انطلاقا من آية النفر وحديث الثقلين وحديث اللوابس في النصوص الشرعية الآتية: قال تعالى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) التوبة: 122. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إني قد تركت فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي وأحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) بحار الانوار للمجلسي: 23 / 106 / 7. قال الإمام الصادق (عليه السلام): (العالم بزمانه، لا تهجم عليه اللوابس) تحف العقول للحراني: ٣٥٦. نحن مطالبون بنشر الثقافة الإسلامية الأصيلة المبثوثة في الكتاب والعترة ولكن بطرق حديثة مواكبة للتطور التكنلوجي السائدة في ارجاء المعمورة، وهذه المهمة لا يقوم بها الا العلماء المتخصصون في مجالات الفقه والتفسير والحديث وسيرة المعصومين، وفي ظل الثورة الرقمية المتسارعة، يبرز الذكاء الاصطناعي كأداة فاعلة في مختلف ميادين الحياة، ومنها المجال الثقافي والديني، وتأتي هذه الفكرة لبحث إمكانية توظيف الذكاء الاصطناعي في نشر ثقافة أهل البيت (عليهم السلام)، بما يعزز الوعي الديني، ويواكب حاجات الأجيال الجديدة في فهم التراث والمعارف الإسلامية.
الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً عن الوعي بل داعما له، وبما ان ثقافة أهل البيت عليهم السلام مفعمة بالعلوم الجمة والقيم الزاخرة والمعارف المكتنزة، فإنها بحاجة الى تقديمها الى العالم بأسره بحلة جديدة تنسجم مع التقدم التكنلوجي سرعة وأداء وجودة، وهو الأداة الفعّالة لنشر النور المحمدي والعلوي بطريقة ذكية وشاملة، تُقرّب فكر أهل البيت (ع) من العقول والقلوب في زمن السرعة والتقنية، هذا ما طلبه الإمام علي بن موسى الرضا (ع) من محبيه بقوله: (رحم الله عبداً أحيا أمرنا، فقيل له: كيف يُحيي أمركم؟ قال (ع): يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا) عيون أخبار الرضا (ع)، الشيخ الصدوق، ج1، ص275.
ومن أجل ترسيخ مفاهيم أهل البيت بين الأوساط المختلفة لينهلوا من ينابيعها الدافقة بسرعة فائقة وسلاسة مرجوة، فان ممثل المرجعية الدينية العليا سماحة السيد أحمد الصافي قد دعا إلى "توظيف الذكاء الاصطناعي في إنتاج محتوى يُسهم في نشر ثقافة أهل البيت (ع) بين أوساط المجتمع لا سيّما الشباب".
الجوانب التاريخية وتوثيق الأحداث المهمّة
توثيق الأحداث التاريخية يُعدّ من الركائز الأساسية في حفظ هوية الشعوب، ونقل تجاربها إلى الأجيال القادمة، فالتاريخ ليس مجرد سردٍ للوقائع، بل هو سجلٌّ للوعي الجماعي، ومنبع للعِبر، وأداة لصناعة المستقبل، وهو يحمل بين طياته الأهداف التالية:
أولا: حفظ الحقيقة من التحريف، فالتوثيق الدقيق يمنع تشويه الأحداث أو تزويرها، ويسهم في صيانة ذاكرة الأمة من النسيان أو التلاعب السياسي والفكري.
ثانيا: بناء الهوية الحضارية، الأمم التي توثق تاريخها تعرف نفسها جيدا، وتُدرك جذورها ومقوماتها، وهو توثيق البطولات، الثورات، والعلماء الذي يرسّخ الفخر والانتماء في النفوس.
ثالثا: الاستفادة من التجارب، التاريخ المُوثّق يُتيح قراءة دقيقة للماضي، واستلهام الدروس لتفادي الأخطاء وتكرارها، وهي تشكّل موردا استراتيجيا لصنّاع القرار والمفكرين.
رابعا: دعم البحث العلمي، والدعم بدون توثيق، تضيع فيه المصادر، ويتعذّر التحقق، وتضعف الدراسات، والتوثيق يسهم في إثراء المكتبة التاريخية والمعرفية.
خامسا: مقاومة محو الذاكرة، في ظل صراعات الهوية والاستعمار الثقافي، يصبح التوثيق سلاحا ضد محاولات طمس الذاكرة الجمعية.
ومن الواضح ان توثيق الأحداث التاريخية ليس ترفا معرفيا، بل ضرورة ثقافية وتربوية، تحفظ الماضي، وتبني الحاضر، وتُنير طريق المستقبل، وهو يمثل فرصة كبيرة لنقل تراثهم ومبادئهم إلى أوسع شريحة من الناس، بلغة عصرية وبوسائل تواكب تطور العصر.
إتاحة المحتوى التراثي يكمن في رقمنة كتب الحديث والتفسير والسيرة المرتبطة بأهل البيت (ع) وتصنيفها وشرحها بلغة مبسطة عبر تطبيقات ذكية، هذا ما أكد عليه السيد الصافي عند لقائه رئيس مؤسّسة الوافي للتوثيق والدراسات السيد أحمد صادق وعدداً من مسؤولي المؤسّسة التابعة للعتبة العباسية المقدسة، ذلك في يوم الجمعة، 31 مايو 2024 م وشدّد السيد الصافي على "أهمّية الاعتناء بالجوانب التاريخية وتوثيق الأحداث المهمّة، واستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي في هذا المجال، ليناسب تقديمها الجيل الجديد".
القيم الأخلاقية والاجتماعية في قصص الأنبياء والاولياء والعلماء
الذكاء الاصطناعي فرصة عظيمة لنشر ثقافة أهل البيت (ع) بطريقة مؤثرة وعالمية، لكنه يتطلب رؤية علمائية وتخطيطاً تربوياً وفنياً يضمن نقل الفكر الأصيل بأدوات حديثة دون أن يُفرّغ من محتواه الروحي والرسالي، والتعشيق الثقافي التكنلوجي هذا يسهم في تفعيل المقومات الأساسية في نهضة الأمم ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:
1ـ التعليم والتفاعل: استخدام روبوتات محادثة (مثل الذكاء الاصطناعي) للإجابة عن أسئلة العقيدة والفقه والسيرة، وتقديم دروس ومحاضرات تفاعلية مدعومة بالصوت والصورة.
2ـ تحليل النصوص ومقارنة أقوال الأئمة (ع) بمواقف فكرية معاصرة، واستخراج القيم الأخلاقية والاجتماعية من تراثهم بطرق منهجية.
تمتاز ثقافة أهل البيت (عليهم السلام) بالشمول والعمق الروحي والأخلاقي والفكري، إلا أن إيصالها إلى الجماهير، لا سيما الشباب، يحتاج إلى أدوات حديثة، الذكاء الاصطناعي يوفر منصات ذكية وتفاعلية تمكّن من عرض هذا التراث بلغة يفهمها جيل التقنية، وهي تعتمد على:
أولاً: المفهوم والتحديات، فالذكاء الاصطناعي: هو محاكاة قدرات التفكير البشري في الآلات، وفي الوقت نفسه يؤدي الى الحفاظ على أصالة المعارف الدينية عند تحويلها إلى بيئة رقمية ذكية.
ثانيا: مجالات التوظيف وهي سائدة في التقنيات التالية:
1. الرقمنة والتبويب الذكي للتراث: وتتم بفهرسة كتب الحديث والسيرة، واستخدام (NLP) لاستخراج المفاهيم والقيم من النصوص.
2. المنصات التفاعلية: وهي روبوتات دردشة للإجابة عن الأسئلة الدينية استنادا إلى فكر أهل البيت، وكذلك تطبيقات تقدم فتاوى، أدعية، وقصص الأئمة (ع) بشكل تفاعلي.
3. المحتوى الإعلامي الذكي: توليد مقاطع فيديو أو صوتيات دينية عبر استخدام الذكاء الاصطناعي والاستفادة من المقالات والخطب الوعظية.
4. التعليم والتدريب: دورات ذكية لتعليم الفكر الإسلامي بصيغة إلكترونية، مدعومة بالاختبارات والتحليل الآلي لتقدم المتعلّم.
ثالثا: الضوابط والاعتبارات: ويتم ذلك بإشراف علمائي على المحتوى، والتحقق من مصادر المعلومات، ومراعاة الحساسيات العقائدية والثقافية.
هذا ما ذهب اليه السيد الصافي وأكد على "ضرورة الاهتمام بقصص الأنبياء والمعصومين (عليهم السلام)، وقصص علماء الأمّة ونشرها، لكونها دروساً مستمرّة لضمان تأثيرها في المجتمع المسلم".
استثمار الذكاء الاصطناعي في استعراض القضية الحسينية
تمثل القضية الحسينية نموذجا خالدا للثورة على الظلم والانحراف، وتحمل رسائل روحية وإنسانية وأخلاقية تصلح لكل زمان، ومع تطور أدوات الذكاء الاصطناعي، أصبحت هناك فرص واسعة لاستعراض هذه القضية العظيمة بوسائل حديثة تُخاطب العقل والقلب، خصوصا في عصر الإعلام الرقمي والذكاء التفاعلي.
القضية الحسينية، بجوانبها العقدية والتاريخية والتربوية، تحتاج إلى عرض متجدد وشامل، خاصة لجيل التقنية، وهنا يبرز الذكاء الاصطناعي كأداة فعّالة لتقديم معركة كربلاء وقيمها بلغة العصر، وبأسلوب مؤثر وعميق.
أبرز مجالات الاستثمار:
1. تحليل نصوص التراث الحسيني: باستخدام تقنيات معالجة اللغة الطبيعية (NLP) لتحليل خطب الإمام الحسين (ع) ورسائله، وتصنيف القيم والمفاهيم مثل: الحرية، الكرامة، الإصلاح، الشهادة.
2. الوسائط التفاعلية: تتم من خلال إنتاج فيديوهات ذكية بتقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي تحاكي وقائع الطف، وإنشاء تطبيقات تفاعلية تروي السيرة الحسينية بصوت وصورة وتحليل.
3. المحاكاة والتعليم: تطوير ألعاب تعليمية تعتمد الذكاء الاصطناعي لتعريف الأطفال والناشئة بكربلاء وقيمها، ومحاكاة مواقف كربلاء بأسلوب تفاعلي للتأمل واتخاذ الموقف.
4. الرد على الشبهات: بناء نظم ذكاء اصطناعي قادرة على استقبال الأسئلة حول الثورة الحسينية وتقديم ردود علمية مستندة للمصادر المعتبرة.
5. تحليل الخطاب الحسيني إعلاميا: توظيف أدوات الذكاء الاصطناعي لفهم تأثير الخطاب الحسيني في الإعلام والمجتمع عبر تحليل البيانات والنصوص والخطب.
وهذا يؤدي الى برمجة الكثير من الضوابط والاعتبارات التي تصب في تحقيق الدقة التاريخية، والابتعاد عن التهوين أو التهويل العاطفي غير المنضبط، وإشراف علماء ومختصين في الشريعة والتاريخ، لضبط إيقاع المعلومات بما يواكب ذلك التوظيف البرمجي، فالقضية الحسينية ليست فقط حدثا تاريخيا، بل مشروعا إصلاحيا مستمرا، واستثمار الذكاء الاصطناعي في عرضها يفتح آفاقا جديدة لإيصال رسالتها إلى العالم، بشرط الحفاظ على جوهرها وقدسيتها.
وفي هذا الإطار نوّه سماحته إلى "الاستفادة من اقتراب موسم شهرَيْ محرم وصفر، واستثمار الذكاء الاصطناعي في صناعة محتوى يستعرض القضية الحسينية، واستمرار الشباب على ممارسة طقوس الزيارة وخصوصاً المشي إلى كربلاء".
الذكاء الاصطناعي وانتاج الأفلام الوثائقية
إنتاج المحتوى الإعلامي الهادف هو عملية استخدام الوسائل الإعلامية لنشر رسائل تحمل قيماً أخلاقية وإنسانية وثقافية تُسهم في بناء الوعي الفردي والمجتمعي، وتُواجه الانحدار الأخلاقي والسطحية السائدة في كثير من وسائل الإعلام، ومن أهم الأهداف التي يمكن رصدها في مجال الإنتاج ما يلي:
1. تعزيز القيم: يعتمد على نشر مبادئ الصدق، الاحترام، العدالة، والرحمة.
2. رفع الوعي: وهو تسليط الضوء على القضايا الاجتماعية والثقافية المهمة.
3. تصحيح المفاهيم: يتم بمواجهة الشبهات والانحرافات الفكرية والسلوكية.
4. تمكين المجتمعات: تتركز على دعم الهوية، التعليم، والمبادرات الإيجابية.
ولكي نفعّل تلك النقاط الأربعة لابدّ من إيجاد عناصر تعمل على انجاح المحتوى الإعلامي الهادف وأهمها: الصدق والوضوح، التوازن بين الفكرة والعاطفة، الجاذبية البصرية والصوتية، اللغة المناسبة للجمهور المستهدف، والالتزام بالأصالة مع التجديد في الأسلوب، والأمثلة على المحتوى الهادف كثيرة ومتعددة منها: فيديوهات توعوية قصيرة، بودكاست تربوي أو ديني، مقالات رأي بناءة، إنفوغرافيك تعليمي، محتوى تفاعلي للأطفال والناشئة.
فالمحتوى الذي يعتمد الأصالة والتقنية الحديثة هو وسيلة فعّالة لصناعة التغيير الإيجابي في الوعي والسلوك، ويجب أن يتكامل فيه الهدف الشريف مع الوسيلة الذكية، ويمكن الوصول الى إنتاج محتوى إعلامي هادف عبر كتابة خطب، مقالات، رسائل توعوية، قصص روائية، مستندة إلى فكر أهل البيت، وإنشاء مقاطع مرئية أو صوتية بتقنيات الذكاء الاصطناعي، ومن خلال هذا المحتوى ينبغي الوصول للشباب بلغتهم وذلك بتقديم فكر أهل البيت عبر تطبيقات، ألعاب معرفية، ومنصات تواصل اجتماعي مدعومة بالذكاء الاصطناعي.
هذا ما حدا برئيس المؤسّسة المهندس أحمد صادق أن يعرض على السيد الصافي، نماذج من عدّة أعمال نفّذها فريقٌ مختصّ بتقنيات الذكاء الاصطناعي، بعضها موجّه للأطفال وبعضها تاريخيّ تعليميّ، وكذلك البدء بمشروع جديد وهو انتاج الأفلام الوثائقية عن طريق تقنية الذكاء الاصطناعي.