سيرة العقلاء تؤكد على ان الانسان اذا ما اراد ان ينجز أي عمل لابد له ان يستعدّ له ويوفّر له مقدماته، ومن دون الاستعداد وتوفير المقدمات فإنّ عمله يكون ناقصا إن لم نقل فاشلا، ومن البديهي في القول إنّك اذا ما أردت أن تسافر لابدّ من توفير الزاد والراحلة وتخصيص المؤونة الكافية للعائلة، ومن دون هذه المقدمات فإنّ سفرك يكون لا محالة فاشلا، وهكذا في أي اقدام ناجح لابد له من استعداد تام وناجح، الزواج لابدّ له من توفير الباءة والامكانية، الاقدام على أي مشروع تجاري لابدّ له من رأس المال والاستشارة من ذوي الخبرة، تحصيل العلم والمعرفة لابدّ له من التصميم والصبر والإرادة القوية، مقابلة الملك أو الرئيس لابدّ لها من الهندام الجيد والسلوك المهذّب والكلام المعسول، وهكذا في باقي مجالات الحياة المختلفة. السؤال الذي يطرح هنا لماذا الكثير منا لا يستعد للموت كما يستعدّ لغيره اذا ما اراد النجاح؟! والحال انه خطّ على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وانه لا محالة ينزل بساحتنا عاجلا ام اجلا، ولا مفر منه ولو كنا في بروج مشيدة، ولو كنا محاطين بالخدم والحشم والحمايات والسيارات الفارهة، فان كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام، فالاستعداد للموت يكون قبل نزوله، ولو كان الموت قد نزل ولا استعداد، فتلك هي الطامة الكبرى! لماذا؟ لأنك تستعد لكافة الأمور في الدنيا الفانية، فحري لكل ذي لب ان يستعد للموت، وهي الاطلالة على الآخرة الباقية.
كما ان منبّه الساعة أو الموبايل اذا دقّ فانك تنتبه الى موعدك، أو الذهاب الى وضيفتك، أو اللقاء بمسؤولك وهكذا، كذلك منبه الموت اذا صيح بك فعليك الاستعداد له وتلبية واعيته، فانه قد اظلنا في حلّنا وترحالنا، ولا ندري كيف ينزل بساحتنا بسهل أو جبل أو صحراء أو بيت أو محل عمل، ولا ندري متى يأتينا في ليل أو نهار أو غروب أو فجر، المهم ان تكون على أهبة الاستعداد لملاقاة الموت وتنتبه لرسله المتعددة الذين تلقاهم في حياتك اليومية كموت الجد والأب والأم والأخ وظهور الشيب ونحول البدن، هذه كلها منبهات الموت على العاقل ان يستفيق منها ويعمل لما بعد الموت.
الدنيا دار ممر وليس بدار مقر، العاقل المستنير من استعد للموت وعمل على استبدال دار ممره بدار مقره، والعاقل الحصيف هو الذي يعمل الصالحات ويؤدي الفرائض والواجبات؛ ليحظى بجنة المكرمات، ويبتعد عن نار الملهيات، ولا يكون ذلك الا بالاستعداد للموت بالبر والحسنات، وترك المعاصي والسيئات، وليعلم ان الفاصل بين الجنة والنعيم، وبين النار والجحيم، هو الموت أن ينزل بساحته، فانه اما يكون مستعدا له فهو من أصحاب النعيم، أو غافلا عنه فهو من أصحاب السعير، ويا لها من مفارقة مضحكة مبكية، مضحكة لمن تنبّه للموت واستعدّ وهيّأ له الاسباب والمسببات، ومبكية لمن غفل عن الموت، وفاجأه على حين غرّة، ولاقاه وهو خال الوفاض ينتظر مصيره الأسود دون ناصر ومعين وسدّاد.
عادة الذي يستعد للموت ينبغي عليه أن يكون قنوعا بما أنعم الله تعالى عليه من النعم الظاهرة والباطنة، عليه أن لا يبطر على النعم، بل يكون شاكرا لله تعالى على كل حال، عليه أن يكون شاكرا في حالة اليسر والسعة والغنى، وعليه ان يكون صبورا في حال الضيق والعوز والسدى، هذا من ناحية شكر المنعم وأما من ناحية طاعة المنعم فعليه الالتزام بالطاعات واجتناب المعاصي والمنكرات، وأن يقدّم طاعة الله على ما سواها من الأعمال والغايات؛ لأن من طلب الجنة ورضا الله تعالى فان طاعة ربه تكون غاية الغايات ومنتهى المطالب والأماني والرغبات، وعليه ان يزيل أي عقبة أو رغبة أو غاية دنيوية تعيقه عن هدفه الأسمى هذا، فانه هو المنجي الأكبر يوم النشر الأكبر في العرصات.
تناولنا الحديث في شكر المنعم وطاعته وما بعدهما من الفوز والسعادة لمن استعد للموت وتنبّه لرسله المتعددة، أما الذي اشتغل بدنياه ونسي شكر المنعم وطاعته، وحلّ به الموت وهو في حال الندامة والكأبة والعبوس، فلا يلومنّ الا نفسه، لأنه وكما قيل في المثل "جنت على نفسها براقش" ولعل أجمل ما قيل في هذا المعنى ما سطّره أمير البلاغة والبيان، وسلطان الفقاهة والتفسير والعرفان، علي ابن ابي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام، حينما صدح صوته عاليا: (استعدوا للموت فقد أظلكم، وكونوا قوما صيح بهم فانتبهوا، وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا... وما بين أحدكم وبين الجنة أو النار إلا الموت أن ينزل به... نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة، ولا تقصر به عن طاعة ربه غاية، ولا تحل به بعد الموت ندامة ولا كآبة) نهج البلاغة: الخطبة ٦٤.
اضافة الى ما ذكر فان الاستعداد للموت فيه من الخصال الحميدة التي تهذّب النفوس وترشدها الى طريق الهدى والاستقامة نذكر منها ما يلي:
1ـ حقيقة الموت جد لا هزل فيه ولا مجاملة، وان وابله سيصيب كل ذي روح، حري بالإنسان الحر ان يحسن استقبال هذا الزائر الذي سيظلنا فجأة دون استقدام أو تأخير، ايها الناس ان الموت حقيقة إن هربتم منه أدرككم، وإن أقمتم أخذكم، وإن نسيتموه ذكركم، يكشف الإمام علي (عليه السلام) عن هذه الحقيقة بقوله: (ترحلوا فقد جد بكم، واستعدوا للموت فقد أظلكم) غرر الحكم للآمدي: ٤٥١٤.
2ـ عنصر المفاجئة هو الذي يميّز الموت عن غيره من الحقائق، حذار من ان يغشينا على حين غرة ونحن عنه غافلون، وهذا التحذير جاء من الإمام علي (عليه السلام) بقوله: (إن أمرا لا تعلم متى يفجأك ينبغي أن تستعد له قبل أن يغشاك) غرر الحكم للآمدي: 3468.
3ـ أعظم واعظ في الكون هو الموت، الذي يذكّر الانسان بمصيره المحتوم، ولا يزال الموت يطرق مسامعنا بكثرة ويدل الصالحين منا على عمل الخير، وويل لمن لا يذكره الا بعد المعاينة، فالإمام علي (عليه السلام) يدعونا الى سماع واعية الموت بقوله: (أسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعى بكم) غرر الحكم للآمدي: 2492.
4ـ الموت هو الحد الفاصل بين الجنة والنار، وهو حياة طيبة للمؤمن يسعد فيها، وحياة تعيسة للكافر يشقى فيها، وطالما يبقى في شقوته يتمنى فيها الموت فلا يجده، هكذا وصف الإمام علي (عليه السلام) علاقة الانسان بالموت: (إن العاقل ينبغي أن يحذر الموت في هذه الدار، ويحسن له التأهب قبل أن يصل إلى دار يتمنى فيها الموت فلا يجده) غرر الحكم للآمدي: 2492.
5ـ الذكي من تأهب واستعد للموت، والعاجز من ترك التأهب لأمر يعلم انه ملاقيه في يوم من الايام، يقول الإمام علي (عليه السلام) في هذا المورد: (إذا كان هجوم الموت لا يؤمن، فمن العجز ترك التأهب له) غرر الحكم للآمدي: 2492.
6ـ عادة الذي يترك التأهّب للموت هو الذي أشغلته الدنيا بملذاتها، فانه ينسى أو يتناسى الموت حتى ينقضّ عليه ويبدّد أحلامه ويسفّه عيشه ويعكّر عليه أجواءه المخملية، ولا عاصم من غضب الله اذا حلّ الموت بساحة الانسان وهو غافل عن حقيقة ما بعده، الإمام علي (عليه السلام) يقول: (تارك التأهب للموت واغتنام المهل غافل عن هجوم الأجل، ترحلوا فقد جد بكم، واستعدوا للموت فقد أظلكم) غرر الحكم للآمدي: 2492.
7ـ خفيف الذنوب أفضل حالا من مكثرها، فمن يزكّي نفسه قبل الموت نجى، ومن يركسها في المعاصي والفسق والفجور سقط وهوى، والموت هو بوصلة النجاة والسقوط، بوصلة الفوز والشقوة، ومن كانت هذه حقيقته فهو مستحق لأفضل العدة، هذا ما أكد عليه الإمام علي (عليه السلام) بقوله: (اعلم أن أمامك عقبة كؤودا المخف فيها أحسن حالا [امرأ] من المثقل، والمبطئ عليها أقبح حالا من المسرع... فارتد لنفسك قبل نزولك، ووطئ المنزل قبل حلولك) نهج البلاغة: الكتاب 31، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 16 / 85.
8ـ الاستعداد للموت بمثابة النور الذي يقذفه الله تعالى في قلب المؤمن، كيف لا يكون كذلك وهو الذي انتزع من قلبه حب الدنيا وأبدله بحب الله تعالى، ينير له الدرب لتخطي دار الكؤود، والانابة الى دار الخلود، هكذا علّمنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله: (إن النور إذا دخل الصدر انفسح، قيل: هل لذلك من علم يعرف به؟ قال: نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله) كنز العمال للمتقي الهندي: 302.
9ـ التوبة والانابة الى الله تعالى ينبغي ان تكون قبل الموت، ولا فائدة منها عند المعاينة ولا وجود لها بعد المعاينة، الإمام علي (عليه السلام) يحذّرنا من نزول الموت بنا ونحن منغمسون بحب الدنيا وتائهون بملذاتها: (إياك أن ينزل بك الموت وأنت آبق عن ربك في طلب الدنيا) غرر الحكم للآمدي: 2700، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 18 / 42.
10ـ تكون الدنيا قرة عين لمن استعدّ للموت وسارع في الخيرات، وتكون وبالا على من حليت الدنيا في أعينه وراقت له زبرجها وارتكس في الموبقات، ونزل به الموت وهو آبق من ربه، غارق في الخطيئات، الإمام علي (عليه السلام) يقول: (من استعد لسفره قر عينا بحضره) غرر الحكم للآمدي: ٩٢١١.
11ـ من يرجو الآخرة عليه ان يعمل الخيرات ويبادر في الطاعات، فالخشية من الموت من المفترض ان تتعقبها المبادرة في العمل الصالح، وكل العجب لمن يخشى ويخاف الموت ولكن لا يبادر الفوت بالرغم من انتقاص القوت، الإمام علي (عليه السلام) يقول في هذا الصدد: (لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل... يخشى الموت، ولا يبادر الفوت) نهج البلاغة: الحكمة ١٥٠، والخطبة ١٩٠.
12ـ رسل الموت الينا كثيرة ومتعددة، منها موت الأحبة، والشهيق والزفير، وظهور الشيب، ومداهمة المرض، ونزول الحوادث والكوارث بساحتنا على حين غرّة، وهذه الرسل كفيلة بالاستعداد للموت واستقباله ببشر وصباحة وجه، نبي الله إبراهيم (عليه السلام) لما دنى وفاته خاطب ربه تعليما وتحذيرا للبشرية قاطبة: (هلا أرسلت إلي رسولا حتى أخذت أهبة الموت، قال له: أو ما علمت أن الشيب رسولي) الدعوات للراوندي: ٢٣٩ / ٦٧٠.