البيئة، التراث، التاريخ، العائلة، المدرسة، كل هذه المحطات تؤثر في الانسان سلبا اذا كانت ملوّثة، وايجابا اذا كانت نقيّة، وبما ان الانسان خلقه الله تعالى مختارا يتقلّب بين التقوى والفجور، بين العقل والحمق، بين الفضيلة والرذيلة، وبما ان سنيّ الانسان الاولى هي التي تحدد شخصيته في المستقبل، لما لها بالغ الأثر في تكوين شخصيته وعواطفه وسلوكه وادراكه وعلاقاته العائلية والمجتمعية بما يسمى في علم النفس بسيكولوجية الانسان، وهو العلم الذي يدرس الوظائف العقلية والسلوك الفردي للمجتمعات بما يخدم التنمية المستدامة في أي مجتمع يرنو الى التطوير والتقدم والرفاه، من هذا المنطلق يتوضح أمامنا جليا قول أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما قال: (الجمال في اللسان، والكمال في العقل، ولا يزال العقل والحمق يتغالبان على الرجل إلى ثماني عشرة سنة، فإذا بلغها غلب عليه أكثرهما فيه) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ١ - ص ٩٦.
من المعلوم ان سني الطفولة والمراهقة والشباب هي التي تحدد مصير الانسان، فان الأمم الراقية تهتم بالتربية والتعليم في هذه الفترة الاهتمام البالغ، والمهتمون بالتنمية والتخطيط والتطوير يحاولون دائما تغليب جنبة العقل على الحمق، لاسيما في وقتنا الحاضر الذي يتعرض الشباب الى شتى المغريات الشهوانية في عالم السوشيال ميديا والتواصل الاجتماعي، وهي منصات تكنولوجية تتيح للأفراد والشركات التواصل والتفاعل عبر الإنترنت، تعتمد هذه المنصات على وجود اتصال بالإنترنت وأجهزة مثل الهواتف الذكية أو الحواسيب، من خلالها يمكن مشاركة المعلومات والأفكار بسهولة ونشر محتوى مثل النصوص والصور والفيديوهات، والمحتوى يمكن ان يكون هابطا فيكون سببا في تدمير الشعوب وهو غلبة الحمق في قول الأمير، ويمكن ان يكون هادفا فيكون سببا في تقدم الشعوب وهو غلبة العقل في قول الأمير.
وبما ان العقل العراقي لا يخرج عن قاعدة العقل والحمق، بيد انه ولما لديه من مقومات الارث الحضاري والديني الممتد عبر آلاف السنين ابتداء من حمورابي مرورا بمشروع الكتاب والعترة الذي ارسى دعائمه الرسول الأعظم وانتهاء بالمنقذ المخلص الذي يصلح الله تعالى على يديه العالم بأسره في تشكيل الحضارة المادية والمعنوية بأرقى صورها، وفي عصره تكتمل العقول وتتحقق الأحلام كما جاء عن الامام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (إذا قام قائمنا وضع يده على رؤوس العباد، فجمع به عقولهم، وأكمل به أخلاقهم) مكيال المكارم - ميرزا محمد تقي الأصفهاني - ج ١ - ص ٢٧٢. فان هذا الشعب المعطاء يكون ولودا للكفاءات العلمية على مدى الدهور والأزمان؛ لتميّز العقل العراقي عن غيره من العقول؛ للتركيبة الفسيولوجية المادية والسيكولوجية العقلية لديه، وهذا ما أكدته احدى المنظمات العالمية التي تعنى بنسبة ذكاء الشعوب في العالم التابعة للأمم المتحدة في ترتيب الدول العربية في مؤشر معدل الذكاء في العام 2024م، حيث ان العراق حصل على المرتبة الأولى بنسبة ذكاء (89)% وترتيبه عالميا (61) ويليه البحرين بنسبة ذكاء (84)% وترتيبها عالميا (97) والامارات بنسبة ذكاء (82)% وترتيبها عالميا (106) ولبنان بنسبة ذكاء (81)% وترتيبها عالميا (110) وليبيا بنسبة ذكاء (80)% وترتيبها عالميا (115). المصدر مراجعة سكان العالم للأمم المتحدة.
ولا غرابة وقتئذ في تأكيد ممثل المرجعية الدينية العليا والمتولي الشرعي للعتبة العباسية المقدسة سماحة السيد أحمد الصافي على ضرورة إنجاز المشاريع الكبيرة وفق المواصفات العالمية بالاعتماد على العقول العراقية، جاء ذلك في أثناء استقباله وفد مجلس الحكماء للحوار والحوكمة، يوم الاثنين، 11 نوفمبر 2024م والاستماع إلى حديث عن عمل المجلس الذي يضم عشرات الأعضاء من العلماء العراقيين من مختلف الاختصاصات الإدارية، والقانونية، والاقتصادية، والهندسية، والطبية، والسياسية، الذين يعملون على دراسة التحديات التي تواجه البلد وتقديم خلاصة لأصحاب القرار.
ورحب السيد الصافي بالوفد قائلًا: "نحن دائمًا نعتز بكفاءاتكم وقدراتكم، ولا بأس باستعراض بعض الأمور التي يمكن أن تعينكم على تحويل علمكم النافع إلى عمل مثمر، رغم علمنا بما تعانونه من صعاب وعقبات، قد تجعلكم تشعرون بالإحباط، ولكن عليكم أن لا تتأثروا بهذا الامر، وأنتم أهلٌ لذلك" يضاف لما تقدم أن إعطاء الأهمية للولاءات الحزبية وإهمال الكفاءات والخبرات ولّد الإحباط لدى الكثير، فغادروا بلدهم الذي تعب عليهم وأعدهم أعداداً علمياً واعياً، وليس ثمة شك في إن القيادات السياسية اذا كانت جادة في تحقيق النجاح والتقدم في أي مجال من المجالات فينبغي ان تستند إلى المعرفة التي هي استيعاب للواقع بكل أبعاده وجوانبه وحركته، هذا النوع من المعرفة هو الذي نجده عند أغلب العقول العراقية في الداخل واغلب العقول العراقية في الخارج، وطموحنا هو ان تساهم في بناء الوطن ورسم مستقبله.
لقد أسهمت العقول العراقية قبل أكثر من خمسة آلاف سنة في وضع أسس الحضارة وشملت المنجزات وما قدمته العقول في ميادين مختلفة، فالكفاءات العراقية من أطباء ومهندسين وفنيين وقانونيين وفي مجالات أخرى واصلت عطاءها العلمي الذي أثار حفيظة الكثير من المتخلفين والدول العظمى وأثبتوا للعالم اجمع بان الثروة الحقيقية للعراق هي ليست النفط وإنما عقول الكفاءات وأصحاب الخبرات والإبداع فهم ثروة البلاد الأساسية، وهم القادرون على بناء كل ما دمرته الأيدي الغاشمة، وان الأمة التي لا تحترم كفاءاتها وعلماءها وخبراءها لا تستحق الحياة، ممثل المرجعية الدينية العليا قد أشار الى هذه المساهمة الفعالة بقوله: "علينا أولاً أن نتفق على بعض المبادئ التي نعتقد بها، أولها أنّ العقل العلمي العراقي هو عقل ناضج ومتميز ومبدع، ولدينا في البلد اليوم طاقات في كل العلوم التطبيقية، فضلاً عن العلوم الإنسانية التي لها حساباتها وبرهنتها ومقاييسها، ولسنا بصددها الآن، وأقصد بالتطبيقية ما يتعلق بالهندسة، والطب، والعلوم، كالكيمياء والفيزياء وغيرها، مما نسميها في الفلسفة القديمة بالطبيعيات، فالعقل العراقي في هذه العلوم - ما شاء الله - يستطيع أن يشخص المشكلة ويحلها".
وبيّن سماحته، "ولكن هناك قضية ثانية مرادفة لهذا الأمر، وهي إنّه منذ تشكيل الدولة الحديثة في العراق قبل أكثر من قرن، هناك في هياكل الدولة في دائرة ما، أو وزارة، إنّه في الغالب، العراقي في سدة المسؤولية لا يسمع من العراقي العالم أو الباحث إن قدم له استشارة ما في مجال عمل تلك الوزارة، سواء لغرض التطوير أو حل مشكلة تقنية أو إدارية أو كل ما من شأنه تقدّم البلد، وكأن مشكلة سوء الظن متركب في عقلية الكثير من أبناء شعبنا من أصحاب القرار في مختلف مفاصل الدولة، بينما قد يقبلون الاستشارة من شخص أجنبي كان طالبًا درس عند نفس ذلك الاستاذ أو العالم العراقي!!، وعلم ذلك الأجنبي أقل من أستاذه العراقي!! فيكون قبول استشارة الأجنبي لمجرد أنّه أجنبي!!" ونود التنويه إلى أن الخسارة التي تتعرض لها الدول المصدرة للكفاءة تختلف من دولة لأخرى، لأن البعض من الدول لديها فيض من الكفاءات وان سوقها المحلية غير قادرة على استيعابها، ومن هذه الدول مصر والهند، في حين أن العراق بحاجة ماسة إلى جميع الكفاءات العراقية للإمكانيات المادية الكبيرة التي يمتلكها ولحاجته للبناء والتقدم في مختلف المجالات، ولكن المشكلة في غياب التخطيط وعدم الاستقرار والمحسوبية لدى الكثير من أصحاب القرار في العراق.
ان الدول الأوروبية بنت اقتصادها بنهبها لثروات الدول النامية وأغرقتها في المديونية رغم غناها واستباحت أمنها القومي وأفرغت العراق من كفاءاته العلمية المتميزة؛ لكي تتوقف عجلة التقدم والتنمية الاقتصادية والاجتماعية التي لا يمكن أن تتحقق إلا في أجواء الاستقرار الأمني والحد من الفساد المالي والإداري وتشجيع الاستثمار والاستفادة القصوى من العقول العراقية التي هي أكثر حرصا على مصالح العراق وأقل كلفة، لأن الكفاءات العراقية لا تحتاج إلا إلى توفير سكن مناسب مع مرتب يوفر الكرامة للإنسان، ومؤسسة علمية أو إدارية أو إنتاجية، بعيدة عن المحاصصة والحزبية والولاءات، يأخذ فيها رجل العلم دوره الذي يستحقه، إضافة إلى قراءة متأملة منصفة لقانون الخدمة الجامعية رقم (23) لسنة 2008 ومنح أصحاب الكفاءات في الداخل والخارج ما يستحقونه من امتيازات وهم في الخدمة أو عند إحالتهم على التقاعد.
وفي إطار معالجة هذا الأمر، ذكر سماحته "حاولوا الإلحاح في تقديم استشاراتكم العلمية ذات الجانب العملي إلى أصحاب القرار؛ من أجل حل مشاكل البلد، وكونوا أقوياء بالمتابعة مع الأشخاص الذين تثقون بهم في دوائرهم، كونهم مؤثرين ومهتمين لمصلحة البلد، لتضمنوا وصول الدراسة إلى الجهة المعنية حتى قبول تنفيذها، لتأخذ الجهة المعنية بالدراسة متابعتكم ورغبتكم في حل المشكلة على محمل الجد، خاصة لو بيعت الدراسة من قبلكم كي تشعروهم بأنها ذات قيمة، بخلاف فيما لو أُعطيت مجانًا، فقد يزهدون بها ويعتبرونها مبذولة للغير، في حين أنّ الكثير لا يعلمون انكم ذو حرص على الدراسة وحل مشاكل البلد، ولا يفهمون أنّكم أعددتم الدراسة وقدمتموها مجانًا من باب حبكم للبلد، لذا فيجب إبقاؤها ذات قيمة ببيعها ومتابعة تنفيذها".
وإذا كان للوفرة في رأس المال العراقي دور كبير في جذب الشركات والخبرات الأجنبية، التي مهما أعطيت من امتيازات فإنها لا تفكر إلا في مصالحها، وعندما تجد فرصة أفضل ستغادر العراق حيث لا يربطها به أي شيء سوى المصلحة التي تتحقق لها، أما الكفاءات العراقية فهي كثيرة في مختلف الاختصاصات وبينها وبين بلدها العراق حب حقيقي وروابط قوية، فلم أجد عراقياً يحمل شهادة عليا أو كفاءة علمية متميزة إلا ويحمل العراق في عقله وضميره، ويطمح للعودة ليأخذ فرصته في مسيرة البناء والتقدم، لهذا الأمر أكد المتولي الشرعي للعتبة العباسية المقدسة: "نحن في العتبة العباسية المقدسة نؤمن بقدرة العقل العراقي، وشخصيًّا ليس عندي مستشارين غير العراقيين إطلاقًا، والحمد لله لدينا مشاريع نفتخر بإنجازها من قبل العقل العراقي، ويقيمها أهل الاختصاص بأنّها ذات جودة عالمية عالية، بل إنّ هناك مشاريع كبيرة دخلنا بها وليس من السهل الدخول فيها، ومنها ما افتتحناه قبل مدة وهو مصنع الجود للمحاليل الوريدية، فالمختصون في قطاع الصحة زاروه وقالوا إنّه منجز وفق أعلى المواصفات القياسية، وهكذا الكثير من القضايا والمشاريع وفي مختلف المجالات".