السبت 4 ربيع الأول 1446هـ 7 سبتمبر 2024
موقع كلمة الإخباري
ما صحة نظرية أن "الصحابة" جمعوا القرآن بعد النبي؟!
مروان خليفات - باحث وكاتب إسلامي
2024 / 06 / 04
0

هذه النظرية تمثل رأي شريحة كبيرة من المسلمين وهم أهل السنة - أشاعرة وسلفية - ويتضح موقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مستقبل دعوته في الأسطر التالية.

موقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من القرآن القرآن دستور الله ومعجزة نبيه الخالدة، فهل جمعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتاب خاص ليحفظه من الضياع؟

إن الناظر في كتب الحديث يرى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أوكل أمر القرآن إلى حفظ الصحابة وجمعهم له، فقد كان البعض يحفظ ما نزل منه، وكان آخرون يكتبون بعض سوره في الصحف، ولا تذكر المصادر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اتخذ موقفا حاسما بشأن القرآن فقام بجمعه حسب ترتيب نزوله في كتاب خاص.

أجل، هناك قسم من العلماء يذهب إلى أن القرآن جمع على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومنهم: الزرقاني، الزركشي، الباقلاني وغيرهم.

إلا أن هذا القول يصطدم بروايات جمع القرآن في عهد أبي بكر، فإذا كان القرآن مجموعا عند بعض الصحابة فلماذا يأمر أبو بكر زيد بن ثابت بجمعه؟

أخرج البخاري عن زيد بن ثابت، قال: " أرسل إلى أبو بكر، مقتل (١) أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر (رضي الله عنه): إن عمر أتاني فقال: إن القتل استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى: أن تأمر بجمع القرآن.

قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

قال عمر: هذا والله خير.

فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر...

قال زيد: قال أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل على مما أمرني به من جمع القرآن.

قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

قال: هو والله خير.

فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب، واللخاف (٢)، وصدور الرجال..، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره! لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حتى خاتمة براءة.. فكانت الصحف عند أبي بكر، حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر (رضي الله عنه) " (3).

إن المتأمل في قول أبي بكر لعمر: " كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) "، وقول زيد لهما: " كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله " يتبين له بوضوح أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يجمع القرآن وإنما جمعه زيد بن ثابت بأمر أبي بكر الذي أقنعه عمر بذلك، وقد جمعه زيد من الصدور والسطور.

قال ابن جزي: " وكان القرآن على عهد رسول الله متفرقا في الصحف وفي صدور الرجال " (4).

موقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من السنة

إن الروايات متضاربة حول موقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من سنته، وأشهر نص يطالعنا رواية النهي عن الكتابة:

أخرج مسلم: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن، فمن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه " (5).

هذا نص عام في النهي ووردت روايات في الإذن بالكتابة للبعض كابن عمر (6) وأبي شاة (7).

وعلماء القوم مختلفون حول نسخ النهي في الحديث السابق، فمنهم من يقول بالنسخ، ومنهم من لا يلتزم بذلك (8).

وبناءا على ما سبق فإن موقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من سنته أنه تركها مفرقة في الصدور دون جمع إن لم نقل أنه نهى عن تدوينها، وهو موقف بطبيعة الحال سلبي.

ومما سبق يظهر لنا تأكيد أهل السنة على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك القرآن مفرقا في الصدور والسطور ولم يجمعه في كتاب واحد، ونهى عن تدوين سنته أو تركها في صدور الرجال دون جمع أيضا.

أما عن الحوادث المستقبلية المستجدة التي لا حكم لها في الكتاب والسنة، فلا نجد أي نص - عندهم - يشير إلى كيفية التعامل معها.

مناقشة:


إن الناظر للوهلة الأولى في هذه النظرية يضع حولها مجموعة أسئلة وإشكالات، فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبعوث للعالمين، والإسلام هو خاتم الأديان، وظهوره على باقي الأديان أمر حتمي لا مفر منه، قال تعالى: (ليظهره على الدين كله) (9)، والقرآن باق إلى يوم القيامة فهو أبدي ولكل الناس، فكيف يترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معجزته الخالدة في صدور صحابته وفي العسب واللخاف؟

إن الصحابة راحلون عما قريب، وستأتي الأجيال تترى وتترى، فأين ستجد معجزة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لتؤمن به ولتعمل بقرآنه؟ هل يبحثون عنه في صدور الصحابة؟ فالصحابة أموات، ولا يمكن القول أنه كان في ذهن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقوم كل جيل بنقل القرآن عن الجيل الذي سبقه مشافهة، إذ لا دليل على هذا، وهو يؤدي إلى ضياع القرآن واندراس آياته، وقد وجدنا عبد الله بن مسعود ينكر المعوذتين من القرآن (10).

ولو افترضنا بقاء أمر القرآن كما هو عليه من عدم الجمع، لجاء التابعون وأنكروا بعض السور، تبعا لابن مسعود، وهذا الإنكار قد يحدث في كل جيل، وقد يثور خلاف بين العلماء حول سور القرآن، بعد فقدان الذوق الأدبي لدى الكثير منهم وعدم الإدراك الحقيقي لإعجاز القرآن البياني.

وهكذا سيكون مصير السنة النبوية التي تبين مجمل القرآن وتخصص عامه وتقيد مطلقه، بل إن أمر السنة في هذه النظرية أخطر من القرآن، فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تصورهم لم يكتف بعدم كتابة السنة بل نهى - على رأي البعض منهم - عن تدوينها، وعلى هذا فإن تخطيط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المستقبلي هو أن تروى السنة مشافهة ولا تكتب، ولا يمكن تصور هذا، فإذا تصورناه في جيل التابعين وتابعي التابعين والجيل الذي بعدهم... فكيف نتصوره الآن؟

عمن نأخذ السنة؟ كم سيبلغ طول السند؟ هل سيتصل السند بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خلال هذه القرون الأربعة عشر أم لا؟ كيف سيتم الوثوق بهذا العدد الهائل من الرواة؟ وأي كتاب سيتكفل ببيان أحوالهم لنعرف صدقهم من كذبهم؟...

وقد تأتي بعدنا أجيال وأجيال وتتضاعف المسافة بينهم وبين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهنا ألا تزداد المشكلة تعقيدا على تعقيد؟! ومن المعلوم أن أنهار الوضع في الحديث النبوي قد فاضت في القرنين الأولين، ولقد وصف الدارقطني هذه الحالة الرهيبة بقوله: " إن الحديث الصحيح في الحديث الكذب كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود "!!

وقال حماد بن زيد: " وضعت الزنادقة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعة عشر ألف حديث ".

وحين أخذ ابن أبي العوجاء الزنديق ليضرب عنقه قال: " لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث، أحرم فيها الحلال وأحلل الحرام " (11).

ومع ملاحظة هذا الوضع في القرون الأولى فكيف سيكون الوضع في القرون اللاحقة؟

إن عدم كتابة السنة يؤذن بضياعها وتحريفها مع مرور الزمن، يقول ابن الصلاح: " ثم إنه زال ذلك الخلاف - أي هل تكتب السنة أم لا - وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته، ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الأخيرة " (12).

أجل هذه هي النتيجة، وهي توحي بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد أخطأ - والعياذ بالله - بتركه كتابة السنة، وبعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) أدرك العلماء والأمراء خطورة هذا النهي فخالفوه وأباحوا كتابتها.

كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله في المدينة أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم: " أنظر ما كان من حديث رسول الله أو سنته فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء " (13).

عجبا، فعمر بن الخطاب يخاف من ضياع القرآن، فيأمر أبا بكر بجمعه، ويخاف عمر بن عبد العزيز من ضياع السنة فيأمر بكتابتها، فهل كان العمران أشد حرصا على الإسلام من نبي الرحمة (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

لقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرأ مستقبل الإسلام لصحابته وقد كذب عليه في حياته وتنبأ بأنه ستكثر عليه الكذابة، فقال: " من تعمد على كذبا فليتبوأ  

مقعده من النار " (14).

فكيف لا يضع الضمانات - بتدوين سنته - لقطع الطريق على هؤلاء الكذبة؟

يقول أبو الحسن الندوي السلفي: " ثم إن الحديث زاخر بالحياة... ولم يزل باعثا على محاربة الفساد والبدع وحسبة المجتمع، ولم يزل يظهر بتأثيره في كل عصر وبلد من رفع راية الاصلاح والتجديد، وحارب البدع والخرافات والعادات الجاهلية، ودعا إلى الدين الخالص والإسلام الصحيح، لذلك كله كان الحديث من حاجات هذه الأمة الأساسية، وكان لا بد من تقييده وتسجيله ونشره " (15).

إذا كان الحديث من حاجات هذه الأمة الأساسية، وكان لا بد من تقييده وتسجيله ونشره، فلماذا لم يقم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بتقييده وتسجيله؟!

ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: " ألا وإني أشهد لسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمش في الأخرى حتى يصلحها " (16).

فهل يمكن أن يصدق العقل السوي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يهتم بانقطاع الشسع ويترك سنته دون تقييد وتسجيل؟!

كان حمورابي شخصا عاديا، ووضع مجموعة قوانين وقبل وفاته كانت مدونة حتى صارت مرجعا بعده لا خلاف في صحتها، وحمورابي ليس نبيا وليس مبعوثا لقومه ولا لجميع البشر، لكنه اتخذ التحوطات اللازمة لحفظ تلك القوانين، فهل كان حمورابي أكمل وأبعد نظرا من سيد الخلق (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

وفي العصر الحاضر لا نجد دولة إلا ولها دستور مدون في كتاب، فهل هذه الدول أكثر حضارة وتنظيرا من دولة الإسلام؟

هذه بعض الإشكالات التي ترد على هذه النظرية.

وقد يرد علينا أصحابها بقولهم: لقد ترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الكتاب والسنة دون جمع لأنه كان يعلم أنهما سيجمعان مستقبلا فتركهما للأمة.

وهذا ادعاء لا دليل عليه، فقد كان الناس يقرأون في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (اليوم أكملت لكم دينكم) (17)، فالدين كامل وجاهز كي ينتشر في أرجاء المعمورة، ومن مصاديق هذا الكمال كون الكتاب والسنة مجموعين حتى ينتشرا في البلاد المفتوحة، فالدين كامل قبل أمر عمر لأبي بكر بجمع القرآن، وقبل ولادة الزهري ومالك والبخاري.

وإضافة لهذا، فإن الصحابة - وكل البشر - مكلفون وليسوا مؤلفين، وليس لهم شأن بجمع الكتاب والسنة لأنهما من عند الله وهو الذي أنزلهما وهو الذي تكفل بحفظ كتابه (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (18).

ومع هذا سنواصل السير مع أصحاب هذه النظرية ونفترض أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك الكتاب والسنة دون جمع، لعلمه أن سيجمعان مستقبلا.


فهل هذا الافتراض كاف لإقامة الحجة على الناس؟ وكيف سيتم التعامل مع الكتاب والسنة؟ كيف سيعرف الناسخ والمنسوخ، المحكم والمتشابه، الخاص والعام،...؟!

ألا يحتاج القرآن إلى بيان صحيح وترجمة لمعانيه؟ فهل مثل هذا الرأي يتناسب مع كمال الدين وإتمام النعمة؟

إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند هؤلاء لم يضع برنامجا متكاملا لكيفية التعامل مع الكتاب والسنة، وهذا ما لا يمكن تصديقه، فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) ذاك الإنسان العظيم ذو النظر الثاقب الذي يرفض أن يرى بعين نبوته المستقبل القاتم للأمة وتشتتها وتناحرها، وهو ذلك الحريص الرحيم الذي وصفه الله بأروع وصف: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) (19).

فكيف نصدق أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين كيفية دخول الحمام وآدابه الأخرى ولم يشر إلى مفتاح التعامل مع الكتاب والسنة؟

إن عدم وجود برنامج مستقبلي يحفظ الكتاب والسنة نصا ودلالة مدعاة لاختلاف الأمة وتفرقها.

روي عن عبد الوارث بن سعيد أنه قال: " قدمت مكة فألفيت بها أبا حنيفة، فقلت له: ما تقول في رجل باع بيعا وشرط شرطا؟ فقال: البيع باطل والشرط باطل.

فأتيت ابن أبي ليلى فسألته عن ذلك، فقال: البيع جائز والشرط باطل.


فأتيت ابن شبرمة فسألته عن ذلك، فقال: البيع جائز والشرط جائز.

فقلت في نفسي: سبحان الله! ثلاثة من فقهاء العراق لا يتفقون على مسألة!

فعدت إلى أبي حنيفة فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما قالا لك، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن بيع وشرط، فالبيع باطل والشرط باطل.

فعدت إلى ابن أبي ليلى فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما قالا لك، حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن اشتري بريرة فأعتقها، البيع جائز والشرط باطل.

قال: فعدت إلى ابن شبرمة فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما قالا لك، حدثني مسعد بن كداح بن محارب بن دثار عن جابر قال: بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعيرا وشرط حملانه إلى المدينة البيع جائز والشرط جائز! " (20).

وبعد غض النظر عن أمر الكتاب والسنة وجمعهما يعرض لنا إشكال آخر وهو: هل أشار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الحوادث المستجدة وكيفية استنباط أحكامها؟

ولربما سيجاب على ذلك بأن هناك القياس والاستحسان وغيرهما من مصادر التشريع، فالعلماء يرجعون إلى هذه المصادر لاستنباط أحكام المسائل المستحدثة

ويبقى إشكالنا في محله، فمن أين اكتسبت هذه المصادر الصفة الشرعية وصار يعتمد عليها كالكتاب والسنة؟ فهي لم ترد على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم ينزلها الله على نبيه ولم يقس (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يستحسن، بل كان كما قال الله (إن هو إلا وحي يوحى) (21)، ولم يكن (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى لرأيه واجتهاده دورا في التشريع، قال تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) (22).

فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يحكم بما يريه الله ولم يقل بما رأيته وبما قسته وبما استحسنته.

والملاحظ أن مصادر التشريع هذه محل خلاف بين العلماء، فتجد الحنفية قد أفرطوا في الاعتماد على القياس، بعكس الحنابلة الذين لم يعتمدوه إلا قليلا، أما أهل الظاهر فقد أنكروه مطلقا، وأنكر الشافعية والمالكية المصالح المرسلة، وأنكر الشافعي الاستحسان فقد ورد عنه: " من استحسن فقد شرع " (23).

ولنفترض وجود القياس والاستحسان... من ضمن مصادر التشريع، ولكن ألا تحتاج إلى بيان كامل لمعالمها وكيفية تطبيقها عمليا؟ وقد تقرر أصوليا: أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ووقت الحاجة متحقق بموت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يبين معالم هذه المصادر ولم يطبق بعض الموارد عمليا.

إن نسبة هذه الرؤية السلبية لمستقبل الإسلام إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت ثغرة نفذ منها بعض الكتاب وطعنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإسلام.

قال إبراهيم فوزي: " كان المجتمع الاسلامي على توالي العصور خاليا من السلطة التشريعية اللازمة التي تشرع للناس على الدوام حاجاتهم الزمنية المستجدة " (24).

وقال محمود أبو رية: " ولو أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد عني بكتابة الحديث، كما عني بكتابة القرآن، وعني الصحابة من بعده بكتابته، لجاءت أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كلها متواترة في لفظها ومعناها، وليس شئ منها اسمه صحيح، ولا شئ اسمه حسن، ولا شئ اسمه ضعيف، ولا غير ذلك من الأسماء التي اخترعوها، مما لم يكن معروفا زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحابته، وبذلك كان يرتفع الخلاف في حقيقته، وينحط عن كاهل العلماء أعباء البحث عن صحته، ووضع المؤلفات الكثيرة التي صنفت في علوم الحديث والبحث عن أحوال الرواة من حيث العدالة والضبط والجرح والتعديل وغير ذلك، وكان فقهاء الدين يسيرون على نهج واحد، لا اختلاف بينهم في أصله ولا تباين... إذ تكون أدلتهم كلها متواترة كالقرآن الكريم، فلا يأخذون بما سموه الظن الغالب، الذي فتح أبواب الخلاف وفرق صفوف الأمة وجعلها مذاهب وفرقا ومما لا يزال أمره بينهم إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم " (25).


الحجة الأخيرة

يذهب البعض إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل أصحابه مرجعية للأجيال من بعده، بحيث يقومون بنقل القرآن والسنة لمن بعدهم، وتحيط هذا القول إشكالات كثيرة نشير لواحد منها (26):

أخرج البخاري عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا فرطكم على الحوض، ليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي رب أصحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك " (27).

وأخرج مسلم عن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا فرطكم على الحوض ولأنازعن أقواما ثم لأغلبن عليهم، فأقول: يا رب! أصحابي، أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " (28).

وفي رواية أخرى للبخاري يقال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "... إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى " (29).

هذه الأحاديث صريحة في دخول جماعات من الصحابة في النار، وقد فسرها المفسرون بالمنافقين والمرتدين، وهذا التفسير مخالف لمعطيات الأحاديث.

فعلة دخول الصحابة في النار هي الأحداث والارتداد بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمنافق لا يرتد لأنه لم يسلم أصلا وإنما تظاهر بالاسلام، وكذلك لا يذكر لنا التاريخ أي إحداث للمنافقين بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا أي تحرك لهم (30)! والقول بأنهم مرتدون، يرد عليه بأن المرتدين لم يحدثوا في دين الله، وقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " رجال منكم " " أعرفهم ويعرفونني " (31) دليل على أنهم ممن كانوا حول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل مكة والمدينة، وقوله " أقواما " دليل على كثرتهم، وهناك رواية تنص على دخول الصحابة النار ولا يبقى منهم إلا القليل:

عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " بينما أنا قائم فإذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، قال: هلم، قلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم " (32).

قال ابن الأثير: " الهمل: ضوال الإبل، واحدها هامل، أي أن الناجي منهم قليل في قلة النعم الضالة " (33).

فبعد هذا كيف يمكن قبولهم مرجعية يحفظون لنا الكتاب والسنة وينقلونهما إلى الناس؟ والغريب أنهم نسبوا أمر اختيارهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أنه يقول: " فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم ".

ومما سبق يظهر لنا ضعف هذه النظرية التي تزعم بترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن مفرقا في الصحف والصدور وعدم جمعه للسنة والنهي عن كتابتها وإرجاع الناس إلى صحابته. وحاشا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذا الموقف السلبي.

••••••••••••••••••••••••••••

الهوامش:

(١) أي: بعد مقتلهم.

(٢) العسب: جمع عسيب وهو جريدة من النخل مستقيمة.

واللخاف: حجارة بيض عريضة رقاق، واحدتها لخفة، راجع لسان العرب ٩ / ١٩٧ و ١٢ / ٢٦١.

(3) صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن ٦ / ٣١٤.

إن هذه الرواية وروايات أخرى تدعي أن القرآن قد كتب بشهادة شاهدين،

وهذه والله أكبر ضربة للقرآن، ومعنى ذلك أن القرآن أخبار آحاد.

(4) التسهيل ١٠ / ٦.

(5) صحيح مسلم كتاب الزهد، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم.

(6) راجع مستدرك الحاكم ١ / ١٠٥ - ١٠٦، مسند أحمد ٢ / ١٦٢.

(7) صحيح البخاري ١ / ٤٠ - ٤١.

(8) كالمحدث رشيد رضا حيث قال: لو فرضنا أن بين أحاديث النهي عن

الكتابة والإذن بها تعارضا يصح أن يكون به أحدهما ناسخا للآخر، لكان لنا

أن نستدل على كون النهي هو المتأخر بأمرين... راجع المنار

١٠ / ٧٦٦.

(9) الفتح: ٢٨.

(10) فتح الباري ٨ / ٦٠٤ وصحح ابن حجر ذلك.

(11) لسان الميزان ٤ / ٤٣١.

(12) مقدمة ابن الصلاح ٣٠٢.

(13) تدريب الراوي ١ / ٤٠.

(14) صحيح البخاري كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

(15) مع رجال الفكر والدعوة ٧٨.

(16) صحيح مسلم كتاب اللباس، باب استحباب لبس النعل في اليمنى أولا.

(17) المائدة: ٣.

(18) الحجر: ٩.

(19) التوبة: ١٢٨

(20) التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين للبطليوسي ١١٥ - ١١٧.

(21) النجم: ٤.

(22) النساء: ١٠٥.

(23) جميع كتب الأصول: مبحث الاستحسان.

(24) تدوين السنة ١٥.

(25) أضواء على السنة المحمدية ٢١٨.

(26) ومن أراد الفصيل فليرجع إلى كتابنا " وركبت السفينة " فصل: إشكالات على مرجعية الصحابة، ١٨٩ - ٢٣٦.

(27) " البخاري " كتاب الفتن ٩ / ٨٣، وكتاب الرقاق، باب في الحوض.

(28) " مسلم " كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا وصفاته.

(29) " البخاري " كتاب الرقاق، باب في الحوض.

(30) وهذا أمر ينبغي التأمل فيه مليا، فلماذا توقفت مؤامرات المنافقين؟ هل

كان أبو بكر وعمر أذكى من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأوقفاهم عند حدهم وكشفاهم أم

أن المنافقين حققوا أغراضهم بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسكتوا؟!!

(31) البخاري كتاب الرقاق، باب في الحوض.

(32) المصدر السابق.

(33) النهاية في غريب الحديث ٥ / ٢٧٤، وكذا في لسان العرب ١٥ / ١٣٥، وقريب منه في فتح الباري ١١ / ٣٩٢.



التعليقات