسراً لشخص من عشيرة أخرى بلا حقوق شرعية وبشكل ينتهك حريتها وخصوصيتها.
سادساً: عدم التفريط بالحق الشرعي فيما يخص الدية الشرعية وخاصة حقوق الأيتام والقاصرين.
كما شددت المرجعية الدينية العليا على أمور أخرى وظواهر سلبية تحصل داخل المجتمع العراقي، حيث حرّمت المرجعية ادعاء السيادة أو الانتماء للنسب الهاشمي.
كما حذّرت المرجعية من ظاهرة منع الفتيات من الزواج بحجة ان الشخص المتقدم لها من غير عشيرتها، إلى جانب دعوتها إلى عدم البذخ في مجالس الفاتحة، وتحميل عائلة المتوفى ما لا طاقة لها.
كما وحذرت المرجعية الدينية العليا وأدانت إطلاق العيارات النارية في المناسبات الاجتماعية؛ لما تسببت به من حالات قتل وإصابات بين الأبرياء.
وفيما بعد أكدت وزارة الداخلية قبل عام، أن توصيات المرجعية الدينية العليا ونهيها عن النزاعات العشائرية إلى جانب تنامي الوعي والالتزام بالقانون أدى إلى تراجعات في النزاعات والدكة العشائرية.

  جهود العتبتين الحسينية والعباسية 
سواء أكان خلال فترة تصاعد فتنة الطائفية ما بعد سقوط النظام البعثي المباد، وما تلاها، كان للعتبتين الحسينية والعباسية في مدينة كربلاء دوراً بارزاً في تعدي هذه الظروف والأزمات التي كان يُراد منها إشعال فتيل حرب أهلية واقتتال داخلي بين أبناء المجتمع الواحد.
وشهد مرقدا الإمام الحسين وأخيه العباس (ع) في المدينة لسنوات عديدة، توافد الكثير من العشائر العراقية بشيوخها ووجهائها وأبنائها لتأييد دعوات المرجعية الدينية العليا والتأكيد على عدم السماح للجماعات المتطرفة والجهات الخارجية بتأجيج الوضع الأمني وتفشي الطائفية.
وجاءت هذه الجهود بالتزامن مع مشروع (المصالحة الوطنية) بين العشائر العراقية وخصوصاً بين أبناء المكوّنين الشيعي والسني؛ باعتبارهما يشكلون الثقل الأكبر بين سكّان العراق.
كما أكدت اللقاءات التي جرت على حفظ حقوق المكوّنات الأخرى وخصوصاً من المسيحيين والأيزديين والصابئة؛ وظهر ذلك أكثر في دعوات المرجعية العليا إبان فترة احتلال عصابات داعش الإرهابية للبلد.
وشهدت العتبتان كذلك إقامة الندوات الفكرية والتثقيفية الداعية لنشر ثقافة السلم المجتمعي ونبذ الظواهر السلبية، إلى جانب تشكيل مراكز ولجان خاصة لتحقيق ما يُعرف في العقيدة الإسلامية بـ (إصلاح ذات البين)، فضلاً عن تشكيل وفود رسمية لحل النزاعات التي تحصل بين العشائر العراقية؛ وعزّز ذلك تطبيق توصيات المرجعية الدينية العليا إلى حدّ كبير.
ومن بين المؤتمرات التي أقيمت لهذا الغرض، المؤتمر الذي أقامته مديرية شؤون العشائر في وزارة الداخلية بالتعاون مع مركز كربلاء للدراسات والبحوث في محافظة كربلاء، والذي حمل شعار (من قيم الإمام الحسين (ع) ننطلق لتهذيب المجتمع وتشذيب الأعراف العشائرية)، بتاريخ (23 مايو/ أيار 2017).
المؤتمر شهد حينها حضوراً واسعاً من شخصيات دينية وسياسية وعشائرية، كان بينهم ممثل المرجعية الدينية الشيخ عبد المهدي الكربلائي والسيد قاسم الاعرجي وزير الداخلية الأسبق، وشيوخ عموم الجنوب والوسط والغربية والشمالية.
وتضمن المؤتمر التوقيع على وثيقة بين العشائر العراقية تؤكّد فيها الالتزام بتوصيات المرجعية الدينية العليا الداعية إلى تشذيب وتهذيب الأعراف العشائرية.
وأكد حينها ممثل عشائر المنطقة الغربية الشيخ فيصل نجرس الكعود على شيوخ العشائر "الابتعاد عن كل قول يأجج الطائفية وضرورة نبذ الأعراف التي تفرق أبناء الوطن الواحد".
وقال: "علينا جميعاً تقديم مصلحة أهلنا ونجعل من العرف العشائري أداة لتوحيد الشعب العراقي".
أما ممثل عشائر منطقة الجنوب الشيخ صباح بدر الغميّض فقد أكد في كلمة له على معاهدة المرجعية في تطبيق بنود الوثيقة، وقال: إن "المرجعية الدينية العليا هي حصن العراق الحصين".
وبعد ثلاثة أيام من التوقيع على الوثيقة العشائرية، أوصى ممثل المرجعية الدينية العليا السيد أحمد الصافي في خطبة صلاة الجمعة من الصحن الحسيني، العشائر العراقية بالسعي إلى تطبيق بنود (الوثيقة) التي تم توقيعها في رحاب الصحن الحسيني.
ولفت السيد الصافي إلى أن "العشائر في العراق مارست دوراً إيجابياً في مفاصل متعددة، فضلاً عن استشعارها لأي خطر يتعرض له البلد ووقوفها وقفة منيعة لمنع ذلك الخطر"، مشيرا إلى "ما تمتلكه تلك العشائر من عادات وتقاليد وأعراف من بينها الحمية والشجاعة والجود والكرم".
وفي وقت لاحق وبتاريخ (3 اكتوبر/ تشرين الأول 2018)، شهدت محافظة بابل إقامة مؤتمر (العشائر العراقية تستضئ بفكر المرجعية في تصحيح السنن العشائرية).
وأكّد مسؤول شعبة التبليغ والتعليم الديني بالعتبة الحسينية، في وقتها الشيخ فاهم الإبراهيمي أن العشائر "أبدت ارتياحها وشكرها للعتبة الحسينية المقدسة على هذه المبادرة التي بينت لهم أهمية الديات العشائرية وتصحيح مسارها وأكد على ضرورة التمسك بها كونها الحل الوحيد الذي يضمن حقوق القاصرين".
ويظهر مثل هذا التمسّك بتوصيات المرجعية العليا جلياً في هتافات العشائر العراقية في كل مناسبة، التي تنشد عبارة (تاج تاج على الراس .. سيّد علي السيستاني) التي تحولت إلى أهزوجة شعبية يردّدها أبناء العشائر في أوقات السلم والحرب؛ ويثمنون بها أدوار المرجعية العليا في حفظ الأمن والاستقرار وإبعاد الأخطار عن البلد وبعدّها "صمّام الأمان في العراق"، وتحوّلت فعلاً بين العديد من العشائر إلى تطبيق عمليّ بارز.
ويبرز دور المرجعية الدينية العليا من خلال حادثة النزاع المسلّح الذي نشب بين عشيرتي (الرميّض وآل عمر) في قضاء الإصلاح بمحافظة ذي قار.
وتدّخل السيد السيستاني بتاريخ (3 اكتوبر/ تشرين الأول 2023) لإنهاء النزاع الذي استمر لفترة طويلة بين العشيرتين، واعتبرت حينها قناة (روسيا اليوم) ووسائل إعلامية محلية وعربية أن هذا النزاع كان يشكل خطراً كبيراً في المحافظة وفقاً لموقف السيستاني الذي لم يتدخل في النزاعات العشائرية إلا بما هو عام، لكن هذه المرة أصدر رسالة خاصة إلى زعماء العشيرتين.
ونشر مكتب السيد السيستاني الرسالة وجاء فيها: "أعزاءنا في عشيرتي الرميض وآل عمر في قضاء الإصلاح (وفقهم الله لمراضيه) السلام عليكم ورحمة الله وبركاته مع المحبة والاحترام، وبعد فإن مكتب المرجعية الدينية العليا يبدي بالغ أسفه للمصادمات التي وقعت بين أبناء العشيرتين الكريمتين في المدة الأخيرة وسقوط العديد من الضحايا الأبرياء من الطرفين جراء ذلك".
وأضاف: "وإذ يقدم المكتب تعازيه ومواساته للعوائل المفجوعة فإنه يحث وجهاء العشيرتين وكبراءهما وأهل العقل والحكمة فيهما على السعي حثيثا لحل هذه الأزمة بالطرق المقبولة والمتعارفة في مثل هذه الحالات تجنباً للمزيد من سفك الدماء وما يترتب على ذلك من انعدام الأمن وتعطيل الحياة العامة في الناحية".
وتابع: "قد بعثنا إليكم بوفد برئاسة فضيلة العلامة الجليل السيد محمد حسين العميدي دام تأييده لبذل المساعي الجميلة في هذا الصدد، فالمأمولُ منكم الاستجابة له ووضع حد نهائي للأزمة المذكورة".
وختم المكتب رسالته: إنّ "سماحة السيد السيستاني (دام ظله) يدعو لكم جميعاً بالخير والبركة، وأن يدفع الله عنكم كل سوء ومكروه".
وفي الختام، يُنتظر من العشائر العراقية التي أنجبت خيرة الأبناء المضحّين والملبين لفتوى المرجعية الدينية العليا في مواجهة عصابات داعش الإرهابية، وأصحاب الشجاعة والكرم في الزيارات الدينية المليونية والأزمات، أن تظلَّ على موقفها المشرّف في الالتفاف حول المرجعية العليا وتطبيق توصياتها لما فيه صلاح المجتمع العراقي وزهوه ومنعته.





التعليقات