إنها بداية النهاية لكيان قدّر الله تعالى أن يكون خليفة له في الأرض، لقمة الحرام تارة تأتي من السرقة وأخرى من الربا وثالثة من الرشوة والجشع والغش والاحتكار وغيرها من وجوه الرفد المحرّم، واذا ما خالطت دم ولحم واحشاء الانسان فإنها المصيبة العظمى على حركته المادية والمعنوية، إذ أنها ستجهض حركته التكاملية بالانقضاض على موجبات البركة والتقوى والفضيلة، وسيرتكس صاحبها في وحل القسوة والتجبّر والطغيان، ما يجعله منقادا لمغريات الشيطان ومعاندا لطريق الهداية والغفران، فلقمة الحرام اذا ما اختلطت بجسم الانسان ستحفّز فيه نوازع الحرام والشرور والباطل، بخلاف لقمة الحلال اذا ما اختمرت في جسمه فستحثّه على الخير والصلاح والعمل الصالح وكل ما من شأنه أن يصبّ في مصلحة الأمة وخير العباد والبلاد.
أكل المال الحرام قد يمنع الإنسان من نصرة الحقّ، بل خذلانه، وربّما نصرة الباطل والكون في زمرة قتلة أبناء الأنبياء (ع) ـ والعياذ بالله - فقد روي أنّ من صفات المحتشدين في مواجهة الإمام الحسين (ع) مع جيش ابن سعد أنّهم مُلئت بطونهم حراما..! (لما عبّأ عمر بن سعد أصحابه لمحاربة الامام الحسين (عليه السلام) وأحاطوا به من كل جانب حتى جعلوه في مثل الحلقة فخرج (عليه السلام) حتى أتى الناس فاستنصتهم فأبوا أن ينصتوا حتى قال لهم: ويلكم ما عليكم أن تنصتوا إلي فتسمعوا قولي، وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد… وكلكم عاص لأمري غير مستمع قولي فقد ملئت بطونكم من الحرام وطبع على قلوبكم) ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج ٣ – ص ٢٦٠٨.
أنت بين معادلتين لا ثالث لهما، إما ان تأكل لقمة الحلال التي تستسيغها الفطرة ويحث عليها الدين، وإما ان تأكل لقمة الحرام التي تتنفّر منها الفطرة ويحرّمها الدين، فلقمة الحلال هي منشأ أهل الخير والتقوى والايمان، ولقمة الحرام هي منشأ أهل النفاق والغدر والعدوان، هذه المعادلة باتت مفهومة للقاصي والداني، حتى ذلك الاعرابي حينما سئل لماذا أسلمت؟ قال: لم أر شيئا من قول أو فعل يستحسنه العقل وتستطيبه الفطرة إلا وحثّ عليه الإسلام وأمر به وأحلّه رب العزّة سبحانه، ولم أجد شيئا يستقبحه العقل وتستقذره الفطرة إلا ونهى الله عنه وحرّمه على عباده، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) الأعراف: 33.
فما الحرام؟ وما هي آثاره؟ وما هي أنواعه؟ ولماذا الوقوع في الحرام؟ وما موقف المسلم من الحرام؟
الحرام لغة: فكما عرّفه الإمام الرازي في كتابه مختار الصحاح فقال: الحرام هو ضد الحلال وهو ما لا يحل انتهاكه.
وأما اصطلاحا فكما عرّفه علماء الأصول، فقالوا: هو ما طلب الشارع تركه على سبيل الإلزام والجزم بحيث يتعرّض من خالف أمر الترك إلى عقوبة أخروية، أو إلى عقوبة دنيوية إن كان شرع الله مطبقا في الأرض، وارتكاب بعض أنواع الحرام له اثار وضعية يكتوي بها العاصي في الحياة الدنيا قبل الآخرة.
وينبغي أن تعلم أن التحليل والتحريم من حق الله عز وجل وحده فلا يحل لأحد أبدا أن يحلل أو أن يحرم، فذلك من خصائص الربوبية لله عز وجل.
دخل عدي بن حاتم وكان نصرانيا على النبي عليه الصلاة والسلام، وسمعه يقرأ قول الله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّه) التوبة: 31.
قال: يا رسول الله ما اتخذناهم أربابا، لم نسجد لهم، قال: (ألم يحلوا لكم الحرام ويحرموا عليكم الحلال فأطعتموهم؟ قال: بلى، قال: فذلك عبادتكم إياهم) فكل من أطعت في أمر فيه معصية لله عز وجل فقد جعلته ربا وإلها من دون الله عز وجل. الدرر السنية - الموسوعة الحديثية - شروح الأحاديث.
وما أدى إلى الحرام فهو حرام، الزنا حرام، ورب العزة يقول: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) الإسراء:32. ولم يقل: ولا تفعلوا الزنا، أي ينبغي أن تبتعد عن السبل التي تؤدي إلى الزنا، النظرة الخائنة حرام، الخلوة الآثمة حرام، الصورة العارية حرام، اللمسة الآثمة حرام، فكلّ ما أدّى إلى الحرام فهو حرام.
وينبغي أن تعلم أيضا أن الحلال بيّن لا لبس فيه، وأن الحرام واضح لا لبس فيه، وما اشتبه عليك أمره أهو من الحلال أم من الحرام فعليك أن تتقيه خشية الوقوع في الحرام، يقول النبي صلى الله عليه وآله: (الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه) ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج ٤ - ص٣٥١٠.
أما ما هو أثر الحرام؟ فإن للحرام آثارا: أن العبد لا تقبل منه طاعة لقول النبي صلى الله عليه وآله: (من أكل لقمة من حرام لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج ١ - ص ٥٩٧ . ومن أثر الحرام أيضا أن المتصدّق من الحرام لا أجر له، بل يأثم على صدقته لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من جمع مالا حراما ثم تصدق به، لم يكن له فيه أجر وكان إصره عليه) كنز العمال للمتقي الهندي: 6/299/15791.
وأما ما هي أنواع المحرمات؟
أولا: فمن المحرمات ما يتعلق بالمطعم، قال رب العزة سبحانه: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) المائدة: 3. والميتة هو: ما مات حتف أنفه، والدم وهو: الدم المسفوح، وما أهل لغير الله به، ما ذكر عليه اسم غير الله عز وجل، ثم ذكر أنواع الميتة فقال: والمنخنقة وهي: التي تموت خنقا، والموقوذة وهي: التي تموت بسبب الضرب أي تُضرب حتى تموت، والمتردية وهي: التي تسقط من شاهق فتموت، والنطيحة وهي: التي تنطحها غيرها فتموت ثم استثنى فقال: إلا ما ذكيتم.
ثانيا: أما من الأشربة فأولها الخمر وتلحق بها البيرة أيضا لقول النبي صلى الله عليه وآله: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) بحار الانوار للمجلسي: ٧٩ / ١٣١ / ٢٠. ولعن النبي عليه الصلاة والسلام، كل من له صلة بالخمر لقوله: (لعن الله الخمر وغارسها وعاصرها وشاربها وساقيها وبايعها ومشتريها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه) وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج ١٧ - ص ٢٢٤. فكل من له صلة بالخمر ملعون عن لسان النبي عليه الصلاة والسلام، ومن المشروبات المحرمة أيضا المخدرات كالحبوب والحشيش والأفيون والكوكايين والهيروين.ثالثا: ومن المحرّم أيضا ما يتعلق بالكسب كالربا والجشع والاحتكار والرشوة، عن النبي عليه الصلاة والسلام: (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش) موسوعة أحاديث أهل البيت (ع) - الشيخ هادي النجفي - ج ٤. والرائش هو الوسيط بين آخذ الرشوة ومعطيها.
وأما ما هو موقف المسلم من الحرام؟
أولا: فعلى الأمة أن تتربى وتربي على مخافة الله عز وجل وعدم الاقتراب من لقمة الحرام: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) العلق:14.
ثانيا: ينبغي أن تعلم أن الله تعالى قد جعل في الحلال ما يغني عن الحرام، النكاح بدلا عن الزنا، التجارة بدلا عن الربا، المشروبات اللذيذة التي لها الفائدة للبدن والروح بدلا عن الخمرة.
ثالثا: ان الحرام تذهب لذته ولكن تبقى تبعاته ويبقى سواد الوجه عند الله يوم القيامة.
وكلما كانت روافد الحرام متعددة ومتشعبة كلما كانت الجراحات أعمق ومؤثراتها السلبية أبلغ ونتائجها الكارثية أوخم وأوكس، وهكذا فإن الصراع يبقى على أشدّه بين معطيات التقوى وتداعيات الفجور، ولا يزال الانسان يكابد ويصارع من أجل التحليق في أرجاء المادة والروح، تراه تارة يروّض نفسه ويهذّبها ازاء كل المعاني الرائدة التي تضفي عليه وعلى الانسانية مفردة الخلود والسعادة والهناء، ولكنها تبقى ذليلة منكسرة تلك الروح المنغمسة في وحل الحرام فإنها تهوى الى مستنقع الفساد والتيه والرذيلة، ولا غرابة في ذلك، فإنها تغذّت على موائد الحرام وترعرعت على أموال السحت والاحتيال، وتمادت على أموال اليتامى والمساكين، إنها في حقيقة الأمر والواقع مقامع نار وحمم ملتهبة تنزل على رؤوس المتهتّكين، فتهرأ بطونهم حرقا وتذرهم قاعا صفصفا، لا يهنأون بعدها بعيش ولا يستقر لهم بال ولا يهدأ لهم حال، حتى يردوا مراجل الجحيم، وهي على موعد مع كل جبار أثيم، عتل زنيم، معتد على الغير بغير وجه حق ولا صحوة ضمير.