من الذي يفرّ من الموت؟! من الذي يهاب ظلمة القبر ووحشته ومنازله المهولة؟! من الذي يقلق حينما تداهمه سكرات الموت وغمراته الفظيعة؟! من الذي يتوتّر حين الاحتضار ومعاينة ملك الموت وملائكة العذاب؟! من الذي يتعذّب حين انتزاع الروح بشدة وقسوة وأوجاع؟! من الذي تؤرقه ضغطة القبر الى أن تفري لحمه وتطحن دماغه وتذيب دهونه وتخلط أضلاعه كما ورد في الروايات المعتبرة؟! من الذي يتلجلج لسانه ويكون عييا عن جواب منكر ونكير حين يسألاه عن ربه ونبيه وإمامه، وعمره فيما أفناه، وماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟! الذي يفر ويهاب ويتعذب ويتوتّر من الموت هو الذي يخوض في المعاصي والذنوب وينتهك حرمات الله تعالى من دون توبة وإنابة وندم، أما المؤمن الذي ترسّخ الايمان في قلبه، وكفّ جوارحه عن السوء، واستبشر بلقاء ربه، فان الملائكة تقبض روحه بكل تأنّ ويسر، ولا ظلمة ولا عذاب ولا شدة ولا قلق حينما يداهمه الموت وينزل في القبر، بل ينطلق لسانه بالحقّ وتستقبله الملائكة بالروح والريحان، وتبشّره بالجنة والرضوان وتفسح له في قبره مدّ البصر الى يوم القيامة.
الموت صورة مرعبة تجسّد نهاية مسيرة الكائن الإنساني في الحياة الدنيا، وتعبّر عن مصيره المحتوم الذي لابدّ من لقائه (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلأقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) الجمعة: 8.
وبطبيعة الحال ان الذي يفر من الموت، فان الموت يطرق بابه ولو كان في بروج مشيدة، ولو كان محصنا بالقصور ومدججا بالأسلحة ومحاطا بالجنود ومحروسا بأدق أنواع الأجهزة الامنية والاستخبارية في العالم، فان الموت لا يعرف قويا أو ضعيفا، شريفا أو وضيعا، حاكما أو محكوما، فكل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، فالموت هو البوابة الى الوفود على الكريم، وعزاؤنا اذا كان الوفود على الكريم من دون زاد، فالوفود على الكريم هو الوفود على خالق السماوات والارض الذي لا يعزب عن علمه شيء، عالم الغيب وما كان وما سيكون وما تضمر النفوس، وعالم الشهادة فانه الشاهد على عمل الانسان، الشاهد على كل صغيرة أو كبيرة، شاردة أو واردة، خير أو شر يصدر منه، فالموت هو أول منازل الطريق إلى المعاد، وأول مشاهد النشأة الآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الموت القيامة، إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته، يرى ما له من خيرٍ وشرّ) كنز العمال / المتقي الهندي 15 : 548/42123.
الأمر بيد الانسان أقلل من الذنوب يسهل عليك الموت، أكثر من الذنوب يصعب عليك الموت، عندما يكون الموت بوابة الى الآخرة، وعندما يكون الموت انتقالة من حياة فانية الى حياة باقية، اجعلها بعبادتك لله تعالى وأعمالك الصالحة وخدمتك للعباد والبلاد انتقالة خير، اجعلها نعمة وبركة وكرامة، ولا تجعلها انتقالة شر، واحذر ان تكون عليك وبالا تجرّ اليك الخيبة والندامة والخسران، وما دام الانسان يعمل البر والخير والاحسان فانه يتطلّع للقاء ربه، ويتشوّق الى نعيم الجنة.
من منّا لا يرغب ان ينتقل من سجن الدنيا الى جنّة الآخرة؟! الذي يلبي رغبة الانسان المؤمن هذه هو الموت الذي يعبر به من الشقاء الى اللقاء، فالحياة الطيبة تكون كذلك اذا كانت عاقبتها طيبة وإن امتلئت بالبلايا والمحن والصعوبات! والحياة التعيسة تكون كذلك اذا كانت عاقبتها تعيسة وان امتلئت بالأموال والاولاد والمسرات! فالدهر يومان يوم لك ويوم عليك، فان كان لك فلا تبطر، وان كان عليك فاصبر، فكلاهما سينحر، المهم في الدنيا عدم البطر في الغنى والاقبال، والصبر في حالتي الفقر والادبار، وبهذه الخطوات يمكن ان يكون الموت انتقالة من كوخ الى قصر، ومن منا لا يشتاق البقاء المؤبد في القصر؟! ومن منا لا يمقت المكوث المؤقت في الكوخ؟! وبذلك نقترب الى ما قاله الإمام علي (عليه السلام): (شوّقوا أنفسكم إلى نعيم الجنة تحبّوا الموت وتمقتوا الحياة) غرر الحكم للآمدي: ٥٧٧٩.
السعادة في الحياة تكمن في القناعة، القناعة في كل شيء، في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمركب والمنكح، فان كنت قنوعا فانت تعيش عيشة الأغنياء ولو ان مواردك المالية محدودة! أما اذا كنت جشعا فانت تعيش عيشة الفقراء ولو ان موارك المالية ضخمة ومتعددة! هذه هي سنة الحياة، فالقناعة كنز لا يفنى، ومن القناعة الاقلال من الشهوات، فإنها توفّر لك المال والطاقة والحيوية وتجعلك على جادة العفاف والكفاف، أما آفة الشره والاكثار في الشهوات فإنها تقرض صحتك ومالك وتنغّص عليك معيشتك، وتدخلك في دهاليز القلق والتوتر والاكتئاب.
الذي له القدرة والعزيمة في الاقلال من الشهوات، فانه يمتلك ناصية ارادته وتصميمه وعزمه، فيكون لجام مصالحه وشهواته بيده يمتطيها ويسوقها كيفما شاء وحسبما أراد، فالذي يلبي رغباته وشهواته طبقا للشريعة والعقل السليم، فانه اضافة لما يتنعّم به من معطيات الطاعة، فان علاقته بربه وبالعباد تكون في أحسن الحالات، حينئذ يسهل عليه الموت؛ لأن الذي يخاف من الموت عادة ذلك الذي خرّب العلاقة بينه وبين الله تعالى وعباده، أما الذي متّن العلاقة بينه وبين الله تعالى فانه لا يخاف الموت فحسب، بل يستقبله بكل يسر وبكل رحابة صدر واشتياق وترحيب.
من بين الأمور التي تضفي على الانسان قداسة الوجود وعلو المكانة والمقام والمنزلة، هي الانفاق في سبيل الله تعالى، انه يعتقد ان ما يقدمه من خير لنفسه يجده عند الله تعالى، متيقن ان ما عنده ينفد وما عند الله باق، فمن قدّم ماله في سبيل الله تعالى في اطعام مسكين او كسوة عريان او فرجة مهموم او تنفيس مكروب، فان ذلك المال يسرّه اللحاق به لأنه يسوقه الى الجنة، أما اذا كان أنانيا لا يفكر الا بنفسه ومصالحه الضيقة، فان أمواله تكون وبالا عليه لا يسرّه اللحاق بها، كيف به ان يسر بمال وهو يسوقه الى جهنم وبئس المصير؟!.
ولكي تكون على جادة الصواب عليك بالقناعة ولا شيء غير القناعة، فالقنوع يمتلك الدنيا بأسرها وان كان عفيفا، وبما انه اكتفى بالقليل ولم يتعد على حقوق الغير، فان حمله سيكون خفيفا وحسابه يوم القيامة سيكون سهلا يسيرا، أما الذي يتصف بالجشع فانه لا يشبع أبدا، وتراه يلهث لجمع المال الذي يبدده في شهواته في حياته ويتنعم به الورثة بعد وفاته بدون وجه حق، وكلاهما تكون نقمة وغصة وذلة، عليه وزرها ووزر من عمل بها، لما لها من آثار وضعية سيئة في الدنيا وعواقب وخيمة في الآخرة.
ولكي تكون قنوعا عليك الاعتقاد بقضاء الله وقدره وترضى بما قسمه الله عليك، واسع في الحصول على الرزق الحلال دون افراط أو تفريط، دون تكاسل أو جشع، بل أمر بين الأمرين، فالمقسوم لك تجده بلا حاجة الى ان تحمل همّ القادم ولا ان تتشاغل عما فرض عليك في الحاضر، فانه ليس بفائتك ما قد قسمه الله عليك بعد السعي المعقول والتوكل على الله والقبول بما قسمه لك، نجد كل هذه التفاصيل في قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) - لرجل وهو يوصيه -: (أقلل من الشهوات يسهل عليك الفقر، واقلل من الذنوب يسهل عليك الموت، وقدم مالك أمامك يسرك اللحاق به، وأقنع بما أوتيته يخف عليك الحساب، ولا تتشاغل عما فرض عليك بما قد ضمن لك، فإنه ليس بفائتك ما قد قسم لك، ولست بلاحق ما قد زوي عنك) أعلام الدين للديلمي: ٣٤٤ / ٣٧.
الرضا بقضاء الله وقدره والسعي المعقول في طلب الرزق دونما افراط أو تفريط، أداء الواجبات وترك المحرمات واجتناب الشبهات والمكروهات، والالتزام بصلة الرحم وبر الوالدين، هذه الأمور هي التي تغدق على الانسان الخير والبركة والوجاهة، ليس أقلها الحياة الكريمة في الدنيا، واستقبال الموت بكل رحابة صدر ويسر وهوان، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (من أحب أن يخفف الله عز وجل عنه سكرات الموت، فليكن لقرابته وصولا وبوالديه بارا، فإذا كان كذلك هوّن الله عز وجل عليه سكرات الموت ولم يصبه في حياته فقر أبدا) أمالي الطوسي: ٤٣٢ / ٩٦٧.