السبت 2 ربيع الآخر 1446هـ 5 أكتوبر 2024
موقع كلمة الإخباري
هل تذوقتم زاد التقوى؟!
حسن الهاشمي
كاتب وصحافي عراقي
2024 / 07 / 28
0

خلّ الذنوب صغيرها * وكبيرها فهو التقى

واصنع كماش فوق أرض * الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرنّ صغيرة * إن الجبال من الحصى

لماذا لا نطلب التقوى لمن بدأ حياته ملاكا طاهرا؟!  لماذا لا نفلح بالتقوى ونحذر من ان يصيبنا شوك العصيان والفساد والفجور؟! لماذا لا نسعى الى العفو من الله تعالى وهو يعفو عن كثير، ورحمته وسعت كل شيء، ولا يمكن لها ان تضيق بأقوم مخلوقاته الذي أخطأ يوما على حين غرة؟! لماذا لا نتحالف مع الله تعالى، والذي يتحالف مع الخالق المتعال يرفض التحالف مع الشيطان، ولا يمكن أن يغريه طول الأمل؟! لماذا لا نبني المجتمع على أساس إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وأن نطوي القيم الكاذبة من قومية ومال وثروة ومناطق جغرافية وطبقية عن هذا المجتمع؟! صحيح ان الانسان بحاجة الى ان يتزود بالغذاء والسكن واللباس وغيرها من الأمور المادية، وصحيح ان الانسان بحاجة الى ان يتمتع بما وهبه الله له من نعم جمة، ولكن الأصح ان يتم هذه النعم ويغلفها ويحصنها بالتقوى، فإنها خير زاد وهي التي تضفي على زاد الدنيا حالة القداسة والخلود.

وحين نعود إلى الجذر اللغوي لكلمة التقوى نصل إلى أن "التقوى" مشتقة من "الوقاية" ومعناها المواظبة والسعي على حفظ الشيء، والمراد من التقوى حفظ النفس من التلوث بشكل عام، وجعل القوى تتمركز في أمور يكون رضا الله فيها هو الاساس والميزان والمقياس، وقد ذكر بعض الأعاظم للتقوى ثلاث مراحل:

1 - حفظ النفس من (العذاب الخالد) عن طريق تحصيل الاعتقادات الصحيحة.

2 - تجنب كل إثم وهو أعم من أن يكون تركا لواجب أو فعلا لمعصية.

3 - التجلد والاصطبار عن كل ما يشغل القلب ويصرفه عن الحق، وهذه تقوى الخواص بل خاص الخاص.

تحصيل التقوى ليس بالأمر الهيّن، بل بحاجة الى الجدّ والاجتهاد ومجاهدة النفس في تحصيل الواجبات الإلهية وكبح جماح الشهوات الشيطانية، وهذا لا يتحصّل الا بالحياة الدنيا التي يعيش فيها الانسان برهة من الزمن وبإمكانه تحويلها بالتقوى الى فسحة خالدة من النعيم الدائم، وعليه فالتقوى بحاجة الى التأهب والاستعداد لا التقاعس واللامبالاة، الإمام علي (عليه السلام) يقول في هذا المضمار: (عليكم بالجد والاجتهاد، والتأهب والاستعداد، والتزود في منزل الزاد) نهج البلاغة: الخطبة 28 و 157 و 230.

وفي نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) تعابير حية وبليغة في شأن التقوى، حيث ذكرت التقوى في كثير من خطب الإمام وكلماته القصار! ففي بعض كلماته يقارن (عليه السلام) بين التقوى والذنب فيقول: (ألا وإن الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار، ألا وإن التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة) نهج البلاغة الخطبة رقم 16. مرة ان مقود دقائق الحياة ليس في يدك وهي التي تردي بك في المهالك، ومرة ان لجام ازمة الحياة ودهاليزها بيدك تسيّرها بإرادتك الصلبة الى الجنة ورضوان من الله أكبر، وطبقا لهذا التشبيه اللطيف فإن التقوى هي حالة ضبط النفس والتسلط على الشهوات، في حين أن عدم التقوى هو الاستسلام للشهوات وعدم التسلط عليها.

طالما علمتنا التجارب والدهور ان التقوى حصن الانسان من الخوض في المهلكات ويهب صاحبها العز والهيبة والوقار، أما الفجور فانه يردي صاحبه في المهلكات وهو السقوط في الذل والانحطاط والانكسار، يقول الإمام علي عليه السلام في هذا المورد: (اعلموا عباد الله أن التقوى دار حصن عزيز والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه، ألا وبالتقوى تقطع حمة الخطايا) نهج البلاغة الخطبة 157. ويضيف في مكان آخر أيضا: (فاعتصموا بتقوى الله فإن لها حبلا وثيقا عروته، ومعقلا منيعا ذروته) نهج البلاغة الخطبة 190. وتتضح حقيقة التقوى وروحها من خلال مجموع التعبيرات آنفة الذكر.

أجل، التقوى الإلهية والإحساس بالمسؤولية الداخلية والوقوف بوجه الشهوات والالتزام بالحق والصدق والطهارة والعدل، هي وحدها معيار القيم الإنسانية لا غير، بالرغم من أن الكثير من هذه القيم الأصيلة قد نسيت وأهملت في سوق المجتمعات المتخلفة وحلت محلها القيم الكاذبة الخادعة، والحقيقة التي لا مناص من ذكرها ان الباطل مهما علا، فإن ما يبقى وينجح دائماً في النهاية، هو العمل والقول والفعل الحق الذي ينفع الناس، أما ما لا قيمة له فانه لا محالة يذهب جفاء.

التفاخر بالطهر والتقوى والأخلاق الفاضلة ينتج أناسا مؤدبين مؤتمنين محبوبين، بينما التفاخر بالآباء والأموال والأولاد فحسب لم ينتج سوى حفنة سراق ومنحرفين وظالمين، غير أنه بانتهاج الكتاب والعترة، وإحياء أصل إن أكرمكم عند الله أتقاكم الكبير، كان من ثمراته أناس طيبون أمثال سلمان وأبو ذر وعمار وياسر والمقداد، وبطبيعة الحال ان طمس هذا الاصل الأصيل ينتج أناسا منحرفين أمثال ابو سفيان وابو جهل وأبو لهب ومعاوية ويزيد واشباههم من الظلمة والفساق والمجرمين.

القرآن الكريم أباح للناس التزوّد بالنعم والخيرات، ولكنه جعل التقوى خيرا من كل تلك النعم، وعدّها معيارا لمعرفة القيم الإنسانية، وفي مكان آخر عدّها خير الزاد والشراب إذ يقول: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) البقرة: ١٩٧. أما في سورة الأعراف فقد عبر عنها باللباس: (وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ) الأعراف: 26. كما أنه عبر عنها في آيات أخر بأنها واحدة من أول أسس دعوة الأنبياء، ويسمو بها في بعض الآيات إلى أن يعبر عن الله بأنه أهل التقوى فيقول: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) المدثر: 56. والقرآن يعد التقوى نورا من الله، فحيثما رسخت التقوى كان العلم والمعرفة إذ يقول: (وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) البقرة: 282. ويقرن التقوى بالبر في بعض آياته فيقول: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ) المائدة: 2. أو يقرن العدالة بالتقوى فيقول: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) المائدة: 8.

والآن ينبغي أن نرى ما هي "حقيقة التقوى" التي هي أعظم رأس مال معنوي وافتخار للإنسان؟ يعد القرآن كل عمل ينبع من روح الإيمان والإخلاص والنية الصادقة أساسه التقوى، كما جاء في وصفه في شأن "مسجد قبا" في المدينة، حيث بنى المنافقون في قباله "مسجد ضرار" فيقول: (لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ) التوبة: 108. أصحاب الله تعالى هم الذين يبنون بنيانهم على اساس التقوى فيكون صلدا قويا مستحكما، بينما نرمق بناء أصحاب الشيطان فانه يكون على جرف هار سرعانما يهوي بهم في مستنقع الفساد والرذيلة والندم، وفي نهاية المطاف لات حين مندم.

ويستفاد من مجموع هذه الآيات والروايات أن التقوى هي الإحساس بالمسؤولية والتعهد الذي يحكم وجود الإنسان وذلك نتيجة لرسوخ إيمانه في قلبه حيث يصده عن الفجور والذنب، ويدعوه إلى العمل الصالح والبر، ويغسل أعمال الإنسان من التلوثات، ويجعل فكره ونيته في خلوص من أية شائبة، فالموت قادم لا محالة، ماذا أعددنا له من زاد لكي يخلصنا من عقبات البرزخ الكؤودة ومنازل القيامة المهولة؟! إنها الجد وليس الهزل، والمصير المحتوم الذي ينبغي أن نستعد له باستخدام أدوات الدنيا في تعمير الآخرة، وخير الأدوات في الدنيا هي التقوى ولا شيء غير التقوى، فهي الملجأ والمنال والمآل الذي يضمن لنا حياة هانئة، وما الموت فيها الا انتقال من محطة مؤقتة الى محطة دائمة، الإمام علي (عليه السلام) كان كثيرا ما ينادي أصحابه: (تجهزوا رحمكم الله! فقد نودي فيكم بالرحيل، وأقلوا العرجة ـ الاقامة ـ على الدنيا، وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد، فإن أمامكم عقبة كؤودا، ومنازل مخوفة مهولة، لابد من الورود عليها، والوقوف عندها... فاقطعوا علائق الدنيا واستظهروا بزاد التقوى) نهج البلاغة: الخطبة 204، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 11 / 5.

التعليقات