مرت ٢١ سنة منذ سقوط النظام البعثي المتخلف كانت تكفي لتخريج اول
جيل من الشباب الذين تربوا في كنف النظام الديمقراطي البرلماني
الاتحادي الجديد في العراق حسب الدورة الدراسية المعمول بها في
مراحلها الاربع: الابتدائية، المتوسطة، الاعدادية، واخيرا الجامعية:
٦+٣+٣+٤=١٦ سنة.
لكن هذا لم يحصل.
لاسباب كثيرة، اولها واهمها ان الطبقة السياسية التي تولت زمام الامور منذ تشكيل مجلس الحكم في عام ٢٠٠٣ الى اليوم لم تضع نصب اعينها تربية جيل جديد مفارق لافكار النظام السابق (الدكتاتوري، الشوفيني، القمعي الخ) ومتشبع بافكار النظام الجديد (الديمقراطي الخ). بامكانك ان تضع اسبابا اخرى، لكن السبب الذي ذكرته توا يكفي لتفسير هذا الامر الغريب. ولماذا اصفه بالغريب؟ لاننا نعرف، ومنذ حمورابي ، (سادِس مُلوك السُلالة البابلية الأولى وأول مُلوك الإمبراطورية البابلية، والذي حكم قرابة 42 عاماً بين 1792 - 1750 قَبلَ الميلاد)، مرورا بالثورة الفرنسية لعام ١٧٨٩، وليس انتهاء بالنظام الصدامي نفسه (١٩٦٨-٢٠٠٣)، حيث تولي الانظمة السياسية اهمية خاصة لتنشئة الاطفال تنشئة سياسية تنسجم مع متبنياتها الفكرية والسياسية. لم تفعل الطبقة السياسية ذلك، فبقي الجيل الذي نشأ في ظلها تائها تتقاذفه الامواج التي رأينا بعض نماذجها واثارها في بعض حفلات التخرج.
نبهت على هذه المسألة في وقت مبكر في احدى افتتاحيات صحيفة "الصباح" التي كنت رئيس تحريرها، ودعوت الحكومة، بل الحكومات المتعاقبة وصولا الى الحكومة الحالية، الى تبني نظام تربوي حضاري حديث يضمن تخريج جيل جديد من المواطنين الفعالين الذين يؤمنون بالدولة الديمقراطية الحضارية الحديثة، ويفهمون الدين فهما حضاريا، ويكونون مؤهلين لدخول معترك الحياة بعد التخرج بهذه الصفة. ووضعت الخطوط العريضة لهذا النظام التربوي الحضاري الحديث وارسلتها الى اغلب من تولوا منصب رئاسة مجلس الوزراء، ولكن للاسف كانت الاستجابة معدومة او غير كافية وبقي طلابنا الاعزاء دون اهتمام جدي من لدن الطبقة السياسية الحاكمة، ودون تنشئة سياسية حضارية حديثة. والى ذلك اعزو الكثير من المظاهر السلبية المستجدة في المجتمع العراقي التي لا يمكن علاجها الى بالعودة الى مهد المسألة وهي المدرسة. ففي المدرسة ينشأ الجيل الجديد المحصن من الامراض الاجتماعية .
وفي الافكار التي طرحتها في سياق النظام التربوي الحضاري الحديث قلت ان ذلك يتضمن جانبين: hardware و software . الاول يعني الجوانب المادية من العملية التربوية وفي مقدمتها المباني المدرسية وتأثيثها وطباعة الكتب المدرسية وبقية اللوازم، والثاني يعني محتوى المنهج الدراسي في مختلف الحقول وليس فقط مادة الاخلاق. وانما خصصت مادة الاخلاق بالذكر لأنني سمعت ان وزارة التربية عازمة على ادخالها في مقررات المدارس الابتدائية والمتوسطة و الثانوية. وهذه خطوة مبتورة وان بدت جميلة، لان النظام التربوي الحضاري الحديث لا يقتصر على مادة الاخلاق.
مرت ٢١ عاما. ومع ذلك لم يفت الوقت بعد. ما زال لدينا الكثير من الوقت. ولذا اجدد الدعوة الى مشروع النظام التربوي الحضاري الحديث. وكما قلت في مقالات سابقة فان ذلك يتطلب تشكل اللجنة الدائمة او المجلس الاعلى للتربية الذي يأخذ على عاتقه قيادة العملية للتربوية في ضوء النظام التربوي الحضاري آلحديث. وكما شرحت في مقالات سابقة فاني افضل ان تكون عضوية هذا المجلس دائمية وتطوعية بحيث لا يشغل اعضاؤه درجات وظيفية في الدولة ولا يتقاضون رواتب مقابل عضويتهم في المجلس او اللجنة. وان تكون عضوية المجلس خارج نطاق المساومات السياسية والمحاصصات الحزبية والعرقية والمذهبية، وخارج التشكيلة الحكومية حتى لا تذهب بذهاب الحكومة. واذا تبنت الدولة هذه الدعوة فمن الممكن الشروع بتنفيذها اعتبارا من العام الدراسي ٢٠٢٥-٢٠٢٦.