الاثنين 13 ربيع الأول 1446هـ 16 سبتمبر 2024
موقع كلمة الإخباري
لماذا تحارب فرنسا الدين؟
الشيخ مقداد الربيعي
2024 / 08 / 03
0

بمناسبة ما أُثير من جدل في الآونة الأخيرة بسبب ازدراء فرنسا للمسيحية التي تمثل بحسب تقديرات المعهد الفرنسي للرأي 65% من عقيدة الفرنسيين، يتوزعون بين 61% كاثوليك و4% بروتستانت، رأيت من المناسب الإجابة عن سؤال طالما راود أذهان الكثيرين، عن سر عداء الحكومة الفرنسية للدين، ولماذا نجدها أكثر الدول تطرفاً في ذلك؟ فتحضر الرموز الدينية في الأماكن العامة، وتمنع الحجاب، تُبعد المؤمنين من تسلم مناصب مهمة، وتفسح المجال للعلمانيين، وغيرها الكثير من الإجراءات!

فأحببت أن أنقل للقارئ الكريم إجابة بعض المفكرين، وسأنتقي الفرنسيين منهم بالذات بناء على (ان اهل البيت أدرى بالذي فيه)، وخلاصة جوابهم: تحول العلمانية التي انتهجتها الجمهورية الفرنسية بثورتها الشهيرة ديناً بالمعنى الحرفي للدين، له عقيدة وطقوس كما له قساوسة ومبشرين، الذين أخذوا على أنفسهم مهمة محاربة كل ما له صلة بالأديان الأخرى.

لا تستغرب.. فالدين ـ كما عرفه العلامة الطباطبائي (ره) ـ هو: «الأحكام النابعة من فهم الإنسان لحقيقة الكون»، بعبارة أخرى الدين طريقة وسلوك للإنسان (شريعة) يبتني على رؤيته الكونية (عقيدة)، وعليه فحتى الملحد يكون متديناً بهذا المعنى، وله رؤية كونية (عقيدة)، على أساسها أختار طريقته في الحياة.

وأنصار الثورة الفرنسية التي قامت على أساس محاربة الكنيسة وكل الأديان، انتهجوا "العلمانية" ديناً وأقاموا على أصوله شريعتهم، ولست ممن يرمي الكلام على عواهنه، فقد صرح بما تقدم كبار المفكرين الفرنسيين، في الماضي والحاضر، ولأقتبس لحضراتكم ما كتبه أحد الفلاسفة المعاصرين "لويس ميشيل بلاين" في كتابه الصادر سنة 2023 "الكتاب الأسود للإلحاد"، حيث قال: «في مفارقةٍ عجيبة، نجد أن الأنظمة الفكرية والسياسية التي تدّعي التحرر من قيود المعتقدات التقليدية، قد وقعت في فخٍ آخر، ألا وهو خلق "أديان بديلة" لملء الفراغ الذي تركته الأديان التقليدية. فبدلاً من أن تتحرر هذه الأنظمة من ربقة الدين، قامت ببناء أنظمة جديدة على نفس النمط الذي حاربته، ولكن بلباس علماني براق.

لنأخذ النظام الجمهوري كمثال صارخ. فهو، في جوهره، دين علماني له طقوسه وشعائره وأساطيره الخاصة، وإن كانت تتخذ أشكالاً جديدة ومصطلحات مختلفة. فلديه أساطيره التأسيسية التي تحكي عن نشأته وتاريخه، وقديسيه (العلمانيين) الذين يُبجلون ويُحتفى بهم، ومبشرينه الذين يجوبون العالم لنشر "الإنجيل الجمهوري" على أنه الحل الأمثل لمشاكل البشرية. وله أيضاً مبادئه العقائدية التي تُعتبر حقائق مطلقة لا تقبل النقاش أو التشكيك، بل إنه قادر على توليد هرطقاته الخاصة التي تحيد عن هذه المبادئ. لديه نصوصه المقدسة التي تُتلى في احتفالاته الوطنية، وتعاليمه التي تُحفظ عن ظهر قلب في المدارس وتُزرع في عقول الأجيال الجديدة.

يسعى هذا النظام إلى نشر دعوته في كل مكان، ويحلم بيومٍ يصبح فيه العالم بأسره تابعاً لمبادئه وقيمه. ولعدة عقود، شن حملات مُكثفة لفرض قيمه على الآخرين، متناسياً مبادئ التسامح والحرية الفكرية التي يدّعي الدفاع عنها. ولنتذكر أن العلمانية الفرنسية، على سبيل المثال، لم تكن في البداية سوى أداة سياسية تستخدم في الصراع ضد الكنيسة وتأثير الكاثوليكية، في حين أن الغالبية العظمى من الشعب الفرنسي كانت متدينة.

وفي تحليل دقيق لما حدث خلال الثورة الفرنسية، يوضح المونسنيور "جيرار ديفينز" في كتابه "العلمانية، دين وطني؟" كيف أن الجمهورية، برفضها للكنيسة وسلطتها الرمزية، سرعان ما وجدت نفسها تفتقر إلى الأسس اللازمة للاستمرار. ففي غياب دين موحّد يجمع القلوب ويوحد الصفوف، تحولت القوانين إلى مجرد اتفاقيات ظرفية، وأصبح القمع والإرهاب هما الوسيلة الوحيدة لتأكيد السلطة السياسية وفرض النظام بالقوة.

ويمكننا أن نرى هذا جلياً في "بابوية روبسبيير"، حيث حاول، من خلال ترسيخ الفضيلة والكائن الأسمى كأساس للحياة السياسية، وإقامة طقوس دينية علمانية فخمة تحاكي الطقوس الدينية التقليدية، بناء جمهورية جديدة قائمة على إنجازات الثورة. وهذا يؤكد أنه حتى الأنظمة السياسية التي تدّعي العلمانية لا تستطيع الاستغناء عن "المقدس" كمصدر للشرعية والوحدة الاجتماعية، وإن كان هذا المقدس يتخذ أشكالاً جديدة.

قبل ذلك بقرون، قال "لويس أنطوان ليون دو سان جوست"، وهو مؤيد لا يتزعزع لروبسبير: «ما يشكل الجمهورية هو التدمير الكامل لكل ما يعارضها»، وهو درس عظيم في التسامح!

في هذا السياق، نتذكر بالطبع "غامبيتا" وشعاره الشهير الذي صرخ به في مجلس النواب في 4 مايو 1877: «الإكليروسية (الطقوس المسيحية)، هذا هو العدو». كانت هذه الجملة واحدة من الأحداث المتسارعة التي عملت على تقويض أساسيات ثقافتنا.

في الختام، يمكن القول إن العلمانية، كغيرها من الأنظمة الفكرية، يمكن أن تتحول إلى دين جديد له طقوسه وشعائره وأساطيره. وعندما يحدث ذلك، فإنها تفقد جوهرها كفلسفة تدعو إلى الحرية الفكرية والتسامح، وتتحول إلى أيديولوجيا قمعية لا تختلف عن الأديان التي تدعي محاربتها.

في عام 1880، شهدت فرنسا سلسلة من الإجراءات المناهضة للدين، حيث أُلغيت عطلة يوم الأحد، وتم حظر الرموز الدينية في الأماكن العامة، وأصبحت القوانين تفضل العلمانيين بشكل متزايد. حتى التعليم لم يسلم من هذه الحملة، حيث تم إنشاء مدارس جمهورية لعزل الطلاب عن تأثير رجال الدين، وأُلغي التعليم المسيحي في المدارس الابتدائية، وتم تدريب المعلمين على مناهضة رجال الدين.

وصل الأمر ببعض السياسيين، مثل "جول فيري"، إلى التصريح علانية بعدائه للدين والملكية، في حين وصف وزير التعليم الوطني "فنسنت بيلون" هذه الإجراءات بأنها "ولادة جديدة" و "كنيسة جديدة" برجال دين جدد وقوانين جديدة.

وتواصلت هذه الحملة المناهضة للدين في السنوات التالية، حيث تمت استعادة قانون الطلاق، وفرضت ضرائب على التجمعات الدينية، وقام الجيش بقمع هذه التجمعات بالقوة، مما أدى إلى مقتل العديد من المؤمنين.

احتفل بعض السياسيين العلمانيين بهذه الإجراءات، مثل "رينيه فيفياني" الذي صرح بأنهم «مزقوا الضمائر الإنسانية بعيداً عن الإيمان» و «أطفأوا أضواء السماء التي لن تضاء مرة أخرى». لكن هذه الإجراءات القمعية أثارت انتقادات من بعض المفكرين، مثل "إدوارد بيرث"، الذي أدان «التخفيض الوحشي لحرية غير الملتزمين» بسبب «العاطفة المناهضة للإكليروس».

حتى المرأة لم تسلم من هذه الحملة، حيث رفض السياسيون منحها حق التصويت بحجة أنها ستعرض الجمهورية للخطر بسبب تأثرها برجال الدين.

وفي خضم هذه الأحداث، حاول البابا ليون الثالث عشر تهدئة التوترات من خلال إصدار منشور بابوي يدعو فيه إلى قبول النظام الجمهوري، وحث الكاثوليك على احترام السلطة القائمة. لكن هذه الجهود لم تنجح في تهدئة المشاعر المعادية للدين.

بعد عقود، استمر بعض السياسيين في إظهار عدائهم للدين، حيث صرح أحد كبار الوزراء بأن «قانون الجمهورية أقوى من قانون الآلهة». كما أشار الكاتب "آلان فينكيلكراوت" إلى أن فرنسا هي الدولة الغربية الوحيدة التي تعتبر الحجاب مشكلة وحظرته في المدارس.

ولا تزال بعض الأحزاب التقدمية تقود حملة فكرية ضد ما أسمته منذ فترة طويلة "أفيون الشعب".  هؤلاء الأشخاص نفسهم الذين يقاتلون في الوقت نفسه حتى النهاية من أجل تقنين ما يسمى بالمخدرات "الخفيفة".

وقد أعرب رئيس أساقفة ليون، "المونسنيور دي جريماي"، عن قلقه من تحول العلمانية من حياد الدولة إلى إلحاد يعتبر دين الدولة».

في الختام، يطرح هذا التحليل التاريخي تساؤلات حول طبيعة العلمانية، وهل هي حقاً فلسفة تدعو إلى الحرية الفكرية والتسامح، وتكتفي بتحييد الدين عن السياسة، أم أنها تحولت إلى دين جديد له طقوسه وشعائره وأساطيره الخاصة؟ وهل الإلحاد، الذي يُروج له بعض العلمانيين، هو مجرد فلسفة أم أنه يحمل في طياته ادعاءات دينية؟



التعليقات