الثلاثاء 19 ربيع الآخر 1446هـ 22 أكتوبر 2024
موقع كلمة الإخباري
مناشئ الحرمة وآثارها الحتمية
حسن الهاشمي
2024 / 10 / 19
0

لا يخفى أن للحرمة مناشئ، فقد تكون الحرمة حرمة ذاتية كما في الخمر والميتة، وقد تكون الحرمة بسبب اكتساب محرم، كما في الغصب والمعاملات المحرمة، كالقمار وما شابه.

وبالجملة ما دامت اللقمة الحرام والشربة الحرام لها تأُثـيراتها الكبيرة على القلب والروح، فلن يتمكن الإنسان التخلص من اختناق القلب وجفاف الروح، ما لم يـبدأ بالتخلص من ملوثات البطن.

وهذا الذي ذكرناه يجيب على سؤال يطرح عادة بأننا نجد الكثير من الناس يعيشون حالة من الشلل والنكوص الروحي، فما هو السبب في ذلك؟...

إن أحد الأسباب يرجع لحالة التهاون والتساهل التي يعيشها كثيرون من هؤلاء، في مسألة الأكل والشرب، ولا يحسبون حساباً للحلال والحرام، مما أنتج عندهم حالة الشلل والنكوص الروحي، ولذا من الغريب أن لا نجد من هؤلاء الذين يعيشون حالة الخواء الروحي محاولة البحث عن الأسباب التي أوصلتهم لمثل هذه الحالة، مع أنهم لو بحثوا لوجدوا أن الكثير من هذا الخواء الروحي صنعته مأكولات ومشروبات تختـزن في داخلها المكونات الحرام، وقد أدمنوا تناولها بدون رادع من حس شرعي، ولا مانع من حيطة في الدين.

ولا يفوتنا ونحن بصدد الحديث عن آثار الأطعمة ومدى تأثيرها على الروح والقلب، من التنبيه إلى خطورة الأغذية المعلبة، وأنه ينبغي قدر المستطاع الحذر منها، خصوصاً تلك التي تأتي من بلاد الغرب، حيث ما أسهل أن يعمد هؤلاء إلى ممارسة الإجهاض الروحي من خلال هذه الأغذية التي يـبعثون بها إلى بلدان المسلمين، معبئة في داخلها بالمكونات المحرمة، مما يمكنه دون عناء أو جهد إلى تفريغ الأمة من نبضها ومخزونها الروحي، وبطريقة هادئة وبطيئة، لا تستثير روح الغضب عند المسلمين.

هذا وقد يسأل البعض عن أن التأثيرات الوضعية للأطعمة أو الأشربة المحرمة أو المشتبهة بالحرام، هل تحصل وتـتحقق حتى في حالة الجهل بالموضوع، كما لو كان المكلف لا يعلم بكون هذا الطعام مثلاً حراماً، أو أنه لا يعلم بكونه من الطعام المشتبه، أو لا؟...

وهل يحصل ذلك أيضاً في صورة وجود العذر الشرعي لتناول تلك الأطعمة، كما لو اضطر إلى أكل الميتة، فهل تـترتب عليه الآثار الوضعية حينئذٍ أيضاً، أو أن الآثار الوضعية تنحصر في خصوص ما إذا لم يكن المكلف معذوراً في تناوله للحرام أو المشتبه بالحرام؟... وعندما نحاول الإجابة على هذين التساؤلين، نجد رأيـين يطرحهما علماء الاخلاق في المقام:

الأول: هو الذي يذهب إلى أن التأثيرات الروحية مرتبطة بالحرام الذي تـتـنجز حرمته على المكلف، بمعنى أن المكلف قد علم بكونه محرماً، وأما الحرمة الواقعية التي لم يعلم بها المكلف، والتي لا تشكل تكليفاً شرعياً للإنسان، فليس لها أي تأثير على الحالة الروحية، فما دام الإنسان معذوراً شرعاً في تناول هذا الطعام أو ذلك، فلا يمكن أن يفترض وجود التأثير من خلال العناصر الواقعية.

الرأي الثاني: وهو الذي يقول بثبوت التأثير مطلقاً، لأن المكونات الروحية لها تأثيراتها الواقعية، كما هو السم يؤثر تكويناً حتى في حالات العذر الشرعي في تناوله، كما في حالات الجهل والاضطرار، فلو فرض أن مادة غذائية تختزن في داخلها وفي مكوناتها أجزاء من الخنـزير، أو أجزاء من المسكر، وتناولها الإنسان وهو لا يعلم، أو أنه أقدم على تناولها وهو معذور شرعاً، فإن هذا الجهل وتلك المعذورية لا تلغي التأثيرات التكوينية للمادة المأخوذة من الخنـزير وللعنصر المأخوذ من المسكر. 

هذا ولو قيل: بأن الله سبحانه وتعالى قد سمح لهذا الإنسان بأن يتناول هذا الطعام أو هذا الشراب، فلا معنى أن نفترض وجود آثار سلبية لتناول المباح، قلنا: بأن الآثار الروحية كما هي الآثار المادية، تفعل أثرها حتى في حالة الجهل والمعذورية، ولنقرب ذلك بمثال عرفي: لو أن شخصاً تناول طعاماً ملوثاً، وهو يجهل بتلوثه أو أنه كان معذوراً في تناوله، فهل تـتجمد تأثيرات الطعام الملوث السلبية على صحة الإنسان البدنية، أو أن الآثار سوف تـتحقق؟...لا ريب في أن الآثار لن تـتجمد، بل سوف تـترك تأثيراتها السلبية على جسده، فكذلك التأثيرات السلبية للمكونات الحرام، لا تـتجمد على صحة  الإنسان الروحية.

 الانسان اذا توغل في أكل الحرام والمشتبه بالحرام ولم يبال ولم يحترز من الحصول على لقمة العيش الحلال قد يضرب أكنة وأطواق على قلبه تحجبه عن الحق ويضل في طغيانه يرتع ويلعب حتى يرد المهالك والأهوال، قال تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) المطففين: 14.

 تكشف هذه الآية الكريمة عن حقائق علمية ومشاعر نفسية عميقة يحسّ بها كل انسان، وفي كل كلمة منها دلالات كبيرة، وحبّذا لو ربط الناس بينها وبين تصرفاتهم في حياتهم اليومية، وكلمة (كلا) تفيد الردع والزجر، وهي اجابة رادعة عن قول بعضهم في وصف تصرفات بعض الناس السيئة نتيجة معتقداتهم الفاسدة، انهم يكذبون بيوم الدين، وان هذا من اساطير الاولين، فجاءت هذه الآية تقول لهم بقوة: لا.

بل ان هذا التكذيب وهذا الادعاء هو بسبب ذنوبهم التي سيطرت على قلوبهم فأعمتها عن معرفة الحقيقة، ولكن التقدم العلمي المعاصر، وتعدد وسائل المعرفة تجعلنا نتساءل: كيف تكون القلوب أحيانا طاهرة نقية مليئة بالمشاعر الصادقة، وكيف تكون في احيان اخرى قلوباً صدئة مغلقة محصورة فيما اقترفته من مآثم وذنوب وخطايا في اثناء حياتها الطويلة، هنا يكشف العلم عن معنى (الران) او (الرين) الذي تحدثت عنه هذه الآية الكريمة قبل خمسة عشر قرنا، وهي الآية الوحيدة في القرآن الكريم التي وردت فيها هذه الكلمة. 

تقول معاجم اللغة: ران قلبه قسا لاقتراف الذنب بعد الذنب، وران الثوب يرين رينا: تطبع وتدنس، ورانت النفس خبثت وغثت، والران: الغطاء والحجاب الكثيف، وهو ايضا ما غطى على القلب وركبه من القسوة للذنب بعد الذنب، والرّين ايضا هو الران، وقد تنبّه السادة المفسرون لهذا المعنى منذ القدم، فقد جاء في تفسير القرطبي، ج 19 ص 257. عند تفسير هذه الآية الكريمة: (كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون): هو الذنب على الذنب حتى يسودّ القلب، قال مجاهد: هو الرجل يذنب الذنب فيحيط الذنب بقلبه ثم يذنب الذنب فيحيط الذنب بقلبه حتى تغشى الذنوب قلبه، ونحوه عن الفراء يقول: كثرت المعاصي منهم والذنوب فأحاطت بقلوبهم فذلك الرين عليها.

ولكن لنا ان نتساءل نحن الآن، ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين، ونشهد من انتشار العلم واتساع ابواب المعرفة، وتطور علوم النفس وعلوم الاجتماع والفلسفة والطب والفلك، وغيرها من العلوم التطبيقية، لنا ان نتساءل عن الآلية العلمية التي تنشأ في القلب الانساني، او في الجسد الانساني ويتأثر بها القلب، وما زال تشتد عليه النقاط السوداء حتى يختم عليه فلا يرى شيئاً او يحس به بعد ذلك؟

لقد أثبت العلم الآن، ان كل ما يشاهده المرء، او يسمعه، او يلمسه يسجل عليه في ذاكرة جسده، مثلما تسجل الاصوات والحركات في مواقع التواصل الاجتماعي او غير ذلك مما اصطنعه الانسان، واصبح حقيقة واقعة يتعامل بها الكبار والصغار، حتى اصبحت من بديهيات الثقافة الاجتماعية.

وان كل فرد من الناس لعلى يقين من ذلك، يراه ويلمسه في نفسه قبل ان يثبته له العلم بالوسائل والنظريات، ان كل انسان منا يختزن في (ذاكرته) آلاف الصور والمشاهد التي رآها في حياته، وهو يتذكرها اذا ألحت عليه الظروف والمشاعر التي أحسّ بها عندما سجلت عليه ذاكرته هذه الافعال، وان افعال المرء متنوعة بين الافعال الحسنة والافعال الرديئة، فاذا غلبت على (ذاكرته) الافعال الحسنة كان سعيداً في دنياه، عامراً قلبه بالخير، لا يتذكر الا الفضائل والاعمال الحسان، فهو يتذكر - مثلاً - صلاته وصيامه وصدقاته وصلته لأرحامه وأقواله الصادقة وأكله للحلال الطاهر وصلاته الاجتماعية الخيرة وما الى ذلك من تصرفات ومشاهد.

وإذا غلبت على (ذاكرته) الافعال السيئة كان شقيا في دنياه فغطى قلبه بالمشاهد السيئة التي تبعده عن ذكر الله، فمهما حاول الابتعاد عنها استحوذت عليه لأنها ملأت قلبه ونفسه فلا يستطيع ان يخرج من نطاق سيطرتها، وهو - في الوقت نفسه - كلما تذكرها شدته الى تلك المواقف والحالات التي كان عليها عند مقارفة تلك الشهوات.

وهكذا يكون قلبه قد (طبع) على هذه المشاهد لا يستطيع الفكاك منها، والافعال السيئة هي التي (ترين) على قلوب الناس، وانظر الى الاعجاز القرآني عندما يقول الله عز وجل (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) ومادة (يكسبون) وما يشتق منها وَرَدَ جُلُّ الآيات فيها في فعل الشر والخطأ والرذيلة بخلاف ما يتبادر الى ذهن كثير من الناس.

وفي تفسير آخر للآية  فقد جاء بالمعاني التالية :( كَلَّا) ليس الآيات أساطير، (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم) ، (الرين) في الأصل بمعنى الغلبة، أي غلب عليها (مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) من الذنوب والآثام حتى أن عصيانهم سبب أن يتحجر قلبهم، فلا يرون الحق إلا باطلاً والآيات إلا أساطير، قال الصادق (عليه السلام): (يصدأ القلب فإذا ذكرته بآلاء الله انجلى عنه) تفسير مجمع البيان - الشيخ الطبرسي - ج ١٠ - ص ٢٩٣.

ونستنتج مما سبق ومن الآيات وتفسيرها، ان هنالك رين يكون في قلب الانسان يمنعه من ادراك معاناة الاخرين فضلاً عن الاستماع الى الموعظة، كما يكون ذلك الرين حائلاً بين الانسان وبين اختياره وفهمه وتمييزه  للحق على الباطل، فربما يجعل ذلك الرين بالإنسان المصاب ان لا يدرك الحق من الباطل فهو يعيش حياة بعيدة كل البعد عن القيم، وهذا ما يتجلى في الهوة الحاصلة بين ما يعيشه السياسي من بطر وتخمة وفساد وما يعانيه المواطن المسكين من شظف وتقشف وضياع، فهم يتمتعون في ارقى انواع الرفاهية من العيش الرغيد الآمن على الرغم من كثرة معاناة ابناء الامة وتعرضهم لأعتى عدو لا يرحم الصغير ولا يبقي على الكبير ألا وهو الفقر والفاقة والاحتياج، ومع ذلك فان الكثير من السياسيين لا يعبؤون بما تعاني منه الامة، ذلك هو الرين الذي لا يسمح بأولئك ان يتأثروا بالموعظة او بمعاناة الناس!.



التعليقات