يزور رئيس مجلس الوزراء العراقي
واشنطن منتصف هذا الشهر، ووفقا لما أعلنه البيت الأبيض، فسيلتقي
محمد شياع السوداني الرئيس جو بايدن يوم 15 نيسان «للتنسيق بشأن
الأولويات المشتركة وتعزيز الشراكة الثنائية القوية بين الولايات
المتحدة والعراق. وبعيدا عن دبلوماسية عبارة «الشراكة الثنائية
القوية» التي لا تتسق مع الوقائع، إلا أن هذه الزيارة التي تأتي في
موعد غير مناسب تماما، بسبب الحملة الانتخابية، وتعكس في الحقيقة
طبيعة العلاقات غير واضحة المعالم بين البلدين، فهي علاقات فرضتها
الوقائع على الأرض، وليست الاستراتيجيات أو المصالح!
مع وصول إدارة الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض عام 2009، بدا واضحا أن ثمة تغييرا استراتيجيا جوهريا في طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والعراق، استنادا إلى الفكرة التي اعتمدها في حملته الانتخابية بأن «الحرب في العراق كانت خطأ يجب تصحيحه». وهذا ما أجبر إدارة الرئيس جورج بوش على توقيع اتفاقية وضع القوات Status of Force Agreements، التي تُعرف اختصارا باتفاقية SOFA في عام 2008 (بعد خسارة جون ماكين مرشح الجمهوريين في انتخابات الرئاسة الأمريكية التي جرت ذلك في تشرين الثاني من ذلك العام) وتضمنت الاتفاقية انسحابا أمريكيا كاملا بنهاية كانون الأول 2011، وهو ما تحقق، فعلا، بعد فشل المفاوضات للإبقاء على جزء من تلك القوات في العراق، وهذا يعني أنه مع نهاية عام 2011 لم يعد هناك أي إطار قانوني لأي تعاون عسكري وأمني بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية!
لهذا وجدنا «استراتيجية الأمن القومي» التي أعلنت نهاية أيار العام 2010 ، قد مثلت تحولا جذريا عن الاستراتيجيتين اللتين اعتمدتا في الأعوام 2002 و 2006 مع إدارة الرئيس جورج بوش (وهي الرد الأمريكي المباشر على أحداث 11/9، الذي كرس صعود فلسفة المحافظين الجدد وشكل عماد سياسة إدارة بوش الخارجية).
كل ذلك يشي بأن اللقاء بين السوداني وبايدن لن يخرج عن كونه لقاء دبلوماسيا لا يمكن له أن يتمخض عن نتائج حقيقية
ففيما يخص العراق، نصت الوثيقة المعلنة على أن الولايات المتحدة من أجل أمنها الخاص، وأمن المنطقة، سوف تشجع على إقامة علاقة ثابتة مع العراق «مؤسّسة على مصالح متبادلة واحترام متبادل». أما عن الهدف الأساس للولايات المتحدة فهو بناء «عراق يتمتع بالسيادة، والاستقرار، وواثق من نفسه» وإنه من اجل الوصول إلى هذا الهدف «سنستمر في تشجيع حكومة عراقية عادلة، وتمثيلية، ومسؤولة، ولا تدعم أو توفر ملاذا آمنا للإرهابيين».
وبدا واضحا أن العراق لم يعد عنصرا رئيسيا في أجندة صانع القرار الأمريكي، فضلا على أنه لم يعد حاضرا في الاستراتيجية الأمريكية إلا بوصفه عنصر تهديد محتمل! فقد نشر روبرت غيتس، وزير الدفاع حينها، مقالة بعنوان «مساعدة الآخرين في حماية أنفسهم: مستقبل المساعدة الأمنية الأمريكية» في مجلة Foreign Affairs في حزيران 2010 يضع العراق إلى جانب ست دول (هي: أفغانستان، وباكستان، ولبنان، وأندونيسيا، وماليزيا، والفلبين) بوصفها دولا «ممزقة وفاشلة» وأن التهديدات الأكثر فتكا بالنسبة لسلامة وأمن للولايات المتحدة في العقود القادمة يكمن في هجوم إرهابي ينطلق من هذه الدول»!
وكان هنري كيسنجر قد نشر مقالا في شباط 2010 بعنوان «على سياسة أوباما إزاء العراق الاهتمام بما بعد الانسحاب» أشار فيها إلى أن العراق لم يعد يرد في النقاش الرسمي الأمريكي إلا بشكل روتيني. ورأى أن الولايات المتحدة نأت بنفسها عن مناقشة الأهمية الجيوستراتيجية للعراق، تحديدا فيما يتعلق بعلاقة أمريكا بها؛ وهو يرى أن العراق هي الدولة التي سيحدد التطور الذي يطرأ عليها، كيفية الحكم على العلاقة بين الأمريكيين والتيارات الرئيسية في المنطقة، ودعا إدارة اوباما إلى التعامل بجدية مع هذا الموضوع، لكن يبدو أن الإدارة الأمريكية قد حسمت خيارها تجاه هذه الرؤية.
لهذا كانت الاستجابة الأمريكية بطيئة جدا عندما استطاع تنظيم الدولة/ داعش السيطرة على الموصل في حزيران/ يونيو 2014، وكانت المقاربة الأمريكية تقوم على أساس أن سقوط الموصل كان نتيجة مباشرة للسياسات الطائفية التي مارسها رئيس مجلس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، والتي خلقت بيئة مواتية لظهور تنظيم داعش. لكن التطورات على الأرض، تحديدا بعد الهجوم على مخمور والكوير وسنجار، أجبرت الأمريكيين على التدخل بعد شهرين تقريبا من سقوط الموصل؛ حيث أعلن الرئيس أوباما في السابع من شهر آب/ أغسطس تدخل القوات الأمريكية بعمليات عسكرية مباشرة. لتقوم الولايات المتحدة، بعد ذلك، في أيلول، بإنشاء التحالف الدولي ضد داعش الذي شكل الغطاء الرسمي لعودة الولايات المتحدة لممارسة مهامها القتالية في العراق، دون أن يصاحب ذلك استراتيجية سياسية أو عسكرية واضحة المعالم لتلك العودة!
في المقابل لم يكن للدولة العراقية، بكافة سلطاتها وقواها السياسية، أي استراتيجية للتعامل تجاه هذه العودة أو تجاه مستقبل العلاقات بين البلدين، إذ لم يفكر العراق حينها، سوى في الحصول على الدعم العسكري الأمريكي الضروري والملح. لهذا وجدنا تنابزا لاحقا بين رئيسي مجلس الوزراء العراقيين الأسبقين نوري المالكي وحيدر العبادي، حول المسؤولية عن استقدام القوات الامريكية، ومنحها قواعد في العراق وصلاحية مطلقة في التحرك على الأرض والسماء دون الرجوع إلى السلطات العراقية، وحاول كل منهما التبرؤ من هذه المسؤولية!
وغياب هذه الاستراتيجية جعل الموقف من الوجود الأمريكي في العراق (ومن طبيعة العلاقات مع الولايات المتحدة ككل) خاضعا لمواقف انتهازية صريحة حينا، ومواقف ترتبط بالصراع الأمريكي الإيراني حينا آخر، ومواقف أخرى عائمة تعتمد على اللعب بالمفردات أحيانا أخرى.
كل ذلك يشي بأن اللقاء بين السوداني وبايدن لن يخرج عن كونه لقاء دبلوماسيا لا يمكن له أن يتمخض عن نتائج حقيقية؛ فبايدن يخوض حاليا حملة انتخابية شرسة، وهو غير مستعد للتفكير في استراتيجية تحكم العلاقات العراقية الأمريكية إلا في سياق ما سيكون من ردات تفرضها المصالح الأمريكية في المنطقة ككل، دون أن يكون للعراق أي خصوصية!
في المقابل، سيكون السوداني محكوما بغياب مطلق لاستراتيجية متفق عليها عراقيا بسبب طبيعة العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومع انعدام أي مؤشرات حقيقية على إمكانية الاتفاق على هكذا استراتيجية في المدى المنظور، لاسيما مع استمرار الصراع الأمريكي الإيراني!
لن ينتج عن لقاء الطرفين أي مخرجات حقيقية، وسيكون لقاؤهما عبارة عن اتفاق على التلاعب باللغة، وبعض الصور الرسمية وبيانا صحافيا يختلف، قطعا، بين النص الأمريكي والعراقي!