بحلول المئوية الأولى بعد الميلاد اضمحلت فكرة العودة الوشيكة للمسيح على الغمام، كما أن أكثر الحواريين (تلاميذ عيسى) ماتوا، ومع ظهور الجيل الثاني من المسيحيين ـ الذين كان أغلبهم من خارج أورشليم، وكانوا بأمس الحاجة للتعرف على تعاليم المسيح والظروف التي مرّ بها ـ بدت الحاجة ملحة لاعتماد كتاب مقدس غير كتاب "العهد القديم"، وقد ألمحنا في الجزء الأول من هذا المقال أن أقدم هذه الأناجيل الملحونة هو انجيل مرقس وقد كُتب في أنطاكية أو روما زهاء العام 65 أو 70، وقد دونها يوحنا الملقب بمرقس وفق ذكريات بطرس ـ كلاهما من تلاميذ المسيح ـ ومن مميزاته أنه لا يهتم بميلاد يسوع وشبابه، كما لا نجد فيه أثراً لعقيدة تجسد الله في عيسى، ولا لوجوده الأزلي.
بينما نجد عقيدة التجسد واضحة في إنجيلي متّى ولوقا، فيسوع له طبيعة إلهية وقد نزل من السماء لتخليص الجنس البشري. أما الإنجيل الرابع (إنجيل يوحنا ـ فكان إنجيلاً موافقاً لعقيدة بولس المتقدمة في الجزء السابق من المقالة، فالمسيح فيه هو «الكلمة (اللوغوس) قد صار جسداً وحل بيننا زمناً، ورأينا مجده، مجد الأبن الواحد الذي أتى من لدن الأب»، يوحنا 1: 14. فالإنجيل الرابع يتبع بولس في تفكيره أن المسيح يأتي شخصياً من الله، وأنه هو من خلق العالم.
وقد رفضت المجامع المسيحية المُشكَّلة لاحقاً جملة من كتابات الإباء الرسوليين مثل كتابات كليمنت الروماني وهيرماس الروماني ومؤلفي رسالة برنابا وتعاليم الرسل الأثني عشر، والسبب إظهارها لشخصية عيسى عليه السلام البشرية وعبادته لربه، الأمر الذي يتنافى مع القراءة الرسمية المعتمدة، وهي قراءة بولس.
كما اتسمت الكتب المدافعة عن المسيحية بلغة فلسفية مميزة، نظراً لتوجيهها الى أباطرة روما وأصحاب المناصب الرفيعة في الدولة، وهؤلاء كانوا سادة مثقفين، الأمر الذي أثمر تحول بعضهم الى المسيحية، وعلى يد هؤلاء لبست المسيحية ثوب الفلسفة اليونانية لا سيما الأفلاطونية والرواقية، وتخلت عن لباسها العبراني القديم. وكانت الكلمة التي استخدموها للتعبير عن شمولية المسيحية هي "الكاثوليكية" أي العالمية، والتي عبرت لاحقاً عن المؤسسة الدينية للمسيحية بعد منتصف القرن الثاني.
ظهور الفرق المسيحية الأولى
قدمنا في الجزء الأول أن وقت ظهور نبوة عيسى عليه السلام ترافق مع انتشار فلسفات في محيط البحر المتوسط تبحث عن خلود الإنسان عن طريق تجسد الآلهة به، الأمر الذي استغله بولس جيداً، وادعى تحققه في يسوع، فكانت مقبولية عيسى من قبل غير اليهود لتحقق الخلود المنشود في شخصيته، ومن قبل اليهود كونه المسيح المنتظر، وعند مزج المسيحية بالفلسفة نشأ لاهوت كامل وحد بين الدين والفلسفة، لكن لم يكن الأمر بهذه البساطة، فكان على القادة المسيحيين الأوائل المحافظة على التوازن بين الشخصية البشرية ليسوع والشخصية الإلهية، الأمر الذي ستستمر الخلافات فيه لعدة قرون قادمة حتى تستقر على القراءة المسيحية المتداولة اليوم.
ومن بواكير التفسيرات غير المَرضيّة من قبل الكنيسة الكاثوليكية القديمة لنفيهما الجانب البشري في شخصية يسوع المذهبان الغنوصي والمرقيوني، فقد ذهب الغنوصيون (أصحاب المعرفة الباطنية)، الى أن الله جل جلاله يقيم في عالم النور الصافي، وهو غير قابل للمعرفة، تحيط به جماعة من المخلوقات الروحية، من الذكور والإناث تدعى "الدهور"، منها يسوع "الدهر الإلهي الشفيق والرحيم"، ومنها يهوه "إله العبرانيين والعهد القديم"، والذي قام بخلق العالم المادي النجس، ليضل الإنسان، وعندما رأى يسوع "الدهر الرحيم" كيف آلت أمور البشر المساكين، هبط من عليائه متنكراً بجسد بشري، ولم يكن جسداً مادياً حقاً، بل مجرد مظهر لجسد بشري، وبيّن للناس كيف ينقذوا أرواحهم من درن الأجساد المادية النجسة ويظفروا بالخلود، من خلال الزهد واكتساب الحكمة.
وبناء عليه، لابد من رفض عبادة يهوه "إله اليهود"، ونبذ كتاب العهد القديم، وأن يسوع لم يولد حقيقة ولم يُعذب، ولم يمت، وأن البعث يختص بالأرواح دون الأجساد.
وقد وجدت الدعوات الغنوصية صداها في روما على يد شخص يُدعى "مرقيون" فهو رغم اتفاقه مع الغنوصية في رفض كتاب العهد القديم، وباقي الدعوات الغنوصية، بل كان أكثر تطرفاً، إلا أنه لم ينتمي لأحدى مدارسها، كما أنه انسلخ عن كنيسة روما، وأسس تجمعاً خاصاً به، محاولاً تدوين كتاباً مقدساً خاصاً بجماعته، يجمع فيه كتابات بولس ولوقاً، ويحذف جميع المقاطع المتعلقة بعلاقة يسوع بيهوه إله اليهود.
وقد ردت الكنيسة الكاثوليكية بإصدار ما يسمى بـ"شهادة الإيمان" بين سنتي 150 و175 للميلاد، والتي كانت تستخدم عند التعميد، لتعبر عن طبيعة الدين المسيحي البعيد عن الغنوصية والمرقيونية، وكانت تنص: «أؤمن بالله القادر على كل شيء، وبيسوع المسيح، ابنه المولود الوحيد، ربنا، الذي ولد من الروح القدس، ومريم العذراء، والذي صُلب في عهد بونتيوس بيلاطس، وقام من الأموات في اليوم الثالث، وصعد الى السماء، وأُقعد على يمين الأب، حيث سيأتي ليحكم الأحياء والأموات. وأؤمن بالروح القدس والكنيسة المقدسة، ومغفرة الخطايا، وانبعاث الجسد». وقد رفضت هذه الشهادة جميع ما تقدم من عقائد المذهبين.
كما أنها سعت ـ الكنيسة ـ بكل جدية لتثبيت النصوص المقدسة المقبولة من قبلها، وقد تم المهم من ذلك نهاية القرن الثاني للميلاد.
الاضطهاد الأخير ثم الانتصار
رغم اتساع رقعة الدين الجديد إلا أن الحكومة الرومانية بقيت معارضة له، ومنتصرة للديانة الوثنية القديمة، ولعل كان السبب الأهم لرفضها المسيحية اعتقادها أنها ديانة تدعو للتسامح ونبذ العنف، وبالتالي إذا سمحت لهذه الديانة بالانتشار فإنها ستخسر جميع أراضيها تحت ضربات البرابرة المرابطين على امتداد نهر الدانوب والراين، متأهبة لاقتحام الإمبراطورية عند أول فرصة، وقد شن الامبراطور "ماركوس أوريليوس" في آخر سني حكمه (161 ــ 180) عمليات اضطهاد واسعة ضد المسيحيين، وتبعه من بعده الملوك، الى أن وصل الأمر للإمبراطور "ديكوس" عام 250 للميلاد، فبعد ما شاهده من فتور ولا مبالاة عند المسيحيين للدفاع عن أحد التخوم الحدودية قرر تحت طائلة القتل، أن يحصل كل مواطن شهادة من موظف روماني على تقديمه لقربان لصورة الامبراطور، الأمر الذي أدى لقتل الكثير من أساقفة روما وأنطاكيا، وتعذيب الكثيرين الى أن استسلم جماعة منهم خشية القتل، وقد كان يُنظر لهؤلاء من قبل المتشددين على أنهم مرتدون، حتى أنهم رفضوا توبتهم بعد انتهاء الاضطهاد. وفي عهد الامبراطور "فاليريان" تجددت أعمال الاضطهاد بضراوة، وصودرت أملاك الكنيسة وقتل الكثير من الأساقفة ورجال الكهنوت. ثم بدأ الاضطهاد النهائي في عهد "ديوقليتان" سنة 303 بعد الميلاد، فأمر بتدمير جميع الكنائس وحرق الكتب المسيحية المقدسة، وأن يوضعوا الأساقفة ومن دونهم من رجال الدين تحت التعذيب حتى يقدموا القرابين لصورة الامبراطور.
بعد ذلك اعتزل "ديوقليتان" الملك وخلف أربعة قياصرة يتنازعونه، وقد تغلب أخيراً "قسطنطين" على المعارضين الآخرين، وصار في عام 323 ميلادية الحاكم الوحيد للإمبراطورية.
اعتنق الامبراطور "قسطنطين" المسيحية وأعاد لها أملاكها، بل سمح لها بزيادتها، وحارب الفرق المسيحية التي حكمت عليها الكنيسة بالهرطقة، وجعل يوم الأحد عطلة رسمية، وبنى كنائس جديدة، وقد تابعه أخلافه على ذلك حتى أُعلنت المسيحية "دين الدولة الرسمي" سنة 383 للميلاد.
مجمع نيقية
ما زال الخلاف في تفاصيل العقيدة المسيحية يتسع، خصوصاً في طبيعة يسوع، والعلاقة بينه وبين الأب والروح القدس، وقد تفجر الأمر عندما اختلف أحد قادة الدعوة المسيحية يدعى " إريوس" مع مطارنه في الإسكندرية في مسألة أزلية المسيح، فذهب "إريوس" الى انه مخلوق محدود، خُلق من العدم، تختلف طبيعته عن طبيعة الله سبحانه، بينما ذهب المطارنة الى أزليته، وإنه لم يُخلق، ومن جوهر وطبيعة مشابه لجوهر وطبيعة الله (تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً). ولردم الهوة بين الأساقفة، بعد أن بائت جهود الصلح، تبنى قسطنطين ضرورة إرجاع الأمر الى مجلس عالمي للكنائس، وذلك في صيف عام 325 للميلاد، فالتقى نحو ثلاثمائة أسقف مفوض، جلهم من الشرق، في مدينة "نيقيا" قرب البوسفور، وكتبوا ما سيُعرف لاحقاً "بشهادة الإيمان" والتي تنص:
«نؤمن بالله الواحد، الأب كلي القدرة، خالق كل الأشياء المنظورة وغير المنظورة، وبرب واحد هو يسوع المسيح، ابن الله، المولود من الأب، بوصفه ابنه الوحيد، أي من جوهر الأب، إله من إله، ونور من نور، إله حقيقي من إله حقيقي، ومن نفس جوهر الأب، الرب الذي من خلاله خُلقت كل الأشياء في السماء والأرض، ومن أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل وجُعل جسداً، وصار إنساناً وتألم، وقام في اليوم الثالث، وصعد الى السماء، وهو قادم ليحكم الأحياء والأموات. ونحن نؤمن بالروح القدس». ثم تلى ذلك صب اللعنات على من قال بأن جوهر يسوع مغاير لجوهر الله، أو أنه كان مسبوقاً بالعدم، في إشارة واضحة لمتبنيات "إريوس".
وقد صارعت هذه الشهادة باقي القراءات المسيحية لأجيال تلت، حتى استقرت في نظر الكنيسة كشهادة معصومة عن الخطأ.
انشقاق الكنيسة القبطية في الإسكندرية
كانت طبيعة يسوع الإلهية ـ حسب التصور المسيحي ـ أكثر الخلافات تأثيراً في الفكر المسيحي، فرغم ان شهادة الإيمان النيقية متقدمة الذكر ذكرت أن الأبن "يسوع" والكلمة "اللوغوس" بمرتبة متساوية مع الأب "الله" وليسا أدنى منه، إلا أنها لم توضح كيفية اتحاد الطبيعة الإلهية مع الطبيعة البشرية للمسيح؟! فكانت هذه المسألة من أعقد مباحث اللاهوت المسيحي، وقد تركز النزاع في تصوير بشرية يسوع، بعد الفراغ من إلوهيته! فهل هو بشر مثلنا، أم أن جسده المادي مجرد غلاف يوحي بآدميته، لم يكن قطاً حقيقي؟
ذهب فريق الى أن القول بوجود طبيعة بشرية للمسيح يستلزم تحقق التباين والتمايز مع طبيعته اللاهوتية، مما يجعل من الصعب تفسير شخصية يسوع الموحدة، والحل أن نقول باستيعاب طبيعته الإلهية لطبيعته البشرية. وهذا ما قبلته الكنيسة الكاثوليكية.
بينما ذهب أساقفة انطاكيا للقول بأن للمسيح طبيعة بشرية كاملة، له عقل وإرادة حرة كسائر البشر، ويقيم فيه اللوغوس (الروح القدس)، كما يقيم الإنسان في معبد، بحيث يريد المسيح ما يريده الروح القدس، في وحدة معنوية تامة. وقد أثار "نسطوريوس" حفيظة رهبان القسطنطينية عندما قال بأن مريم العذراء لم تحمل بإله، بل حبلت بإنسان هو أداة الإله.
وفي سنة 431 تمت الدعوة الى مجمع عام، تم فيه خلع نسطوريوس من منصبه ونفيه، إلا أن المسألة لم تحسم بعد، فانعقد مجمع كنسي عام 451 في مدينة "خلقيدونيا" وصاغ تعريفاً لعلاقة الطبيعة البشرية للمسيح بطبيعته الإلهية وفق وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكية، نصه: «نعترف، ونحن اتباع الآباء المقدسين، وكلنا يُعلّم بالإجماع أن الأبن الواحد ذاته ربنا يسوع المسيح هو في وقت واحد كامل في الإلوهة وكامل بالنظر الى إلوهيته يشترك مع الأب في ماهية واحدة. فهي مثلنا في كل النواحي فيما عدا الخطيئة، وفيما يتعلق بإلوهته فهو مولود الأب قبل العصور، ومع ذلك ففيما يتعلق ببشريته ـ بالنظر الينا والى خلاصنا ـ هو مولود في هذه الأيام الأخيرة من مريم العذراء، أم الله، والمسيح الواحد ذاته، أبن ورب، مولود وحيد ومعلن في طبيعتين من دون خلط، ومن دون تبدل، ومن دون انقسام، ومن دون انفصال واختلاف الطبيعتين، لأنه لا يمكن القضاء عليه بسبب الاتحاد، فإن خصائص كل طبيعة تُحفظ وتلتقي في شخص واحد وأقنوم واحد، ... الخ».
فذهبت الكنيسة في القسطنطينية الى أن لله طبيعة تختلف عن طبيعة يسوع، وهذا ما رفضته كنيسة الإسكندرية، رفضاً تاماً مدعية أنهما ـ والعياذ بالله ـ من طبيعة واحدة، فأطلق عليهم بسبب ذلك "اليعاقبة"، ومنهم نشأت الكنيسة القبطية القائمة اليوم في مصر وأثيوبيا وسورية وأرمينيا، وما زالت منشقة الى يوم الناس هذا.
بحث قرآني في معنى الروح القدس
الروح على ما يستفاد من آيات القرآن الكريم هي مبدأ الحياة، وهي موجود مستقل، ليس من جنس الملائكة، بقرينة عطفه عليها في قوله تعالى في سورة القدر: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)، المعارج: 4، وقوله في سورة القدر: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)، القدر: 4، والأصل في العطف المغايرة.
وهو من عالم الأمر والملكوت، لا من عالم الخلق والمادة، فكل موجود مادي له وجهان، فمن جهة نلاحظه معلولاً لجملة من الأسباب الظاهرية، ومن جهة أخرى نلاحظه من جهة إفاضة الوجود عليه من الله سبحانه، ومن الجهة الأولى يسمى عالم الخلق، ومن الجهة الثانية يسمى عالم الأمر والملكوت، قال تعالى: (.. أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، الأعراف: 54. فعالم الأمر هو كلمة الله وهو إفاضة الوجود على الممكنات، ومما يدل على أن الروح من عالم الأمر، قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)، الأسراء: 85، فهي إذن من عالم الأمر، وقد وضح القرآن المراد من عالم الأمر، بقوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، يس: 82 ـ 83. أي أن الملكوت هو الوجود والفيض الدفعي من الله تعالى، لا بلحاظ الأسباب الظاهرية، ومن هذه الجهة أطلق القرآن الكريم على عيسى أنه روح الله، وأنه كلمته، بلحاظ أنه خلقه من غير أب، أي من غير الأسباب الظاهرية، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ)، النساء: 171.
ثم إننا نجد القرآن تارة يطلق كلمة الروح من دون تقييد، كما في سورة القدر، (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)، وأخرى يقيدها:
فمن الروح ما كان مبدئاً للحياة البشرية، كما في قوله تعالى: (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ... ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ)، السجدة: 9.
ومن الروح ما أيد به المؤمنين، كما قوله تعالى: (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)، المجادلة: 22، وهي أشرف وجوداً وأعلى مرتبة وأقوى أثراً من الروح الانسانية العامة كما يفيده قوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، الأنعام: 122. فقد عد المؤمن حياً ذا نور يمشي به وهو أثر الروح والكافر ميتاً رغم أن له روح إنسانية يحيى بها الحياة البشرية. فللمؤمن روح أخرى غير موجودة للكافر.
ومن الروح ما أيد به الملائكة، كما في قوله تعالى: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)، مريم: 17، وقوله ايضاً: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)، الشعراء: 194.
ومن الروح ما يتأيد به الأنبياء عليهم السلام، كما في قوله تعالى: (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)، البقرة: 87.
فيتضح مما تقدم أن الروح مخلوق أعظم من الملائكة، من مخلوقات عالم الملكوت (عالم الأمر)، يفاض على الخلق بمراتب متفاوته، وكل مرتبة منه لها أثرها خاص، فمرتبة منه، تعطي الإنسان الحياة البشرية، ومرتبة أعلى منه تُفاض على المؤمنين تعصمهم عن كبائر الذنوب، ومرتبة أعلى على الملائكة الكرام والنبيين عليهم السلام. وبهذه المرتبة يعصمون من الذنوب صغيرها وكبيرها.
هذا ما بينه أئمة أهل البيت عليهم السلام بنصوص صريحة مليحة، فقد روى الكليني بسند صحيح عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن جابر الجعفي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا جابر إن الله تبارك وتعالى خلق الخلق ثلاثة أصناف وهو قول الله عزوجل: (وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون أولئك المقربون) فالسابقون هم رسل الله (عليهم السلام) وخاصة الله من خلقه، جعل فيهم خمسة أرواح أيدهم بروح القدس فبه عرفوا الأشياء، وأيدهم بروح الإيمان فبه خافوا الله عزوجل، وأيدهم بروح القوة فبه قدروا على طاعة الله، وأيدهم بروح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله عزوجل وكرهوا معصيته. وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون. وجعل في المؤمنين أصحاب الميمنة روح الإيمان، فبه خافوا الله، وجعل فيهم روح القوة فبه قدروا على طاعة الله، وجعل فيهم روح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون.
وتمييز روح القدس في الرواية عن باقي الأرواح لأنه أنقاها وأطهرها، فأضيف للقدس، أي للطهارة، فالأنبياء فيهم خمسة أرواح، بمعنى أن الروح له مراتب متعددة، والانبياء عليهم السلام يمتلكون هذه الرتب الخمس، لا أنها أرواح مستقلة بعضها عن بعض، ومن يمتلك الرتبة الأعلى فهو يمتلك ما دونها من الرتب.
والمؤمن له أربع مراتب، وهكذا.
وقد يفارق الروح المؤمن عند المعصية، كما رواه الكليني بسند صحيح عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن داود قال: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا زنا الرجل فارقه روح الإيمان؟ قال فقال: هو مثل قول الله عز وجل [(ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) ثم قال غير هذا أبين منه ذلك قول الله عز وجل]: (وأيدهم بروح منه) هو الذي فارقه». الكافي: ج2، ص284.