يحتفلُ عدد أكبر من المسيحيين في العراق بأعياد ميلاد السيد المسيح (ع) وقدوم عام ميلادي جديد، وهي مناسبة تقام على مستوى العراق الذي صوّت برلمانه قبل أربع سنوات على جعلها عطلة رسمية، كما يشارك فيها حتى من غير المسيحيين مثل المسلمين، في إعلان عن التضامن مع أخوتهم في الوطن والإنسانية.
ولكن يأتي الاحتفال بذكرى رأس السنة الميلادية هذا العام، وسط تحديات كبيرة يعاني منها المسيحيون مثل غيرهم من أبناء المكوّنات العراقية الأخرى، وفي ظل دعوات لنبذ التفرقة ونشر ثقافة التسامح، مع وجود مواقف خاصّة يطلُّ فيها الجدل كما في كلّ عام، فبين من يؤيّد مشاركة المسيحيين بأفراحهم يعارضها آخرون جملةً وتفصيلاً.
ويحرص مسيحيو العراق كلّ عام على تزيين كنائسهم ومنازلهم، ابتهاجاً بهذه المناسبة، وضمن طقوس دينية يتفاعل معها العراقيون من مختلف الديانات، مشاركين في ايقاد شمعة العراق الواحد.
موقعُ "كلمة" تابعَ هذه الأجواء الخاصة في العراق وردود الأفعال المتباينة؛ لإظهار إلى أي مدىً يمكن فيه التوافق نهائياً حول إحياء هذه المناسبة، إضافة إلى معرفة موقف الشريعة الإسلامية من المشاركة فيها.
بحسب رأي الكاتب جايسون كاسير فأن هذه المناسبة "يمكن أن توحّد العراقيين"، في حين يردّ الكاتب نعمان الشمري في حديث لـ (كلمة) بأنّ "العراقيين غير مختلفين مع بعضهم البعض، فعلى العكس تماماً فهم متوحدون، وبالضد من الطائفية والتفرقة".
وفي الوقت الذي استعدّ فيه المسيحيون للاحتفال بهذه المناسبة العزيزة على قلوبهم، شهد البلد فعاليات عدّة على المستوى الرسمي والشعبي؛ للتأكيد على أصالة أبناء المكوّن المسيحي وأحقيتهم بأن يحتفلوا بأعيادهم في سلام وأمان.
ويجري الاحتفال عادةً بأعياد رأس السنة من خلال وضع شجرة الميلاد في البيوت والأماكن العامة والكنائس، مع تبادل الهدايا بين الناس.
حركة تجارية واستعدادات مبكرة
كما شهدت الأسواق والمحال التجارية في مختلف مناطق العراق حتى في المحافظات التي لا يسكنها مسيحيون، حركة اقتصادية كبيرة، وتنافست المحال على استقطاب زبائنها من خلال عرض مستلزمات إحياء رأس السنة الميلادية.
وذكر حيدر الطيّب وهو صاحب محال في العاصمة بغداد لـ (كلمة) أنّ "مثل هذه المناسبات فرصة سانحة أمام البائعين وأصحاب المحال التجارية لجذب الزبائن الذين يتدفّقون في هذه المناسبة كل عام لشراء مستلزمات إحيائها".
وتابع بأنّ "النساء والفتيات هنّ الأكثر شراءً لهذه المستلزمات، لمشاركة عوائلهن وأزواجهن الاحتفال برأس السنة الميلادية".
وأوضح بأنّ "هذه المناسبة تعود بمردود مالي كبير، حيث لا تقتصر على المسيحيين وإنما يشاركهم أيضاً المسلمون وغيرهم من أبناء الطوائف الدينية في البلد".
ماذا يقول العراقيون عن المناسبة؟
اعتبر الكاردينال المسيحي لويس رافائيل ساكو في تصريح صحفي باللغة الإنجليزية لوكالة (Asia news) ترجمه (كلمة) أن "هذه المناسبة فرصة لتوحيد جميع العراقيين ونبذ الطائفية والقبلية".
وقال ساكو: إن "المسيحين والمسلمين الشيعة والسنة والأكراد تنوعات يجب احترامها"، مضيفاً بأن "هذه التنوعات لا تشكل خسارة للوحدة بل على العكس من ذلك فهي تعزّزها".
ومثل أي مناسبة للفرح في العراق، تنتظر السيّدة آلاء العابدي كلّ عام أعياد رأس السنة الميلادية، لتحتفل مع عائلتها وسط أجواءٍ تصفها بـ "الدافئة والجميلة".
العابدي قالت لـ (كلمة): إنّ "العراقيين بحاجة ماسّة لإشاعة جو الفرح، ولكن بشرط عدم التعدي على الحرمات الإلهية وحقوق الناس".
وأضافت بأنّ "احتفالها برأس السنة عادةً ما يكون داخل البيت، حيث تعدّ بنفسها كعكة بالمناسبة وتضع شجرة الميلاد، ليجتمع أفراد العائلة من حولها ويتشاركون الفرح".
في حين ترى السيّدة بتول الصفّار من محافظة واسط أنه "لا ضيرَ مطلقاً في مشاركة المسيحيين بهذه المناسبة" مبينةً أن "إحياء رأس سنة الميلاد بالنسبة لها هو تكريم لنفسها وعائلتها بمرور عام كامل بسلام وأمان".
وتابعت في حديثها لـ (كلمة) بأنّها "تختار كما في كل عام أن تحتفل مع زوجها وأطفالها بليلة رأس السنة داخل ضريح الإمام علي (ع) في النجف".
وخلال الأجواء المباركة كما تقول الصفّار "نرفع أيدينا بالدعاء وقراءة القرآن وأداء الصلاة في الحضرة العلوية، ليكتب الله لنا عاماً جديداً نكون فيه أكثر قرباً منه".
الصفّار أكدت أيضاً بأنّ "الاحتفال يجب أنْ لا يتخلله الوقوع في فساد أو شبهة أو أمر محرّم، بل يتحقق الفرح عندما تجتمع مع العائلة في هذه المناسبة وتطلب من الله تعالى رضاه وأن يشملك برحماته".
أما الشاب محمد علي الجبوري من محافظة كربلاء فيقول لـ (كلمة): إنّ "مناسبة رأس السنة الميلادية حالها حال أي مناسبة دينية أو وطنية، ويشجّع على إحيائها برفقة أصدقائه خارج البيت".
وتابع بأنّ "المناسبة في حدّ ذاتها تبعث على الفرح" والعراقيون بحسب قوله "توّاقون للفرح وملء قلوبهم بالسعادة؛ في ظل الأجواء المتقلّبة على المستوى المحلي والخارجي" بحسب قوله.
وحول موقفه من الآراء التي تدعو إلى منع إقامة مظاهر الاحتفال نهائياً، يستدرك الجبوري قائلاً: "أنا مع إحياء المناسبة وإشاعة مظاهر الفرح والسرور، بشرط أن لا ينتهك قدسية المدينة".
وفي كربلاء التي يسكنها الجبوري وتضم ضريحي الإمام الحسين وأخيه العباس (ع)، توحّدت أكثر الآراء والمواقف الرسمية مع منع إقامة الاحتفالات التي تنتهك حرمة وقدسية المدينة.
وأوضحت إدارة العتبتين الحسينية والعباسية موقفها، يوم الجمعة الماضية، من احتفالات أعياد رأس السنة، ودعت عبر توجيهاتها الدينية إلى "مراعاة حرمة المدينة وحفظ بعدها الديني".
العتبتان المقدستان ذكرتا من خلال التوجيهات الدينية التي تبثّ خلال مواعيد الصلوات الواجبة بأنه "ينبغي مراعاة حرمة المدينة وحفظ بعدها الديني العقائدي في نفوس محبي الإمام الحسين (ع)".
ودعت العتبتان إلى "عدم السماح بهتك حرمة المحافظة من خلال بعض السلوكيات الدخيلة على المجتمع الإسلامي والمظاهر المنافية لتعاليم الدين والحيلولة دون تدنيسها بما يخالف النهج الحسيني من التجمعات الخليطة والحفلات المريبة تحت عناوين خاوية ليست من الاسلام في شيء والتي لا يرتضيها كل غيور ذو دين".
وفي وقت سابق، شدد مجلس محافظة كربلاء، على منع أي احتفالية تنتهك قدسية المحافظة، وفقاً لما صرّح به رئيس المجلس في حديث صحفي تابعه (كلمة).
وقال اليساري بلهجة شديدة: "نحذّر من إقامة أي احتفالية في أعياد رأس السنة تنتهك قدسية محافظة كربلاء".
وأضاف اليساري، أن "هناك قراراً سابقاً تم اقراره في المجلس السابق يمنع إقامة مثل هذه الاحتفالات"، لافتاً الى أن "هناك لجنة تم تشكيلها تتابع هذا الأمر".
كما أكّد المواطن الكربلائي عبد الحميد الأسدي بأن "أهالي كربلاء المقدسة لن يسمحوا مطلقاً بإشاعة أجواء الفساد والانحلال في مناسبة أعياد رأس السنة".
وأوضح الأسدي في حديثه لـ (كلمة) أنّ "الاحتفال سيكون من خلال إقامة الفعاليات الدينية والثقافية التي تعزّز روح الدين والمواطنة في نفوس الناس".
وأشار أيضاً إلى أن "الاحتفال برأس السنة الميلادية كهكذا التقليد السلبي الذي يقام كل عام فلا علاقة له بالمسيحيين إطلاقاً"، وإنما هو "تقليد روماني قديم يحاول البعض استعادته لممارسة ما يحلو له حتى لو كان منافياً للدين والتقاليد الاجتماعية".
إجراءات أمنية خاصة لإحياء المناسبة
وفي ظل عدم اقتصار الاحتفال بأعياد رأس السنة على المسحيين في العراق ومشاركة الملايين بإحيائها، وضعت وزارة الداخلية خطة خاصة بالمناسبة.
وقال المتحدث باسم الوزارة، العميد مقداد ميري، خلال مؤتمر صحفي عقده يوم الأحد: إن "الوزارة أعدت خطة محكمة ستخلو من جميع القطوعات الأمنية، وسيكون هناك نشر كبير للأمن والشرطة".
وتابع القول: "سنحاسب بشدة أي خرق للذوق العام وسيتم تعزيز حفظ القانون، مع تأمين كل الفعاليات وأماكن الاحتفالات، فضلاً عن انتشار للاستخبارات للمحافظة على الذوق العام"، مشيراً إلى أنه "سنُمنع إطلاق العيارات النارية وسنحاسب من يطلقها".
ويبدو وفقاً لمراقبين وصحفيين بينهم الصحفية ظمياء الدهش أنّ "هناك اتفاقاً مسبقاً على المستوى الرسمي والديني بما يخص منع المظاهر الخادشة للحياء وخرق الذوق العام".
وقالت الدهش لـ (كلمة): إنّ "تأكيد وزارة الداخلية بما يخص منع ما وصفته بمظاهر خرق الذوق العام، سبقه موقف ديني، ذهب في أغلبه إلى عدم جواز المشاركة من قبل المسلمين بإحياء هذه المناسبة".
وأشارت إلى أن ذلك يعود لأسباب عديدة بينها "الحالات السلبية التي شهدتها السنوات السابقة، والتي تخالف الذوق العام والأعراف الاجتماعية والتعاليم الدينية".
وفيما أشّرت الدهش هذه الأسباب التي يراها البعض مقنعة وصحيحة، فإنّ مواقف خاصة صدرت من قبل عدد من رجال الدين المسلمين، الذين ذهبوا إلى القول "بعدم جواز الاحتفال بأعياد رأس السنة" في حين لم يمانعها آخرون "بشرط عدم نشر مظاهر الفساد والضلال".
فقبل ثلاثة أيام فقط، هاجم إمام جامع أبي حنيفة النعمان في بغداد الشيخ عبد الستار عبد الجبار، الاحتفال برأس السنة الميلادية، واعتبر خلال خطبة صلاة الجمعة التي تابعها (كلمة) أن "ممارسات إحياء رأس السنة الميلادية من قبل المسلمين لا تتماشى مع تعاليم الإسلام".
وأوضح عبد الجبار أن "حرية العقيدة مكفولة للجميع"، لكنه شدّد على أن "مشاركة المسلم في هذه المناسبات، من خلال حضور الحفلات، وارتداء ملابس مثل بابا نويل، وإشعال الشموع، أو السهر حتى ساعات الفجر دون أداء صلاة الفجر، تعد دليلاً على البعد عن ذكر الله تعالى" بحسب قوله.
وأضاف بأن "من واجب المسلم أن يتذكر آلام أهله في غزة وسائر أنحاء العالم الإسلامي بدلًا من الانغماس في مظاهر اللهو والصخب"، مشيراً إلى أن هذه "المشاركة لا تجوز في ضوء تعاليم الدين".
أما ما يخص رأي علماء الدين للطائفة الشيعية في العراق، فقد سبق وأن أوضح مكتب المرجع الأعلى السيد علي السيستاني في النجف قبل عامين الرأي الفقهي بخصوص الاحتفال بأعياد رأس السنة الميلادية.
وذكر المكتب بتاريخ (25 ديسمبر/ كانون الأول 2022) أنه "لا مانع منه في حدّ ذاته"، مستدركاً "نعم إذا كان يقترن بشيءٍ من الفساد أو ترويج الضلال لم يجز".
أعياد رأس السنة أم غيرها تنصف المسيحيين؟
وفي ظلِّ هذه الأجواء الخاصة للاحتفال برأس السنة الميلادية، يذهب ناشطون ومراقبون عراقيونَ إلى تقديم طرحٍ آخر يعتبرونه من المهم التذكير به خلال هذه المناسبة وغيرها.
عدد من هؤلاء تحدّثوا لـ (كلمة) قائلين: إنّ "المسيحيين يمثلون جزءاً مهماً من هذا البلد، وضرورة إنصافهم والوقوف إلى جانبهم لا تقتصر على مشاركتهم بإحياء رأس السنة الميلادية".
وتابعوا بأنّ "المسيحيين العراقيين تعرضوا لسنوات طويلة من التهميش والتهجير والإرهاب، ولكن قليلين فقط آمنوا بأحقيتهم في العيش بسلام وأمان حال كحال العراقيين الآخرين".
ويتذكر الناشط فلاح الصافي كيف أن "المقاتلين الشيعة من ملبي فتوى (الدفاع الكفائي) شاركوا في تحرير الأراضي والمناطق التي يسكنها المسيحيون من قبضة عصابات داعش الإرهابية عام (2017)".
وتابع بأنّ "عام (2021) الذي شهد اللقاء التاريخي بين المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني وبابا الفاتيكان فرنسيس في النجف، أعطى زخماً أكبر وأملاً لهؤلاء العراقيين، حيث أكد السيستاني على وقوف إلى جانبهم ومساندتهم وكذلك على حقّهم في العيش بأمن وسلام".
وبتاريخ (3 يناير/ كانون الثاني 2017) التقطت عدسة الكاميرا صورةً لمقاتلين في الحشد الشعبي ـ لواء علي الأكبر وهم داخل كنيسة نجحوا بتحريرها من قبضة عصابات داعش الإرهابية؛ بعدما تعرضت للتدمير والتهديم.
مقاتلو اللواء حملوا صلباناً بأيديهم في رسالة واثقة على محبّتهم كمسلمين شيعة لأخوتهم المسيحيين من أبناء بلدهم، ولكن ذلك لا لا يقدّم الصورة الكافية حول تضحيات الشيعة.
ويرى الصحفي حيدر التميمي في حديثه لـ (كلمة) أنّ "المقاتلين الشيعة من المتطوعين الذين لبوا فتوى المرجعية الدينية العليا قدّموا أرواحهم للدفاع عن جميع العراقيين ومنهم أبناء المكوّن المسيحي".
وتابع بأنّ "المقاتلين الشيعة كان لهم الدور الكبير في إخراج الإرهابيين من القرى والبلدات المسيحية في نينوى؛ وأعادوا بذلك البسمة لوجوه المسيحيين الذين تعرضوا للظلم والتهجير إبان احتلال داعش عام (2014)".