عند النظر إلى التشيّع كظاهرة دينية واجتماعية ذات أبعاد حضارية، يتضح أنه يمثل منظومة متكاملة من القيم الإسلامية التي تجمع بين البعد الروحي والفكري. فهو ليس مجرد مذهب فقهي ضمن الإطار الإسلامي العام، بل يشكل ركيزة أساسية لرؤية متجددة في قيادة الأمة. يظهر هذا جلياً في دور الفقهاء الذين يمثلون مرجعية تجمع بين التوجيه العلمي والإرشاد الروحي، ما يخلق حالة من التوازن بين الفكر والممارسة. من هذا المنطلق، يتجاوز التشيّع المفهوم التقليدي للولاء السياسي، ليقدم نموذجاً قيادياً يهدف إلى ترسيخ المبادئ الدينية في الحياة العامة، في مقابل مناهج أخرى قد تضع الأولوية للسلطة السياسية على حساب البعد العقائدي.
يتسم التشيّع بوجود مسارين متكاملين في فهمه وتقييمه؛ أولهما يتجلى في سياقه التاريخي الذي يبرز ارتباطه العضوي بالإسلام وجذوره العميقة في الرسالة النبوية. فقد كان التشيّع تعبيراً عن الولاء للأئمة من أهل البيت عليهم السلام باعتبارهم الامتداد الشرعي للرسالة، مما وضعه في مواجهة مستمرة مع الانحرافات التي أصابت السلطة الإسلامية منذ البدايات. وعليه، لم يكن التشيّع مجرد حركة سياسية أو ردة فعل على الظلم، بل موقفاً أصيلاً نابعاً من صلب تعاليم الإسلام، معززاً بقيم العدل والمساواة، وممثلاً لجبهة مقاومة ضد محاولات استغلال الدين لتبرير الاستبداد أو الهيمنة السياسية.
هذا المسار التاريخي لا يقتصر على رفض الطغيان، بل يشمل الجهود الحثيثة للحفاظ على المبادئ الإسلامية الأصيلة التي تركز على العدالة واحترام كرامة الإنسان، رافضاً أي سلطة لا تستمد شرعيتها من الله تعالى. فالتشيّع ظل يرفض الانصياع لأي سلطة سياسية أو دينية تتعارض مع هذه القيم، مؤكداً أن الشرعية الحقيقية تنبثق من الالتزام بمبادئ الوحي الإلهي ووصايا النبي وأهل بيته.
أما المسار الثاني، فهو البعد العقائدي والفكري الذي يمثل العمق الحقيقي للتشيّع، حيث يقوم على منظومة متكاملة من الأصول الدينية، مثل التوحيد والإمامة والمعاد والعدل. وتعد عقيدة الإمامة مركزية في هذا البناء، إذ تُعتبر حجر الزاوية الذي يميز التشيّع عن غيره من المذاهب الإسلامية، باعتبارها امتداداً للولاية الإلهية التي تحفظ الدين من التحريف والانحراف. وخلال عصر الغيبة الكبرى، تولى الفقهاء والعلماء مهمة صون هذه العقيدة، إذ عملوا على توجيه الأمة وحمايتها من الضياع الفكري، مع الحفاظ على نهج التأويل المستند إلى الكتاب والسنة.
هذه المنظومة العقائدية جعلت التشيّع قادراً على مواجهة التحديات الفكرية والضغوط السياسية على مر العصور، إذ لم يتخلّ عن استقلاليته الفكرية أو عن تطوير أدواته المعرفية، بل حرص على الإبداع الفقهي والتفسير العميق الذي يواكب متغيرات الزمان.
وعلى الرغم من المحن الكثيرة التي واجهها، سواء على مستوى القمع السياسي أو في ساحة الصراع الفكري، بقي التشيّع وفياً لمبادئه، متمسكاً بهويته المستقلة التي تجمع بين البعد الروحي والصرامة العلمية. ولعب النظام القيادي المتمثل في المرجعية الدينية دوراً محورياً في الحفاظ على هذا التماسك، إذ ظل الفقهاء والمراجع يمثلون حصناً منيعاً يوجه الأمة نحو الفهم الصحيح للإسلام، ويصونها من الانحرافات التي قد تنشأ بفعل التحولات التاريخية أو الضغوط الثقافية.
التوحيد والولاية: تجسيد عملي للرفض
مفهوم التوحيد في الإسلام لا يقتصر على الإيمان النظري، بل يتجلّى في رفض الطاغوت والانخراط في نظامٍ يوالي أولياء الله. فالتشيّع، من خلال تمسكه بالإمامة والولاية، يُحقق ذلك الربط العملي بين الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، كما في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى﴾. ولا يتحقق التوحيد الحقيقي إلا في ظل قيادة دينية تمثل الامتداد الرسالي، الأمر الذي يجعل التشيّع النموذج العملي لتطبيق الإسلام.
ومع غياب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، ارتبط الشيعة بالفقهاء كقادة يمثلون امتداداً للإمامة في حفظ الدين وتنظيم حياة الأمة، فالمرجعية الدينية ليست مجرد منصب، بل هي امتداد رسالي يضمن استمرارية التشيّع ككيان مستقل عن الأنظمة السياسية. وقد شدّد الإمام المهدي في وصيته لشيعته على مواصفات الفقيه: أن يكون صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، ومطيعاً لأمر مولاه.
هذا النظام الفقهي يعتمد على اختيار شعبي حر؛ إذ لا تفرض الحوزة العلمية مرجعاً بعينه، بل يُترك الخيار للمكلَّفين لاختيار الفقيه الذي يثقون في علمه وورعه. هذه الاستقلالية جعلت المرجعية الدينية الشيعية بعيدة عن تأثير الأنظمة السياسية، بخلاف المؤسسات الدينية الأخرى التي أصبحت جزءاً من هيكل الدولة.
فعبر التاريخ، لعبت المرجعية الشيعية دوراً محورياً في التصدي للظلم. من أبرز الأمثلة الحديثة، فتوى المجدد الشيرازي بتحريم التنباك في إيران، التي أجبرت ناصر الدين شاه القاجاري على التراجع عن قراره بمنح امتياز التبغ للبريطانيين. كذلك، كانت الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني شاهداً على قدرة المرجعية في إسقاط نظام طاغٍ كالشاهنشاهية البهلوية.
وفي العصر الحديث، جسّدت فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي ضد تنظيم داعش أروع صور ارتباط الأمة بقيادتها. هذه الفتوى دفعت ملايين العراقيين للتصدي للإرهاب، وأسفرت عن تشكيل الحشد الشعبي الذي أوقف تمدد داعش وأعاد الأمن للمدن العراقية.
الفرق بين التشيّع والمذاهب الأخرى
النظام المرجعي في التشيّع يمثل نموذجاً فريداً لاستقلالية الأمة، حيث يتصدر العلماء قيادة المجتمع. بينما في المذاهب الأخرى، نرى أن المؤسسات الدينية غالباً ما تكون خاضعة للدولة، ما يجعلها أداة بيد السلطان، وقد شرعن هذا التوجه بنصوص كثيرة في كتب أهل السنة تدعو للطاعة المطلقة للحاكم، حتى وإن كان ظالماً، مثل حديث النبي قال: "يَكونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لا يَهْتَدُونَ بهُدَايَ، وَلَا يَسْتَنُّونَ بسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فيهم رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ في جُثْمَانِ إنْسٍ، قالَ: قُلتُ: كيفَ أَصْنَعُ يا رَسولَ اللهِ، إنْ أَدْرَكْتُ ذلكَ؟ قالَ: تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ، وإنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ، فَاسْمَعْ وَأَطِعْ" (صحيح مسلم رقم 1847)
هذه النصوص شكّلت غطاءً شرعياً للطغاة عبر التاريخ، ما يعكس الفارق الجوهري بين مذهب يجعل الدين أداة للسلطة، وآخر يضع القيادة الفقهية في خدمة الدين واستقلال الأمة.
وفي الختام، المرجعية الدينية في التشيّع ليست مجرد قيادة دينية، بل هي نظام رسالي يضمن استمرار القيم الإسلامية. هذا النظام، الذي أثبت نجاحه عبر القرون، يمثل الخيار الأمثل لأي مجتمع مسلم يسعى لتطبيق الدين في واقعه، بعيداً عن هيمنة الطغاة واستغلال السلطة.