الخميس 20 جمادى الأول 1446هـ 21 نوفمبر 2024
موقع كلمة الإخباري
تاريخ الديانات (2): اليهود.. الغزو الآشوري
الشيخ مقداد الربيعي
2024 / 07 / 01
0

لم تفلح محاولات الأنبياء في تحقيق التغيير الاجتماعي المنشود والوقوف في وجه تفشي الإنحراف العقائدي في بني إسرائيل، فسلط الله عليهم الأمم، وليس في أيدينا من الوثائق التاريخية ما يبين سبب غزو الآشوريين للدولة الشمالية (إسرائيل)، إلا ما جاء في الكتاب المقدس، فقد ذُكر فيه أن سبب ذلك امتناع هوشع ملك إسرائيل دفع الجزية لآشور، وتواصله مع المصريين، وهي دولة يعدها الآشوريون عدوة لهم، فتحرك الآشوريون في زمن شلمنصر الخامس، وفي عام 722 ق. م. استولى سرجون الثاني على السامرة عاصمة إسرائيل، وحاصروا الدولة الجنوبية (يهوذا).

كان "حزقيا" ملك يهوذا أكثر حكمة، فتوصل لاتفاق مجزي للآشوريين بأن تكون يهوذا تابعة لهم وتدفع لهم جزية كبيرة، فانسحب الجيش الآشوري من حولها، إلا أن تبعية دولة يهوذا لآشور، دفعهم للإنحلال الديني والالتزام بديانة خليطة من عبادات الكنعانيين والآشوريين، خصوصاً زمن الملك "منسى" الذي حكم بعد "حزقيا" متقدم الذكر، فقد بنى "منسى" المذابح لآلهة الشمس والنجوم، آلهة بابل ونينوى، وأقام نصباً خشبياً تشريفاً لعشتار ملكة السماء، كما لم ينس معبودات الكنعانيين، فشيد معابد لـ"بعل"، وضحى بأحد أبنائه مقدما إياه لملتهم الأطفال الإله "مولك".

  بعد ما يقارب مائة وخمسين سنة تراجعت قوة الإمبراطورية الآشورية، واكتسح السكيثيون (وهم قبائل بدوية من أصول إيرانية) سوريا وكامل الساحل الفلسطيني باتجاه مصر. عاشت يهوذا في تلك الفترة حالة من الرعب والخوف، لكن وبسبب الميديين تراجعت جيوش السكثيين الى الشمال، تلاه سقوط نينوى على أيدي البابليين. 

بدأ صراع بين مصر وبابل من أجل السيطرة على مناطق الشرق الأوسط، وقد حاول المصريون استمالة يهوذا، وقد نجحوا أخيراً بذلك، إلا أنهم واجهوا هزيمة منكرة على يد البابليين في معركة "كركميش" لتعود يهوذا تحت جناح الإمبراطورية البابلية.

تابعت مصر مكائدها مقدمة الوعود المعسولة لحكام يهوذا، فأقنعوا ملكها "يهويا قيم" بعدم دفع الجزية لبابل، وعندما تهور وتمرد، حوصرت المدينة من جيش نبوخذنصر عام 597 ق. م. وبعد ثلاثة أشهر من الحصار، أعتلى عرش يهوذا الملك الجديد "يهوياكين" الذي سلم المدينة ليجنبها الدمار الكامل، لكن نبوخذنصر نهب الهيكل وأسر الملك مع عشرة آلاف من بني إسرائيل، وقد جرى توطينهم في ضفاف نهر الخابور، وعُين "صدقيا" ملكاً جديداً ليهوذا.

بعد تسعة أعوام تمرد "صدقيا" على بابل، فجرد نبوخذنصر جيشاً لتأديب هذه الدولة المارقة، وبعد حصار طال سنة ونصف، ورغم مجيء الجيش المصري للمساعدة، إلا أن الجيش البابلي تمكن من هزيمتهم ودخول أورشليم سنة 586 ق. م. وهذه المرة لم يترك البابليون شيئاً في المدينة نهباً وتدميراً، وبعد هذا الاحتلال لم يُسمع شيئاً عن تابوت العهد الحافظ لألواح موسى عليه السلام.

تم سبي سكان أورشليم وما يحيط بها بالكامل، ما عدا بعض الفقراء والمساكين، وقد استطاع البعض الهرب الى مصر، وتشتت بنو إسرائيل الى مجموعات ثلاث، الأولى سبيت الى بابل، والثانية بقيت في أورشليم، والثالثة سكنت في تجمعات مبعثرة على ضفتي النيل والدلتا.

مع ذلك، لم يكن السبي البابلي كارثياً مثل السبي الآشوري، فحالما انتقل اليهود الى بابل منحهم نبوخذنصر حرية نسبية، حيث استطاعوا أن يحافظوا على ثقافتهم وعباداتهم من دون إزعاج، وأصبحت حياتهم الزراعية أغنى بما لا يقاس مما كانت عليه في فلسطين، فقد استقروا بين أعظم مدينتين في ذلك الوقت، نيبور وبابل، حتى زالت حالة عدائهم للدولة، فقد تحرروا من مهنة الزراعة ومارسوا التجارة، وتدرجوا في الوظائف الحكومية والجيش ايضاً. 

لكن ذلك لم يدم طويلاً، فبعد 52 عاماً فقط احتل كورش ـ الملك الفارسي ـ بابل عام 538 ق. م. وجعلها عاصمة لإمبراطوريته الجديدة، والتي امتدت من الخليج العربي جنوباً الى البحر الأسود شمالاَ، ومن نهر السند شرقاً الى المدن اليونانية غرباً. وقد تعاطف مع اليهود، وسمح لهم بالعودة الى أورشليم، مع تزويدهم بمبالغ مالية كافية لإعادة البناء والاستيطان، وقد أرسل عليهم "زربابل" ملكاً، و"يهوشع" كاهناً أكبر، ورغم رفض العودة من قبل الكثيرين إلا أن الآلاف من بني إسرائيل وافقوا على العودة. 

تأسيس الدولة الكهنوتية

بقيت عملية البناء والأعمار متعثرة وبطيئة طيلة مائة وخمسين سنة تقريباً، حتى أرسل الملك الفارسي "أرتحشتا الأول او الثاني" أثنين من بني إسرائيل، تمكنا في النهاية من إعادة البعث الروحي وإعادة بناء الدولة على أساس كهنوتي هما "نحميا" ساقي الملك والمفضل لديه، والكاهن "عزرا"، محملين برسائل التوصية وجيش من الموظفين، وقد تم تدشين دولة كهنوتية، حيث تقلد الكهنة السلطة، وأهم شخصية فيهم كانت الكاهن الأكبر، والذي لابد أن يكون من نسل "صادق" الكاهن الذي نصبه داوود عليه السلام ـ حسب روايتهم ـ ويقال أنه من نسل هارون أو موسى عليهما السلام، وقد كان الحكم الديني والمدني بيد هذا الكاهن الأكبر.

تحت أمرته كان هناك المرسومون الذين يقودون الطقوس في الاحتفالات الدينية والمسؤولون عن الخدمات الموسيقية والأملاك التابعة للكاهن الأكبر.

كما كانت هذه السلطة مسؤولة عن تعيين معلمي الشريعة المحترفين والذين سيشكلون طبقة الحاخامات فيما بعد.

إعادة كتابة الأسفار

تسبب قدم اللغة العبرية التي كُتبت بها أسفار الكتاب المقدس وانتشار اللغة الآرامية في كامل سوريا وفلسطين الى حاجة بني إسرائيل لمترجمين ومفسرين للكتاب المقدس، الأمر الذي جعل الحاجة شديدة لمعلمي الدين (الحاخامات)، فانخرط هؤلاء في كل من بابل وأورشليم في تداول نسخ من كتابات من يعتبرونهم أنبياء من أمثال (ملاخي، عوباديا، حزقيال، حجي، زكريا، أشعيا الثاني)، وأعادوا تحرير كتابات الأنبياء الأقدم، حتى ألفوا ثلاثة وثائق (J,E,D)، ثم جرى ضم هذه الوثائق الثلاث في وثيقة جامعة هي وثيقة (P)، اسموها بالناموس الكهنوتي. وقد مهدت هذه الوثيقة لكتابة الفصل الأول من سفر التكوين، المعني بالتوحيد، بالإضافة الى بنود شرعية عديدة جرى إقحامها في الأسفار الخمسة المعروفة بالتوراة او الوثيقة (H). 

كما تم مراجعة أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك من خلال إضافة مواد جديدة. ولمزيد من التفاصيل يمكنكم مراجعة كتاب "القرآن والانجيل والتوراة والعلم".

الغزو اليوناني والثورة المكابية

في طريق غزوه لمصر سيطر الاسكندر المقدوني على فلسطين، حيث طرد الجيوش الفارسية من آسيا الصغرى وسوريا سنة 322 ق. م.، وقد حرص الاسكندر على نشر الثقافة الاغريقية حيثما حل، لكن من دون إجبار، فأمر ببناء مدنٍ جديدة على الطراز اليوناني ومسارح ومكتبات، وشجع الناس على السكن فيها، تحت سلطة حكومات محلية منتخبة من دون أي ضغط، مع تسامح ديني كبير، وقد حمل عهده وعود بانتعاش اقتصادي كبير بين الدول الواقعة تحت سلطته، وهذا ما كانت تحتاجه يهوذا بعد حالة الركود الاقتصادي، فبدأت الطبقة الراقية اليهودية تستعمل المفردات اليونانية وتبني وتؤثث منازلها وفق الطراز الاغريقي.

تبنى اليهود الظواهر الخارجية للحضارة اليونانية دون أن يتخلوا عن معتقداتهم، ووصل هذا التأثير حتى لطبقة الكهنة ورجال الدين، فكانوا يحضرون الى الملاعب ويشاهدون الرياضيين الإغريق وهم يؤدون الألعاب الرياضية، ومع ذلك كان هناك تيار معارض، فقد كان بسطاء الناس حذرين وبطيئين في تبني الأساليب الأجنبية، بينما وقف معلمو الشريعة والحاخامات ضد كل هذا بسبب ولائهم الشديد لطريقة الحياة اليهودية.

مات الاسكندر وانقسمت امبراطوريته، وفيما يخص فلسطين فقد تنازعها على مدى مائة عام السلوقين في سوريا من جهة والبطالمة في مصر من جهة أخرى، حتى أنتهى الأمر بداية القرن الثاني قبل الميلاد بسيطرة السلوقيين، وكان ملك السلوقين في حينها "أنطيوخوس أبفانس" والذي قرر أن يستخدم القوة عندما رأى بطأ تحول اليهود الى الثقافة اليونانية، وأجبر اليهود على عبادة "زيوس"، ومنعهم أن يلزموا السبت تحت طائلة القتل، كما منعهم من الاحتفاظ بنسخ من أسفار الكتاب المقدس، وكذا منعهم من الختان، وقدم الخنازير قرابين.. الى غيرها مما يخالف الديانة اليهودية صراحة.

أدى هذا الترويع الى سخط الشعب اليهودي ونقمته، مما أدى الى التمرد والعصيان، حدث ذلك عندما أمر مفوض حكومي الكاهن المسن "متاثياس" (متى)، أن يشارك في تقديم القربان لزيوس، فقتل هذا الكاهن المفوض، واستطاع مع أولاده الخمسة، وبدعم ومساعدة جموع غفيرة من الاتباع أن يقود ثورة ناجحة ضد السلوقيين، فقد استطاع ابنه "يهوذا مكابيوس" أن يهزم أربعة من جيوش السلوقيين وأجبر الخامس على الانسحاب، واستطاع أن يستعيد أورشليم عام 165 ق. م.، وتم إنقاذ اليهودية الفلسطينية.

قُتل "يهوذا" عام 161 ق. م. وانتقلت القيادة الى أخيه "يوناثان" وبعده الى أخيه الأصغر "سمعان" الذي نُصب كاهناً أكبر، وحل محله أبنه "يوحنا هيركانوس" الذي وسع المملكة وضم اليها السامرة وأدوم والبيرية الإقليم الذي وراء الأردن، وهكذا تكون مملكته قد قاربت مملكة النبي داوود عليه السلام من حيث المساحة. وقد استمرت فترة الاستقلال الى سنة 63 ق. م.، ولولا النزاع الذي أنفجر بين الفرق اليهودية لأمكن أن يستمر طويلاً. 

وتنبغي الاشارة هنا انه في هذه الفترة تمت "الترجمة السبعونية" للعهد القديم، فقد تقدمت الإشارة الى نقل الكتابات المقدسة من اللغة العبرية القديمة الى اللغة الآرامية التي تفشت في شعوب سوريا وفلسطين، والتي أوجدت الحاجة لطبقة من معلمي الشريعة (الحاخامات)، ليقوموا بترجمة النصوص العبرية وتفسيرها، وبعد انتشار الثقافة اليونانية بين الشعب اليهودي تمت ترجمة أسفار العهد القديم الى الاغريقية بواسطة مجموعة من المترجمين المحترفين والمعروفين بعددهم الذي بلغ السبعين، ومن هنا جاء اسم هذه الترجمة بـ"الترجمة السبعونية"، وقد بدأت هذه الترجمة في القرن الثالث ق. م. وانتهت في القرن الثاني ق. م.

لكن تأثر اليهود بالثقافة الاغريقية كان أقل من تأثرهم بالثقافة الزرادشتية، كون الأولى فلسفية وعلمانية، بينما الثانية دينية ومنسجمة أكثر مع معتقداتهم.

خلاف طوائف اليهود

  تقدم سابقاً أن من شروط الكاهن الأكبر أن يكون "صدوقياً" أي من عائلة الكاهن صادق، وقد استمر الحال كذلك حتى صارت هذه العائلة من العوائل الارستقراطية والمتأثرة بالثقافة الاغريقية، وقد آمنوا بضرورة الانفتاح على الثقافات الأجنبية، وكانوا من المؤيدين لعقد اتفاقات مع الرومان الوافدون الجدد على المنطقة.

وفي قبالهم كان "الفريسيون"، وهم جماعات متزمتة دينياً، ينتمي اليها أكثر الحاخامات، ولم يكونوا في أول أمرهم مهتمين بالسياسة، وكان تفكيرهم منصباً على حفظ الدين اليهودي، وقد ناصروا "يهوذا المكابي" في ثورته ـ مارة الذكر ـ إلا أنهم اختلفوا اختلافاً شديداً مع الصدوقين، فيرى هؤلاء بطلان الاتفاقات مع الرومان، وكانوا شديدي الحساسية من الثقافات الأجنبية وبالخصوص اليونانية، وضرورة الاقتصار على الشريعة اليهودية مع مقاربتها بما يتناسب وكل عصر،  فتوسعوا في مصادر الشريعة، وأضافوا للنصوص والأسفار المنقولة التراث الشفوي، وهو ما نُقل عن الحكماء والعلماء اليهود.

مال الملك المكابي "يوحنا هيركانوس" لصالح الصدوقين، فثار عليه الفريسيون، وقابلهم بقمع عنيف ومجازر دموية، فنشبت بينهم حرب أهلية، الأمر الذي فتح الباب لتدخل الرومان، فاستدعي الجنرال "بومبي" من سورية واجتاح البلد وجعله مقاطعة رومانية في عام 63 ميلادية. 

الشتات الكبير

سيطر الاضطراب وإراقة الدماء على كافة فلسطين، وأدرك الرومان أن الحل يكمن في ترك الدين اليهودي بحاله وعدم التعرض له، فلم يفرضوا الأعراف الرومانية في تقديس قيصر، ولا إقامة تمثال له، لكن زيادة تفشي الفوضى وانتشار قطاع الطرق بسبب سوء الإدارة وحدوث عدة حروب أهلية بين مناطق يهودية، حتى وصل الأمر لحصول مناوشات مع القوات الرومانية، كل هذا أدى لنشوب ثورة يهودية ضد الوجود الروماني عام 66 م.

فقد الرومان الصبر ولم يعودوا يطيقون التمرد اليهودي المتكرر، فدخل الجيش الروماني لأورشليم سنة 70 للميلاد، بعد أن قضى على الثورة وقام بمذبحة أودت بحياة عشرات الآلاف من اليهود، واضطروا الى النزوح لمناطق شتى، فجماعة اتجهت لبابل، وأخرى الى الجنوب صوب الصحراء العربية البعيدة عن النفوذ الروماني، وجماعة ثالثة نحو الساحل الشرقي للبحر المتوسط، بينما بقيت جماعة رابعة مرابطة على المرتفعات القريبة بأمل الرجوع يوماً لأورشليم. وقد عرفت في التاريخ بـ"الشتات الكبير لليهود".

وبعد ستين عاماً، أراد الأمبراطور الروماني "هدريانوس" بناء مدينة على أنقاض أورشليم، تحتوي معبد للإله "جوبيتير" فهب اليهود للقتال والثورة، وجرد الرومان جيشاً لإخمادها والقضاء عليها، وكان ذلك سنة 136 ميلادية، وقد هدموا أورشليم تماماً وسويت بالتراب، وبيع من بقي من أهلها عبيداً في سوق النخاسة، ثم بنى "هدريانوس" في مكانها مدينته وأسماها "إيليا كابيتولينا" ومنع اليهود من دخولها تحت طائلة الموت، الى ان آلت المدينة للمسلمين بعد عدة قرون فسمحوا لهم بدخول المدينة، وكانوا يدخلونها للنحيب على بقية الحائط الغربي للهيكل ـ حسب ما يعتقدون ـ والمسمى اليوم "بحائط المبكى". 

اليهودية في العصور الوسطى

تأثرت اليهودية بعمق بالمسيحية وكذا بالإسلام في بداية العصور الوسطى، فبينما نزعت المسيحية الى العدوانية في تعاملها مع اليهود، كان المسلمون متسامحين وودودين جداً معهم.

فلم تكن العلاقة بين اليهود والمسيحيين يوماً جيدة، فمنذ القرن الأول للميلاد، كان الموقف الرسمي لليهود والذي يمثله الحاخامات هو رفض اعتبار عيسى عليه السلام المسيح الموعود، ورغم ذلك لم يتخل المسيحيون عن الأمل بأقناع اليهود يوماً ما بذلك، لكن كانت النتيجة مخيبة لآمالهم غالباً.

وبعد أن نقل بولس المسيحية الى أوربا وتحول الكثير من اليونانيين اليها، واختلاطها بالفلسفة، اتسعت الفجوة مع اليهود، وزادت أكثر بعد تحول الامبراطور الروماني قسطنطين الى المسيحية وصيرورتها الدين الرسمي للدولة عام 312 م، فضاق الأساقفة المسيحيون ضرعاً بعناد اليهود حتى تفجر العنف بينهما.

في المقابل عامل المسلمون اليهود بشكل أفضل، وأظهروا لهم في فلسطين وسوريا وبابل وبغداد تسامحاً كبيراً، ونظر لهم اليهود كمخلصين لهم من المسيحيين والزرادتشتيين، من جهة أخرى وجد اليهود روابط كثيرة تربطهم بالمسلمين من الناحية الثقافية والعرقية والدينية، لذلك ازدهرت المدارس في بابل مرة أخرى، وأصبح "أمير المنفى" اليهودي شخصية قوية في البلاط الإسلامي، وانتعش تجارهم في طول البلاد الإسلامية وعرضها، وقد استمر هذا الازدهار الى حين تسلط الاتراك على حكم المسلمين، فبدأ اضطهاد اليهود مرة أخرى، مما حدا بالعديد من علماء اليهود الى الهجرة مع عوائلهم الى اسبانيا في القرنين العاشر والحادي عشر للميلاد، وهناك انضموا الى إخوانهم اليهود الإسبان على خلق العهد الذهبي للفلسفة الدينية اليهودية في الغرب، تحت حكم المسلمين.

الحملات الصليبية

في هذا الوقت كان اليهود قد انتشروا في فرنسا وانكلترا وأراضي الراين، حيث استقروا في تجمعات صغيرة، وقد اثاروا الشك لدى الاخرين، لا سيما وأنهم كانوا يمارسون طقوسهم الدينية في عزلة بعيداً عن أعين العامة. لذلك اعتبر الكثيرون ان اليهود جماعة سرية من المتآمرين ضد المجتمعات التي يعيشون في كنفها، وجرى اتهامهم بالسعي وراء غايات خبيثة.

أدى إطلاق الحملات الصليبية في نهاية القرن الحادي عشر الى الهياج ضد " اليهود الكفار" نتج عنه مجزرة مفتوحة ضدهم بدأت من المانيا وانتشرت الى بقية أوربا، وتبعها صدور قوانين الأقصاء في جملة من الدول الأوربية، حيث بدأ الألمان بطرد اليهود من بلدة الى أخرى، وتم نفيهم من إنكلترا عام 1290 م، وبعد الابعاد والعودة على مدى قرنين، منعوا من التوطين في فرنسا. وترافق اضطهاد اليهود في اسبانيا مع إخراج المسلمين منها، وطرد كل اليهود الذين رفضوا التحول الى المسيحية بحلول عام 1492 م، من اسبانيا.

لم يجد اليهود ملجأً أمامهم إلا باتجاه الشرق في تركيا وسوريا وفلسطين، وقد اكتسب يهود الشرق اسم "السفارديم"، واتجه يهود الشمالية بأعداد كبيرة الى بولندا والمناطق المجاورة، وجلبوا معهم فنون التجارة وإقراض المال الى القرى المتأخرة ثقافياً، واكتسبوا اسم "الإشكنازيم" ويشكلون اليوم أكثر من 70% من اليهود.

وأما بالنسبة للذين بقوا في إيطاليا وبعض البلدات في النمسا وألمانيا فقد عاشوا في أحياء معزولة عرفت بـ"الغيتوهات"، وعادة ما كان موقعها في أحط جانب من المدينة، وزيادة في محنتهم فقد طبق عليهم قانون أصدرته الكنيسة في القرن الثالث عشر، يحرم على اليهود أن يظهروا في الشوارع من دون وضع شارة اليهودي، تحت طائلة القتل، وكانت الشارة عبارة عن رقعة ملونة من القماش تخاط على الملابس، وأصبحت هذه الرقعة دلالة على الغار فيما بعد.

وأقيمت أسوار عالية على "الغيتوهات اليهودية" وكان يقفل عليهم ليلاً، وإذا وجد يهودي خارج السور فعقابه الموت غالباً، والغرامة المالية.

اليهودية في العصر الحديث

وصل الاضطهاد الأوربي لليهود لأوجه في القرنين السادس عشر والسابع عشر، فقد تعرضوا في بولندا لمذبحة رهيبة على أيدي القوازق، وهم أقوام من الروس ثاروا ضد قادتهم الاقطاعيين، وذبحوا عشرات الآلاف من اليهود، إلا أنهم ـ رغم ذلك ـ بقوا أوفياء لإرثهم وديانتهم.

وعند بزوغ فجر القرن الثامن عشر، وبروز تيارات العقلانية والشك، انتكست التيارات المسيحية وتراجعت في المشهد الاجتماعي كثيراً، الأمر الذي أفضى لكثير من التسامح وإضعاف الحواجز الدينية والطبقية في مراكز الثقافة الجديدة. فظهرت شخصيات يهودية تنادي بضرورة تحرير اليهود من "الغيتوهات" والسماح لهم للاندماج بالمجتمع، ولعل من أبرز هؤلاء الفيلسوف اليهودي والناقد الأدبي "موسى مندلسون"، لكنه لم يعش ليرى ذلك.

وأخيراً منحت الديمقراطية الصاعدة في أمريكا وأوربا اليهود حريتهم المدنية الكاملة، فوضعت الثورة الأمريكية الأساس الدستوري، حين نصت على أن جميع الناس يولدون أحراراً ومتساوين، ونال يهود فرنسا حق المواطنة الكاملة بعد الثورة الفرنسية، وهدم نابليون "الغيتوهات" في كل مكان وصل اليه، وأطلق سراح اليهود. جاءت الانتفاضات في سنة 1848 وما بعدها وكان من نتيجتها منح اليهود في معظم دول أوربا الوسطى والغربية المساواة التامة أمام القانون، وفتحت الجامعات أبوابها لهم، فتدفق الأطباء والسياسيون والكتاب والأساتذة والعلماء اليهود ودخلوا الحياة الأوربية، وقد كانوا الأكثر استفادة من هذه التحولات الديمقراطية.

ولكي يتماهى اليهود مع هذه التغيرات لابد من إجراء إصلاحات كبيرة على الديانة اليهودية، حيث انخرطوا في أنشطة العالم الحديث وخرجوا عن عزلتهم، فخرجت حركة إصلاحية بدأت في الكُنس الألمانية، فقد تمكن مجموعة من الحاخامات من الذين تشربوا روح الحداثة من إقناع تجمعاتهم الدينية بمجاراة هذه التطورات.

حيث بسطوا وحدثوا العبادات في الكُنس، واختصار وترجمة الصلوات للغات الدارجة، وحُذفت الإشارات لقدوم المسيح المنتظر وإعادة تأسيس الدولة اليهودية، كما تم إلغاء طقوس التضحية واستخدام الكورال في ترديد التراتيل الدينية.

ولم يقتصر الأمر على هؤلاء الإصلاحيين، بل وصل الأمر ببعض اليهود المحافظين الى إعلان مبادئهم المؤيدة لحركة الإصلاح عام 1843.

 لكن بعد عام 1848 استطاع المتطرفون اليهود من تحجيم هذه الحركة في أوربا، مما اضطر من بقي من أنصارها للهجرة الى أمريكا، وكانت أهم أسباب رفضهم لها سعيها لتغير سلوكيات مهمة في أسلوب حياة اليهود، وأما الاختلافات مع الحركة الاصلاحية على مستوى العقيدة فلم يهتم المحافظون بها كثيراً، ولعل ذلك يرجع لاهتمام اليهود بالممارسة العملية أكثر من جانب العقيدة والايمان.

الصهيونية وأمل إعادة تأسيس إسرائيل

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ونتيجة لبعض التفسيرات الخاطئة لنظرية دارون التطورية برزت ظاهرة "معاداة السامية"، منها المذابح المدبرة في روسيا، وتعذيب اليهود في المانيا وقضية "درايفوس" الشهيرة في فرنسا، وتراكمت أمور أقنعت اليهود أن أملهم الوحيد في الحصول على أمن دائم هو في إعادة تأسيس الوطن القومي في فلسطين، وكان كتاب "ثيودور هرتزل" الصادر عام 1896 تحت عنوان "الدولة اليهودية" العلامة الأبرز في تبلور مفهوم الوطن القومي عند اليهود. 

وبناءً على الكتاب المتقدم حظيت حركة يهودية جديدة تدعى "الصهيونية" بانتباه العالم وبشكل سريع، وحظيت كذلك بدعم قطاعات واسعة من اليهود المحافظين.

ثم حصلت على دعم اليهود الإصلاحيين بعد الحرب العالمية الثانية، وهم الذين عارضوها في بداية أمرها، معتبريها حركة رجعية، وغير قابلة للتطبيق، إلا أن وعد وزير خارجية بريطانيا "بلفور" غير المعادلة بين ليلة وضحاها، وبدأ آلاف اليهود السفر الى فلسطين تحت حماية الانتداب البريطاني.

وبعد اضطهاد هتلر لليهود توفرت الذريعة الكافية لإقامة وطنهم القومي في فلسطين، فتم الإعلان عنه سنة 1947، محتلين أراضي العرب المسلمين تحت طائلة القتل واستباحة المحرمات، وتحت حماية الانتداب البريطاني.  



التعليقات