لا يزال الانسان وبطبعه المادي يسعى جاهدا للحصول على اللقمة، ليسدّ جوعته وجوعة أهله وعياله وأطفاله، ولكنه في خضم التكالب الدنيوي قد لا يعبأ في كيفية الحصول على اللقمة، أهي من حلال أو حرام؟! كيف يتعامل إزاءها؟! أهم الطرق التي يسلكها في الحصول عليها؟! ولكي لا يظلم نفسه ولا يظلم الآخرين غبنا أو تعديا أو غصبا أو حراما أو رشوة أو غشا أو شبهة أو ما شابه ذلك من مسالك لقمة الحرام التي لها آثار وضعية جسيمة على روحه وبدنه ونفسه وحاضره ومستقبله، عليه ان يسلك الطرق الشرعية للحصول على لقمة الحلال؛ فالحلال القليل الذي فيه من البركة والهناء، خير من الحرام الكثير الذي تسلب منه البركة ويكون غصة في حلق من تناوله.
ليست العبرة في كثرة الأموال، بل العبرة في حلّية الأموال التي تحصل عليها وأطعمت بها نفسك وعيالك، صحيح ما قيل في محله (ما جمع مال إلا من بخل أو حرام) وصحيح أن المؤمن من حقه أن يتمتع بزينة الله وأنعمه وهو أحق من بقية الخلق من الكافرين والمشركين والملحدين، وصحيح أن الزهد أن تملك الأشياء لا أن تملكك الأشياء، ولكن الأصح أن تعيش مكرّما معزّزا تحصل على لقمتك بالسعي والجهد والحلال، مستغلا ما وهبك الله تعالى من نعمة العقل والقوة والتدبير، وهذا لا ينافي أن تعيش مرفها في بيت رائق وعندك سيارة فارهة وخدم وحشم وتتمتع بسفرات لغرض الترفيه والتجارة وصلة الرحم والتواصل مع الغير، ولكن لك أن تتمتع بكل ما ذكر شريطة أن يكون رزقك من حلال، وأن تؤدي ما عليك من حقوق أوجبها الله تعالى لتكريس حالة التكافل الاجتماعي، الذي يوليه الاسلام الأهمية القصوى في تشريعاته.
وليعلم كل من يدبّ على هذه البسيطة، أن العقل يدلك دائما على الفطرة السليمة التي تحافظ على كيانك كما تحافظ على كيان المجتمع برمّته، فلقمة الحرام منزوعة البركة والنماء، وتضرب على قلب صاحبها أكنّة من العتمة والاهمال والقساوة والضلال، بخلاف لقمة الحلال فإنها تنزل على قلب صاحبها كنزول الماء البارد على قلب الانسان في اليوم القائظ، تضفي عليه أكاليل الورود والأزهار العابقة والزاهرة، وتجعله مفعما بالحنان والطيب والهداية والاطمئنان، وشتان ما بينهما من آثار خسيسة دنيئة لمن تدنو نفسه من لقمة الحرام، وآثار راقية كريمة لمن يوطّن نفسه على لقمة الحلال، والأمر متروك للإنسان لأيهما يدنو وأيهما يتناول وأيهما يخالط لحمه ودمه وجسمه وروحه التي بين جنبيه؟! وهناك مجموعة من الاثار الموبوءة التي تضرب بأطنابها آكل لقمة الحرام سنتناول بعضاً منها:
1ـ ان للغذاء الحرام تأثيرا على مستقبل الطفل قبل انعقاد نطفته، فاذا انعقدت النطفة من الحرام سيكون ذلك بمثابة الارض الصلبة لتعاسة الطفل وشقائه، قال الله تعالى في القرآن الكريم: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) عبس: 24.
2ـ يؤدي الى الابتعاد عن الحق وعدم السير في الصراط السوي لظلمة القلب، إذْ أنّ من جملة الأسباب الرئيسة لعدم إذعانه للحق وعدم اتباعه الصراط السوي أكل المال بالباطل، فالأموال جائية له عبر طرق غير مشروعة وأسباب غير مرضية عند الله تعالى، أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) المطففين: 14.
3- يسلب البركة من المال، وروي عن الامام الصادق (عليه السلام): (من كسب مالا من غير حله، سلط عليه البناء والطين والماء) المحاسن للبرقي: ٢ / ٤٤٥ / ٢٥٢٨. كيف يسلط الله تعالى عليه هذه الأمور؟ يسلطها حتى يتلف ماله، اي يعيش دائما همّ البناء فيصرف عمره وماله ولا ينفعه هذا في الدنيا ولا في الاخرة وكأن هذه القطعة من الارض اصبحت مأمورة بابتلاع ماله.
4- يمنع قبول العبادات، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (اذا وقعت لقمة حرام في جوف العبد، لعنه كل ملك في السماوات والارض) مكارم الأخلاق - الشيخ الطبرسي - ص١٥٠. وقال ايضا: (العبادة مع أكل الحرام، كالبناء على الرمل، وقيل: على الماء) عدة الداعي لابن فهد الحلي، ص ١٤١.
5- آكل الحرام لا يستجاب دعاؤه، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من أكل لقمة حرام لم تقبل له صلاة اربعين ليلة، ولم تستجب له دعوة أربعين صباحاً، وكل لحم ينبته الحرام فالنار اولى به، وان اللقمة الواحدة تنبت اللحم) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٦٣ - ص ٣١٥. وأوحى الله إلى عيسى: (قل لظلمة بني إسرائيل: لا تدعوني والسحت تحت أقدامكم، والأصنام في بيوتكم، فاني آليت أن أجيب من دعاني، وأن اجعل إجابتي إياهم لعنا عليهم حتى يتفرقوا) الفقيه للصدوق ٤: ٢٩٨ / ٩٠٠.
6- اكل الحرام يقسي القلب ويحيطه بالظلمة وبعدها لا يعود قادرا على تقبل الحق ولا يتأثر باي تحذير او وعظ ولا يتجنب ارتكاب أي جناية، وكما قال سيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام ) ضمن خطبته لجيش ابن سعد: (ويلكم ما عليكم أن تنصتوا إليّ فتسمعوا قولي، وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد... وكلكم عاص لأمري غير مستمع قولي، فقد ملئت بطونكم من الحرام وطبع على قلوبكم) بحار الانوار للمجلسي: ٤٥ / ٨.
7ـ أكل الحرام طريق لكل حرام، حدّث النبي (ص) حديثاً قدسياً عن الله تعالى أنه قال عز وجل: (من لم يبال من أي باب اكتسب الدينار والدرهم، لم أبال يوم القيامة من أي أبواب النار أدخلته) مستدرك الوسائل للميرزا النوري ج13 ص22.
من هذه الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الشريفة وغيرها يتبين لنا ان أسوأ حالة يصل اليها آكل الحرام هي ان الاعتياد عليه ربما يؤدي الى قساوة القلب بل اسوداده وانتكاسه وتطبعه على الباطل، وهكذا وصل حال بعض الأغنياء والساسة الذين أثروا من المال الحرام، ان لا يتحسسوا بمرارة العوز وصعوبة عيش الفقراء من الناس؛ لأنهم أشبعوا رغباتهم من الحرام وصاروا لا يدركون ما تعانيه الأمة من محن ومصاعب وآلام، واذا ما تهاون الجميع في استئصال هذه الآفة الفتاكة فإنها تتعدى الأفراد لتسري الى الأسر ومنها الى المجتمع، ووقتئذ يصعب علاجها والحد من تداعياتها الخطيرة، والحل الناجع لاستئصال هذا المرض الزؤام هو الالتزام بالتعاليم الدينية، والابتعاد عن تداعيات لقمة الحرام الوخيمة، واعلم ان البركة والنعم كلها تكمن في التعاطي مع لقمة الحلال ولا شيء غيرها، وهذا ما لا يخفى على كل ذي لب وصواب وعقل سليم.