ما رأيك بإصلاح الدنيا؟! اصلاح الدنيا مطلوب؛ لأن فيها معاشنا وأودنا وكرامتنا، ولكي يكتمل اصلاح الدنيا لابد ان يتأطّر بالقوانين الالهية، فيكون مصدرا للصلاح والاصلاح والكمال، أما اذا ما تجرّد عن القوانين الإلهية فانه لا يعدو كونه سرابا يحسبه الظمآن ماء وما هو بماء، صحيح ان اصلاح الدنيا المجرد فيها منافع ولكنها مشوبة بالنكبات والزوال، واذا ما اندكت بالقيم والاخلاق فان اصلاح الدنيا يكون ممهدا لإصلاح الآخرة، وهو ما يضفي السعادة على الاصلاحين معا، وقد حذّر امير المؤمنين الانشغال بالدنيا عن الآخرة، لما فيها من خسارة عظيمة وجسيمة وفظيعة لا يمكن تعويضها لاسيما بعد مباغتة الموت للإنسان على حين غرة.
قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:
يا من بدنياه اشتغل* قد غرّه طول الأمل
الموت يأتي بغتة* والقبر صندوق العمل
وقال عليه السلام في موضع آخر:
هي القناعة فاملكها تعش ملكا* لو لم يكن منها الا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها* هل راح منها بغير القطن والكفن. ديوان أمير المؤمنين عليه السلام: 312.
الاسلام دين ينظم شؤون الدنيا ويصلح الآخرة، كيف لا وان انفاس الدنيا هي التي ترتقي سلم المجد في الآخرة، لذا فان هذه الأنفاس غالية جدا وثمنها لا يقاس بمليء الدنيا ذهبا وفضة، شريطة ان توصل الانسان الى النجاة والسعادة الأبدية في الآخرة، أما اذا ما صرفت تلك الأنفاس في التفاهات والمعاصي، والانكباب على ملذاتها الفانية والاستغراق بمتعها الزائلة، فإنها تكون وبالا على صاحبها لا يجني من ورائها سوى الخيبة والخسارة والندامة.
هل يمكن التوفيق بين متطلبات الدنيا ومتطلبات الآخرة، والحال ان كل منهما بحاجة الى جهد جهيد ليؤمن الانسان عيشة مرضية تحفظ له كرامته في الدنيا ونجاته في الآخرة؟! نعم يمكن للإنسان ان يصلح دنياه التي فيها معاشه، وان يصلح آخرته التي فيها معاده، وأن يجعل الحياة سعادة له في كل خير، وأن يجعل الموت راحة له من كل شر، ولكنه في هذه الحالة يحتاج الى جهد مضاعف، يراقب نفسه ويكبح جماح نزواته ورغباته الشيطانية، ويلبي احتياجاته المادية وفقا لما أقرّته الشريعة من تزكية النفس والارتقاء بها الى مدارج الكمال، وانتشالها من مهاوي الفسق والفجور والظلم والطغيان.
الله تعالى وهب لك الحياة وأعطاك جوهرة العقل، فبإمكانك ان تجهد نفسك لتصبح طبيبا ماهرا أو سياسيا محنكا أو قائدا عسكريا صامدا أو تاجرا مرموقا الى ما شابه ذلك من الاعمال الفكرية والعضلية التي لابد منها لامرار معاش الانسان وحفظ كرامته في الحياة الدنيا، شريطة ان تتخذ من تلك المهارات وسيلة للبلوغ الى الهدف الأسمى وهي طاعة الله تعالى وعبادته وخدمة العباد، أما اذا ما اتخذت من تلك المهارات وسيلة للإثراء الفاحش والانغماس بالملذات الشيطانية والمعاصي والظلم والتجبّر والتسلط، فهذا هو المنهي عنه في الشريعة، لأنك ومن خلال هذه الموبقات ستحتطب نار جهنم على ظهرك وتشتعل بجسدك لهيبا مستعرا حال نزولك في القبر وحيدا.
عادة الذي يستغرق في الدنيا هو المبتلى بطول الأمل، ولا يفكر بالموت بالرغم من رسله المتعددة، فإصلاح الدنيا مطلوب بمقدار ما تعيش فيها، واصلاح الآخرة مطلوب كذلك بمقدار ما تعيش فيها، وهل من عاقل يفضل دارا بالبلاء محفوفة وبالغدر معروفة على دار نعيمها دائم وعطاؤها أزلي وعيشها خالد سرمدي؟! رسول الله (صلى الله عليه وآله) يؤكد على ضرورة اصلاح الدنيا بما تستحق واصلاح الآخرة بما تستحق بقوله: (أصلحوا الدنيا واعملوا لآخرتكم كأنكم تموتون غدا) كنز العمال للمتقي الهندي: ٤٢١١١. تصور كيف تكون عبادة شخص ما اذا ما اخبر انه سوف يموت غدا؟! من المفترض أن يصاحب الانقطاع الى الله تعالى المرء الى آخر لحظات حياته؛ ويستحضر كيف تبدر منه معصية وهو في محضر الله تعالى اينما حل وارتحل؟! وقتئذ يحيى المرء حياة طيبة في الدنيا والآخرة.
القيّوم هو الذي يقوم بتدبير أمر خلقه، حينما تستذكر ان لله تعالى عليك القيمومية الكاملة، لن ترضى وقتئذ بقيمومية انسان مثلك كله احتياج وفقر وضعف، واذا أرضيت انسانا قيامه بيد الله تعالى وعصيت الخالق وهو القيوم، فقد عصيت الذي اذا اراد الفناء لمخلوق فني فورا، اذا كان همك ان ترضي الضعيف الفاني فأنت في ضياع، لذلك لا يليق بك ان تكون لغير الله تعالى، ولو كنت لغير الله تحتقر نفسك، قال تعالى: (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ) البقرة: 130.
ولكي تكون خاضعا لقومومية الله تعالى عليك ان تجعل مفاتيح حياتك كلها بيد الله، وان لا تقدم على أي عمل الا وترى الله قبله واثناءه وبعده، وأن لا يمر عليك آن من الوقت الا بمشيئة الله وحفظه، وان تستذكر الموت في كل لحظه فانه الواعظ الحقيقي لتقويم كل قول وعمل، لهذا يحذر الرسول الاعظم من مغبة الغفلة عن الموت بقوله: (من عد غدا من أجله فقد أساء صحبة الموت) بحار الانوار للمجلسي: 77 / 153 / 120. اذا انت قلت في نفسك غدا سأذهب الى السوق لأشتري البضائع المطلوبة، أنت في هذه الحالة لا تعرف معنى الموت، من أدراك انت تبقى الى الغد، لعلك تموت بعد قرارك بلحظة واحدة، فالموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل، ومن المستحسن ان لا تقول شيئا ولا تعمل شيئا الا وان تعتقد انها لا تجري الا بمشيئة الله، فانك من دون الله تعالى لا شيء، ولكي لا تسيء صحبة الموت، لابد ان تكون علاقتك طيبة مع الموت ليأخذك مكانا طيبا، هذه هي الصحبة الناجية ودونها خرط للقتاد.
امير المؤمنين عليه السلام يؤكد علينا استحضار الموت على كل حال، ويقرب لنا الفكرة اكثر فاكثر بقوله: (بالموت تختم الدنيا، والدنيا تحرز الآخرة، وبالقيامة تزلف الجنة للمتقين، وتبرز الجحيم للغاوين) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٧ - ص ٤٧. وقال لقمان الحكيم لأبنه: (يا بني إن تك في شك من الموت فأدفع عن نفسك النوم ولن تستطيع ذلك، وإن كنت في شكٍ من البعث فادفع عن نفسك الإنتباه ولن تستطيع ذلك، فإنك إذا فكرت في هذا علمت أن نفسك بيد غيرك) بحار الانوار للمجلسي :ج13 ،ص 417 باب قصص لقمان وحكمه.
فالنوم هو الموت الأصغر فكما أن الإنسان يجب عليه أن يستغفر من ذنوبه قبل الموت وأن يخرج من الدنيا طاهراً من كل دنس خلياً من كل ذنب، كذلك عند النوم لأنه يذكره بالموت الحقيقي، ولعلنا لمسنا أهمية الاستغفار قبل النوم من كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لذلك الأعرابي يذكر: (إن أعرابيا شكا إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام شكوى لحقته، وضيقا في الحال، وكثرة من العيال، فقال له: عليك بالاستغفار! فإن الله عز وجل يقول: ﴿استغفروا ربكم إنه كان غفارا﴾ فمضى الرجل وعاد إليه فقال: يا أمير المؤمنين، إني قد استغفرت الله كثيرا، ولم أر فرجا مما أنا فيه؟ فقال له: لعلك لا تحسن الاستغفار؟ قال: علمني. فقال: أخلص نيتك، وأطع ربك، وقل: اللهم إني أستغفرك من كل ذنب قوي عليه بدني بعافيتك، أو نالته قدرتي بفضل نعمتك، أو بسطت إليه يدي بسابغ رزقك، واتكلت فيه عند خوفي منه على أمانك، ووثقت فيه بحملك، وعولت فيه على كريم عفوك.
اللهم إني أستغفرك من كل ذنب خنت فيه أمانتي، أو بخست فيه نفسي، أو قدمت فيه لذتي، أو آثرت فيه شهوتي، أو سعيت فيه لغيري، أو استغويت إليه من تبعني، أو غلبت فيه بفضل حيلتي، أو أحلت فيه على مولاي فلم يعاجلني على فعلي، إذ كنت سبحانك كارها لمعصيتي غير مريدها مني، لكن سبق علمك في باختياري، واستعمال مرادي وإيثاري، فحلمت عني ولم تدخلني فيه جبرا، ولم تحملني عليه قهرا، ولم تظلمني عليه شيئا، يا أرحم الراحمين) موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (ع) في الكتاب والسنة والتاريخ - محمد الريشهري - ج ٩ - ص ٢٥٢. وكأنما الإمام يريد أن يقول للأعرابي إياك أن يدركك الموت وأنت لم تستغفر ذنوبك، فأنت عند النوم ستموت الموتة الصغرى فتهيأ لها بالاستغفار حتى يكون ذلك دافعاً لك للتهيؤ الى الموتة الكبرى.