يا لها من تعاسة ليس بعدها تعاسة، الإنسان يعلم بأن الدنيا فانية، وهي قنطرته إلى الآخرة، وهي دار امتحان وابتلاء محفوفة بالمخاطر والهلكات، وأن الله تعالى يعطي المحسن احسانا ولو بمقدار مثقال ذرة، ويركس المسيء بسيئاته ولو بمقدار مثقال ذرة، ويعلم أن الله قد أزلف الجنة للمتقين، وبرّز الجحيم للغاوين، تراه يعلم كل هذا وتطاوع الكثير منهم أن يطرق أبواب الحرام والشبهة ليوقع نفسه في المهالك المردية!!! إلا ما رحم ربي من عباد الله الصادقين، فإنهم يترفّعون عن الحرام ترفّعهم عن الذنوب والمعاصي والآثام، وإنهم على يقين بأن الدنيا في حلالها حساب وفي حرامها عقاب وفي شبهاتها عتاب، تراهم يسعون في حلاله عن حرامه وشبهاته، طمعا بجنته ورضوانه.
والانسان السوي يعلم قبل غيره ان المال الحرام والطعام الحرام والشراب الحرام كله له أثر وضعي على الانسان سواء كان ذلك الأثر في جسمه او في سلوكه او يقع على ابنائه او مستقبله او حياته، فعلى سبيل المثال ان عملية شرب الخمر عليها عقوبة إلهية وأثر أُخروي، ولكنه بنفس الوقت نجد لعملية شرب الخمر أثر في الدنيا يظهر من خلال السلوك غير المنضبط لشارب الخمر مما يؤدي به الى فقدان عقله وفقدان السيطرة على اراداته وشعوره، ويقوم بارتكاب المعاصي والتعدي على الغير ومن دون تحفظ، وذلك بسبب شربه للخمر، لذلك وصف القرآن الكريم شرب الخمر بانه رجس من عمل الشيطان وطالب المؤمنين باجتنابه لعلهم يفلحون: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) المائدة: 90.
وهكذا بالنسبة الى عملية السرقة فلها اثار جزائية في الآخرة، ولها عقوبة في الدنيا في محاكم القضاء ان أُلقي القبض على السارق، بالإضافة إلى أن اثر السرقة يبقى وصمة عار على جبين السارق، فان المال المسروق سوف يترك اثرا في بناء جسم السارق وأجسام من يعيلهم من الحرام مما قد يؤدي بذلك السارق وعائلته بآثار وضعية تنعكس على سلوكهم من خلال إثارة ميولهم ورغباتهم في الاعتداء والسرقة والانحراف، وعدم قبول الحق، وترك النفس تخوض في الأهواء والارزاء دون مراقبة ومحاسبة، وها هو "شريك بن عبد الله النخعي" قد وقع في شراك لقمة الحرام وما أعقبها من تأثيرات سلبية على جسده وروحه ومعنوياته.
كان شريك من فقهاء القرن الثاني الهجري المعروف بالزهد والعبادة والعلم، وكان الخليفة المهدي العباسي راغبا في ان يوليه منصب القضاء، ولكنه كان يرفض تسلّمه لأنه يعلم ان في ذلك مساعدة للظالم، كما ان الخليفة كان يريده ان يعلّم اطفاله وكان شريك يرفض ايضا، وفي يوم من الايام ارسل المهدي الى شريك وقال له: لابد ان تجيبني الى واحدة من ثلاث: اما ان تتولى القضاء، او تحدث ولدي وتعلمهما، او تأكل معنا اكلة، ففكر شريك فقال ان الاكلة اخفهن عليّ، فامر المهدي الطباخ بإعداد الوان الطعام الشهيّة، فلما فرغ شريك من طعامه قال القيم على المطبخ: لن ينجو الشيخ بعد هذه الاكلة أبدا!.
وفعلا فلم تمض مدة طويلة حتى ولي منصب القضاء وصار معلما لأولاد الخليفة، وصار له راتب من بيت المال، وفي يوم من الايام حدث نزاع بينه وبين خازن بيت المال حول درهم مغشوش وجده شريك في مرتبه، فأعاده الى الخازن طالبا تبديله، فتعجّب القائم على بيت المال وقال له: انك لم تبع برا ـ قمحا ـ ؟ وهو يقصد ان راتب شريك يبلغ الف درهم فكيف لم يترفّع عن هذا الدرهم المغشوش؟! فقال له شريك: بلى لقد بعت اكبر من البر، لقد بعت ديني!.
الطامة الكبرى أن يكون الفقيه المتضلّع بعلوم الشريعة والتفسير والمتبحّر في النقليات والعقليات تراه لا يزال يتسافد وينحدر إلى أن يطرق أبواب السلطان الجائر، بل يصبح من أعوانه وحاشيته ومن المبرّرين لطيشه ومجونه وظلمه، هكذا تفعل لقمة الحرام فعلتها بالإنسان فتجعله تابعا بعد أن كان متبوعا، وتصيّره عبدا بعد أن كان سيدا، وتراه يتسكّع على أبواب السلاطين وأراد الله تعالى له العزة والسؤدد، ولو أنه اتقاه وخشيه لألزم الله تعالى السلاطين بأن تستلهم منه الحكمة والرشاد، وأنه لا يأبه لهم سوى أن يرشدهم طريق الصواب ويهديهم سبيل النجاة.
وأهم الأمور التي نستنتجها من تلك القصّة المعبّرة ما يلي:
1ـ من يتّقي الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن لا يتّقيه حتى لو كان ظاهرا من العلماء، فإنه يتحرّى المال من الظلمة؛ لأن ثقته بالله معدومة.
2ـ لقمة الحرام بما لها من آثار وضعيّة دنيويّة، وبما أنها تتغلغل في دم وعروق الإنسان، يتطبّع صاحبها على الحرام، فتنقلب عنده الموازين ليرى الباطل حقا والحق باطلا.
3ـ الجشع والطمع ملازمان لطالب الدنيا فإنه يراها الملاذ لملذاته والطريق السهل للوصول إلى ما يصبو إليه من دنياه التي أبهرته زبرجها، فانقاد إليها بكل وجوده ومراميه.
4ـ أتعس شيء في الوجود أن يبيع الإنسان آخرته ودينه لدنيا غيره، والعلاقة بين الطغاة وأتباعهم علاقة نفعية قائمة على العطاء المتبادل، وإلا فالقصاص في الدنيا والبراءة في الآخرة هو مصيرهم أجمعين.
5ـ فلينظر الإنسان إلى طعامه لأن له الأثر البالغ في تكوينه، فلقمة الحلال تنتج الأطايب من الرجال، ولقمة الحرام توقع الهامات في الهلكات.
6ـ لقمة الحرام تسهّل الطريق مشرعا لارتكاب المعاصي والذنوب والمفاسد، على العكس من لقمة الحلال فإنها توصد الباب أمام إغراءات الشيطان، وتكون سببا في توفيقه في الدنيا ونجاته في الآخرة.
7ـ من أراد عزا بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فليخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته، لقمة الحلال هي عز الطّاعة بينما لقمة الحرام هي نفسها ذل المعصية، فأين العز من الذل؟!.
8ـ فمن زُحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز، لقمة الحلال تزحزح الانسان عن النار وتدخله الجنة وذلك هو الفوز العظيم، على العكس مما ينتظر صاحب اللقمة الحرام من ذلّة في العيش وخزي في المآب، ذلك هو الخسران المبين.
9ـ الكسب الحرام سبب لزوال النعم وسلب البركة منها، فمهما كثرت أموال الحرام فإنها تبقى عرضة للتلف والضياع في طرفة عين.
10ـ يبقى صاحب لقمة الحرام يعيش في ضنك ومشاكل وعقبات لا يهنأ له بال ولا يرتاح له ضمير ما دام أنه سارق ومتعد وأثيم.