الأربعاء 3 جمادى الآخرة 1446هـ 4 ديسمبر 2024
موقع كلمة الإخباري
بداية الإنحراف.. سقيفة بني ساعدة وأحداثها «تحليل»
الشيخ مقداد الربيعي
2024 / 05 / 30
0

في الليلة التي أطبقت فيها السماء بعباءتها السوداء على المدينة المنورة، وبعدما خمدت الأنفاس الحزينة إثر رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، احتدم الصراع بين الظلام والنور، بين الحق والباطل، بين ما أُمر به وما تحقق. كانت سقيفة بني ساعدة شاهدةً على تلك اللحظة الفارقة، لحظة ارتج فيها التاريخ وتغير فيها مسار الأمة الإسلامية.

عند فراق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان بيت النبوة يغرق في الحزن والأسى، إذ انشغل الإمام علي (عليه السلام) وأهل بيته بتجهيز النبي لدفنه. بينما كانت السقيفة تعج بالنقاشات الحادة والمساومات السياسية. 

في هذا المكان، تجمعت أنظار الصحابة، تتأمل مستقبل الأمة التي تركها النبي في أيديهم، وأيادٍ تسعى لنيل السلطة والخلافة.

اجتمع الأنصار من الأوس والخزرج في سقيفة بني ساعدة، تلك المظلة البسيطة المصنوعة من جريد النخل، التي كانت تستظل بها الأيدي الكادحة من زُراع ورعاة عند خروجهم لزرعهم ورعيهم خارج المدينة. هنا تتجلى تساؤلات مُلحة حول اختيار هذا المكان القصي، في حين كان المسجد النبوي الأجدر بمثل هذه الاجتماعات الجليلة. فالسقيفة مهما اتسعت، لا تليق بجمع حشود غفيرة، إذ لم تكن مهيأة لحدث بهذا الحجم العظيم. هذا الاختيار يشير بلا شك إلى أن الاجتماع كان معدًا له بعناية فائقة، ولم يُترك للصدفة، كما أن الحضور انتُقوا بدقة، ولم يُفتح الباب لجميع الأنصار.

هذا التخطيط الدقيق يعكس هاجس الزعامة السياسية الذي سيطر على زعماء الأنصار بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مما دفع كبارهم إلى المبادرة بعقد هذا الاجتماع الطارئ، والنبي ما زال مسجى لم يدفن بعد. وكان اختيار هذا التوقيت، في يوم وفاة النبي، والذي من المفترض أن يهز كيان المجتمع بأسره، دليلاً واضحًا على وجود نية مبيتة لاستغلال الفرصة وإبعاد المهاجرين عن المنافسة على الزعامة.

ولكن، لم تسر الرياح بما اشتهى الأنصار. فقد كان لأبي بكر وعمر عينٌ ثاقبة، إذ اكتشفوا أمر الاجتماع بسرعة وأخبروا أبو عبيدة بن الجراح. 

كيفية اكتشافهم لهذا الأمر دون غيرهم تظل غامضة، ولكن سرعة رد فعلهم تكشف أن الأمور لم تُترك للمصادفة، وأن وراء الأكمة ما وراءها.

اجتماع السقيفة كان مشهداً مليئاً بالتوتر والترقب، جسّد بداية خلاف سياسي وديني عميق. هذا الحدث لم يكن مجرد فصل عابر في التاريخ، بل كان نقطة تحول، أصداؤها ستظل تتردد عبر العصور، وتترك بصمتها في الهوية الفكرية والسياسية للأمة الإسلامية جيلاً بعد جيل. ينقل الطبري ج2، ص455 ـ ص،460: 

«خطب سعد بن عبادة في المجتمعين في السقيفة قائلاً: يا معشر الأنصار إنَّ لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب، إنَّ رسول الله لبث في قومه [قريش] بضع عشرة سنة، يدعوهم إلى عبادة الرحمن، وخلع الأوثان، فما آمن به من قومه إلاّ قليل؛ والله ما كانوا يقدرون أن يمنعوا رسول الله، ولا يعرفوا دينه، ولا يدفعوا عن أنفسهم، حتى أراد الله تعالى لكم الفضيلة، وساق إليكما الكرامة، وخصكم بالنعمة، ورزقكم الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه والإعزاز لدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشدّ الناس على من تخلف منكم، وأثقله على عدوكم من غيركم، حتى استقاموا لأمر الله تعالى طوعاً وكرهاً، وأعطى البعيد المقادة صاغراً داحراً حتى أثخن الله تعالى لنبيه بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب، وتوفاه الله وهو راض عنكم قرير العين، فشدوا أيديكم بهذا الأمر[الخلافة/الحكم]، فإنَّكم أحق الناس وأولاهم به.

فكان جواب الأنصار: إن قد وفقت في الرأي، وأصبت في القول، ولن نعدو ما رأيت توليتك هذا الأمر.

وبذلك استقر رأي الأوس والخزرج على تولية سعد بن عبادة زعيم الخزرج.

لكن ما أن بلغ إلى علم أبي بكر ما يدور في سقيفة بني ساعدة، حتى قام ومعه عمر بن الخطاب فخرجا مسرعين إلى السقيفة وأخذا معهما ابا عبيدة بن الجراح، فما أن دخلوا عليهم قام أبو بكر مخاطباً الأنصار بغرض إقناعهم بالعدول عما انتهوا اليه، مبيناً لهم كيف إنَّ أحق الناس وأولاهم بمنصب الخلافة هم المهاجرون وقريش منهـم على الوجـه الخصوص، فقـال: إنَّ الله جل ثناؤه بعث محمدًا بالهدى ودين الحق، فدعا إلى الإسلام، فأخذ الله تعالى بنواصينا وقلوبنا إلى ما دعا اليه، فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاماً، والناس لنا فيه تبع، ونحن عشيرة رسول الله، ونحن مع ذلك أوسط العرب انَّساباً ليست قبيلة من قبائل العرب إلاّ ولقريش فيها ولادة. وأنَتم أيضاً والله الذين آووا ونصروا، وأنتم وزراؤنا في الدين، ووزراء رسول الله، وأنتم إخواننا في كتاب الله تعالى وشركاؤنا في دين الله عزَّ وجلَّ وفيما كنا فيه من سراء وضراء والله ما كنا في خير قط إلاّ كنتم معنا فيه، فأنتم أحب الناس الينا، وأكرمهم علينا، وأحق الناس بالرضا بقضاء الله تعالى، والتسليم لأمر الله عزَّ وجلَّ ولما ساق لكم ولإخوانكم المهاجرين رضي الله عنهم، وأحق الناس فلا تحسدوهم، وأنتم المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة، والله ما زلتم مؤثرين إخوانكم من المهاجرين، وأنتم أحق الناس ألاّ يكون هذا الأمر واختلافه على أيديكم، وأبعد أن لا تحسدوا إخوانكم على خير ساقه الله تعالى اليهم».

كأنما كانت خطابات الأنصار والمهاجرين مصوغة بعناية فائقة، وكأنها أعدت مسبقاً لتكون مبرراً لأحقيتهم بالخلافة. فالأنصار رفعوا راية نصرهم لرسول الله في أحلك الأوقات، بينما أشاد المهاجرون بقربهم ونسبهم من النبي الأكرم. 

في الخطابين نلاحظ بوضوح عدم وجود اهتمام وحرص على الدين، ولذا حذر أبو بكر الأنصار من الوقوع في حسد المهاجرين لأجل الخير الذي ساقه الله لهم.

ولكن بأي حقٍ ادعى أبو بكر أن الخلافة خير ساقه الله للمهاجرين دون الأنصار؟ وما المانع الشرعي أو العقلي أو حتى القانوني الذي يمنع أن يكون هذا الخير من نصيب الأنصار؟ فالأنصار كانوا يعتقدون أن أفضل مكافأة لنصرهم لرسول الله، حين خذله قومه، هي أن تكون الخلافة من نصيبهم. هذا التفكير يبدو أكثر قبولاً من ذاك الذي يزعم الأحقية بسبب القبيلة المشتركة مع النبي، فهذا لا يعدو كونه تفكيراً قبلياً وعنصرياً لا يمكن تبريره. جاء المهاجرون إلى ديار الأنصار لا يملكون من حطام الدنيا شيئاً، فاحتضنوهم وتقاسموا معهم معاشهم وبيوتهم، ودافعوا عنهم ونصروهم حتى استتب الأمر وأصبحت مدينتهم داراً لخلافة المسلمين. فكيف بعد ذلك تكون الخلافة خير ساقه الله للمهاجرين؟

لم يمنحهم أبو بكر فرصة كافية للتأمل فيما قال، بل عاجلهم بالاختيار بين أبي عبيدة بن الجراح أو عمر بن الخطاب لخلافة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

عندما رشح أبو بكر عمر وأبا عبيدة للخلافة، جاء ما كان متوقعاً، وهو رفضهم الاقتراح وتقديمهم أبا بكر على نفسيهما. فلو قبلوا، لكانت الأنصار قد شككت في النوايا، ولما قبلوا عمر خليفةً عليهم، فقد اعترضوا عليه حتى بعد تعيين أبي بكر له عند وفاته. وكان هذا التعيين دَيناً على الخليفة يجب الوفاء به. أما أبو عبيدة، فقد قال عمر في حقه عندما حضره الموت: «لو كان أبو عبيدة حياً لوليته عليكم». يبدو أن الأمر كان معداً بإحكام، ليكون أبو بكر الخليفة، ومن ثم يعهد بها لعمر، الذي بدوره كان ليسلمها لأبي عبيدة. هؤلاء هم الذين حضروا السقيفة من المهاجرين، وقد تحققت خلافة عمر، وكان بالإمكان أن تتحقق خلافة أبي عبيدة لولا أن عاجلته المنية.

غير إنَّ الأنصار سرعان ما أبدوا تخوفهم من هذا المقترح، ليطرحوا مقترحاً آخر فقالوا: «والله ما نحسدكم على خير ساقه الله اليكم، وإنَّ لك ما وصفت يا أبا بكر والحمد لله، ولا أحد من خلق الله تعالى أحب الينا منكم، ولا أرضى عندنا ولا أيمن، ولكنا نشفق مما بعد اليوم، ونحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منا ولا منكم، فلو جعلتم اليوم رجلاً منا ورجلاً منكم بايعنا ورضينا، على إنَّه إذا هلك اخترنا آخر من الأنصار، فإذا هلك اخترنا آخر من المهاجرين أبدًا ما بقيت هذه الأمة، كان ذلك أجدر أن يُعدل في أمة محمد، وإن يكون بعضنا يتبع بعضاً، فيشفق القرشي أن يزيغ فيقبض عليه الأنصاري، ويشفق الأنصاري أن يزيغ فيقبض عليه القرشي». 

لكن أبا بكر لم ترقه حكومة الاتلاف ففيها اقتسام السلطة السياسية بتنصيب رجلين أو خليفتين، واحد ممثل للأنصار والآخر للمهاجرين، ولكنه لم يجد ما يقابل به هذا الاقتراح المنصف، فرجع من جديد يذكر فضل المهاجرين وصحبتهم لرسول الله وسبقهم للإسلام وتحملهم الأذى في سبيله وبأنَّهم قرابته وعشيرته، ثم قدم اقتراح يكون فيه المهاجرين الأمراء والانصار وزراء، فقال: «إنَّ الله تعالى قد خص المهاجرين الأولين رضي الله عنهم بتصديقه، والإيمان به، والمواساة له، والصبر معه على الشدة من قومهم وإذلالهم وتكذيبهم إياهم... وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم ولا النعمة العظيمة لهم في الإسلام... فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء، لا نفتات [أي لا نحكم] دونكم بمشورة، ولا تنقضي دونكم الأمور».

أحس الحباب بن المنذر بالخطر ولم يغريه العرض فوقف وقال: «يا معشر الأنصار، أملكوا عليكم أيديكم، فإنَّما الناس في فيئكم وظلالكم، ولن يجير مجير على خلافكم، ولن يصدر الناس إلاّ عن رأيكم، أنتم أهل العز والثروة وأولو العدد والنجدة، وإنَّما ينظر الناس ما تصنعون، فلا تختلفوا، فيفسد عليكم رأيكم، وتقطع أموركم، أنتم أهل الإيواء والنصرة، واليكم كانت الهجرة، ولكم في السابقين الأولين مثل ما لهم، وأنتم أصحاب الدار والإيمان من قبلهم، والله ما عبدوا الله علانية إلاّ في بلادكم، ولا جمعت الصلاة إلاّ في مساجدكم، ولا دانت العرب للإسلام إلاّ بأسيافكم، فأنتم أعظم الناس نصيباً في هذا الأمر، وإن أبى القوم، فمنا أمير ومنهم أمير».

وهنا أستشعر عمر خطورة الموقف فلو استمر نفس الأنصار بهذه الحدة، وأصروا على تقاسم السلطة لم يتمكنوا من أخذ الخلافة خالصة لقريش، فبادره بكلام أكثر شدة فقال: «هيهات لا يجتمع سيفان في غمد واحد، إنَّه والله لا ترضى العرب أن تؤمّركم ونبيّها من غيركم، ولكن العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلاّ من كانت النبوّة فيهم، وأولو الأمر منهم، لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة، والسلطان المبين، من ينازعنا سلطان محمد وميراثه، ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مُدْلٍ بباطل، أو مُتَجَانف لإثم، أو متورِّط في هَلكة». 

وهنا تتكشف النوايا الحقيقية ويصبح الكلام عن السلطان والميراث على المكشوف، ولا يبقى الإسلام هو المعيار في استحقاق الخلافة، وإنَّما العروبة وعادات العرب وطبائعهم، فيتبخر كل ما قيل عن المهاجرين من فضل ومنزلة في الإسلام، فيقسم عمر بالله بأنَّ العرب لا ترضى بأمرة الأنصار طالما النبي ليس من قبيلتهم، وقد صدق في ذلك فإنَّ قيم العرب وعادات الجاهلية لا تقبل أن يكون زعيم القبيلة من خارج القبيلة، فأعاد عمر بذلك قيم الجاهلية وجعل خلافة رسول الله إرثاً متوارثاً في قريش بحجة إنَّ النبوة كانت فيهم والقبيلة أولى بالميراث من غيرها، وهذا ما فتح الباب للقرشيين أن يحكموا المسلمين تسعة قرون، بما فيهم شذاذ الآفاق، ومحرفي الكتاب، وقتلة أولاد الأنبياء، وهادمي الكعبة، ومستبيحي حرائر المسلمين.

ليعترض الأنصار على لسان الحباب بن المنذر، والذي هدد بإعادة الأمور لما قبل الإسلام، ويصرح بأن الأنصار لن يتخلوا عن نصيبهم من الخلافة، حتى وإن دعا الأمر إلى اخراج المهاجرين من المدينة وطردهم عن ديارهم، وهنا تتكشف كل النوايا الحقيقية لاجتماع السقيفة، فإن كان الأمر هو الدين والحرص على الإسلام فلمَ يهدد الحباب بأن يعد الأمر إلى سيرة الجاهلية، عندما قال: «لنعيدنها جذعة»، وإليك كلام الحباب بتمامه: «يا معشر الأنصار: أملكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتم فأجلوهم عن بلادكم، وتولوا هذا الأمر عليهم، فأنتم والله أولى بهذا الأمر منهم، فإنَّه دان لهذا الأمر ما لم يكن يدين له بأسيافنا أما والله إن شئتم لنعيدنها جذعة، والله لا يردّ عليّ أحد ما أقول إلاّ حطمت أنفه بالسيف.«

وبذلك تشنجت الأجواء وأحتد الكلام، وأظهر الأنصار جدية كبيرة في حرصهم على هذا الأمر وعدم تخليهم عن تقاسم السلطة، وشعر عمر إنَّ التصعيد قد يؤدي الى انفلات الوضع وإفشال الخطة، فعمد من جديد الى التهدئة واستخدام الدبلوماسية فقال: «لما كان الحباب هو الذي يجيبني، لم يكن لي معه كلام، لأنّه كان بيني وبينه منازعة في حياة رسول الله، فنهاني عنه، فحلفت ألا أكلمه كلمة تسوءه أبدًا.« 

والعجيب إن عمر قد رد على الحباب من قبل عندما قال له «هيهات لا يجتمع سيفان في غمد واحد،.... من ينازعنا سلطان محمد وميراثه، ونحن أولياؤه وعشيرته، إلاّ مُدْلٍ بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورِّط في هَلكة»، فكيف يأتي ويقول مرة أخرى إنَّه حلف منذ حياة رسول الله (صلى الله عليه واله) ألا يكلمه بما يسوءه، ولكنها السياسة وفنونها أن تعرف متى تُصَعِّد ومتى تستعطف وتُهدّئ.

ثم يظهر أبو عبيدة لأول مرة في مسرح هذا الحوار السياسي عاملاً على تلطيف الأجواء، فقال: «يا معشر الأنصار أنتم أول من نصر وآوى، فلا تكونوا أول من يبدل ويغير.« 

فكانت هذه الكلمة مع إيجازها ذات أثر في صفوف الأنصار فتمسك بها بشير بن سعد ليميل الى قول أبي بكر، ويسلم بقول عمر بأنَّ الخلافة إرث خاص لقريش، فقال: «... إنَّ محمداً رسول الله رجل من قريش، وقومه أحق بميراثه، وتولي سلطانه، وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبداً، فاتقوا الله ولا تنازعوهم ولا تخالفوهم»، ولم يقنع الحباب بقول بشير واتهمه بأنَّه حسد بن عمه سعد بن عبادة. 

فكان كلام بشير بن سعد بداية تفكك وحدة الأنصار وانقسامهم فيما بينهم، فمالت الكفة نحو المهاجرين فبادر أبو بكر مرة أخرى لعقد البيعة لأحد الرجلين عمر أو أبي عبيدة، فقال: «أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلاّ لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم.«

أعاد بذلك كلام عمر من جديد بأنَّ العرب لن تعرف هذا الأمر إلاّ لهذا الحي من قريش، وبذلك يمكننا الجزم بأنَّ المهاجرين لم يخصموا الأنصار إلاّ بهذه الحجة، والتي سوف يتنكروا لها عندما يستخدمها الإمام علي (عليه السلام)، فعندما طلبوا من علي البيعة رفض وقال: «أنا أحق بهذا الأمر منكم لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله، فأعطوكم المقادة وسلموا اليكم الإمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، فانصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم، واعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفت الأنصار لكم وإلاّ فبؤوا بظلم وأنتم تعلمون. فقال عمر: إنَّك لست متروكاً حتى تبايع، فقال له علي: احلب له يا عمر حلباً لك شطره، اشدد له اليوم أمره ليرده عليك غداً. لا والله لا أقبل قولك ولا أتبعك»، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج2 ص2ـ5.

وبعد قول أبي بكر: «وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم»، قال عمر: «كثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى تخوفت الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته، ثم بايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة.« 

ويضيف ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة) إنَّه لما هَمَّ أبو عبيدة بن الجراح بالنهوض لمبايعة أبي بكر سبقهما اليه بشير بن سعد الأنصاري فبايع. عندها ناداه الحباب بن المنذر فقال: «يا بشير بن سعد، عقك عقاق، ما اضطرك إلى ما صنعت؟ حسدت ابن عمك على الإمارة.« 

فأجاب بشير: «لا والله، ولكني كرهت إنَّ أنازع قوماً حقّاً لهم.« 

ويقول بن قتيبة: «رأت الأوس ما صنع قيس بن سعد وهو من سادة الخزرج، وما دعوا اليه المهاجرين من قريش، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة، قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن حضير: لئن وليتموها سعداً عليكم مرّة واحدة، لازالت لهم بذلك عليكم الفضيلة، ولا جعلوا لكم نصيباً فيها أبداً، فقوموا فبايعوا أبا بكر، فقاموا اليه فبايعوه». (الامامة والسياسة، تحقيق الدكتور طه محمد الزيني، الناشر مؤسسة الحلبي، ج1 ص 17)

فقاموا اليه فبايعوه، فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا اجتمعوا له من أمر... فأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر وكادوا يطأون سعد بن عبادة.

فقال أناس من أصحاب سعد: اتقوا سعداً لا تطأوه.

فقال عمر: اقتلوه، قتله الله.

ثم قام على رأسه فقال لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك.

فأخذ قيس ابن سعد بلحية عمر فقال: والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفيك واضحة.

فقال أبو بكر: مهلاً، يا عمر! الرفق ها هنا أبلغ.

فأعرض عنه عمر.

وقال سعد: أما والله، ولو إنَّ بي قوة، أقوى بها على النهوض لأسمعت مني في أقطارها وسككها زئيراً يحجرك وأصحابك، أما والله إذن لألحقناك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع. حملوني من هذا المكان، فحملوه فأدخلوه في داره.

بذلك برز الى السطح من جديد التنافس القبلي القديم بين الأوس والخزرج، وقد حرك هذه البواعث دعوة قريش لنفسها بوصفها الوارث الطبيعي لرسول الله (صلى الله عليه واله)، فطالما الأمر حق قبلي وتنافس نسبي كيف يرضى الأوس تولية سعد بن عبادة وهو زعيم الخزرج، وهكذا انكسر رأي الأنصار وأنشق صفهم، ولم يبق أمام الحباب بن المنذر إلاّ المعارضة المسلحة التي تخلط الأوراق من جديد فقام «إلى سيفه فأخذه، فبادروا اليه، فأخذوا سيفه منه، فجعل يضرب بثوبه وجوههم، حتى فرغوا من البيعة.« 

أحداث سقيفة بني ساعدة ليست مجرد محطة في التاريخ، بل هي بداية لانحراف طويل الأمد، حيث تجلت فيها قوة السياسة وغلبة المصالح الشخصية على المبادئ الدينية. وتظل هذه الأحداث جرحاً غائراً في جسد الأمة الإسلامية، ودليلاً على الانحراف عن المسار الذي رسمه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمته.



التعليقات