الاثنين 2 مُحرَّم 1446هـ 8 يوليو 2024
موقع كلمة الإخباري
اللغز المحيّر..
بمرض أو بفقر.. لماذا يبتلينا الله في الدنيا؟!
الشيخ مقداد الربيعي
2024 / 05 / 16
0

في خضم سعادة العائلة بالمولودة الجديدة، تفاجؤوا بطروء ما قد يهدد حياتها من المرض، وهنا اختلفت ردود أفعالهم بما يتناسب ودرجة إيمان كلٍ منهم، وفهمه لبعض مفردات العقيدة، ما يهمني هنا موقف الجدة، التي اعتبرت مرض الطفلة عقاب من الله تعالى وانتقام، وبما أنها ترى تنزهها وباقي أفراد عائلتها من التقصير فسيكون هذا العقاب الإلهي ظلماً لهم غير مبرر!! انعكس هذا الفهم على سلوك هذه الجاهلة، فقررت ترك الصلاة؛ انتقاماً لحقها المسلوب!

تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.. لاحقاً وجدت أن هذه المرأة ليست الوحيدة من تفهم الابتلاء بهذا النحو، فالصورة النمطية عند هؤلاء لصعوبات الحياة أنها عقوبات من الله تعالى، الأمر الذي يضطرنا للوقوف عند مفردة الابتلاء في العقيدة الإسلامية، والإجابة عن سؤال: لماذا يبتلينا الله؟

صريحة هي النصوص الدينية التي تذكر بأنه تعالى كتب على نفسه الرحمة، ومن رحمته إصلاح عباده، وهو الأمر الذي يتوقف غالباً على إمرارهم بظروف صعبة، ليصقلهم بها وينقي قلوبهم من درن الذنوب،  ومما يبين ذلك بصورة جليه ما رواه الكليني بإسناد معتبر عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول الله  صلى الله عليه وآله: قال الله عز وجل: إنّ من عبادي المؤمنين عباداً لا يصلح لهم أمر دينهم إلاّ بالغنى والسعة و الصحة في البدن، فأبلوهم بالغنى والسعة وصحة البدن، فيصلح عليهم أمر دينهم، وإنّ من عبادي المؤمنين لعباداً لا يصلح لهم أمر دينهم إلاّ بالفاقة والمسكنة والسقم في أبدانهم، فأبلوهم بالفاقة والمسكنة والسقم، فيصلح عليهم أمر دينهم، وأنا أعلم بما يصلح عليه أمر دين عبادي المؤمنين ... الحديث). الكافي، ج 2، ص 60. 

أسباب البلاء

وأما الجواب التفصيلي عن سؤالنا المتقدم، لماذا يبتلينا ربنا، وهو الغني عن ذلك؟ فهو: 

إن القرآن الكريم يذكر عدة أسباب للابتلاء منها التطهير من الذنوب، والاختبار، ورفع الدرجات، وقد جمعها أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: «إنّ البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان، وللأنبياء درجة، وللأولياء كرامة». بحار الأنوار: جزء 64، صفحة 236.

السبب الأول: التطهير من الذنوب: وقد أشار القرآن الكريم له بقوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير)، الشورى: 30. 

ومن تطبيقات ما تقدم من سببية الذنوب للبلايا والمصائب، قوله تعالى: (فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً * وَتُحِبُّونَ المالَ حُبّاً جَمّاً)، الفجر: 15-20.

فتشير مجموع الآيات إلى أنّ سبب التضييق في الرزق منع حق اليتيم، وعدم إكرام الفقراء والمساكين؛ فيكون ما يصيب العبد من فقر وذل وإهانة؛ نتيجة لما ارتكبه من ذنب، وجزاء لفعله الإثم.

ومن أسباب قلة الرزق ايضاً ذنب الزنا أجارنا الله وإياكم، فقد روى الكليني بإسناده عن علي بن سالم قال: قال أبو إبراهيم عليه السلام أي الإمام الكاظم: «اتق الزنا؛ فإنّه يمحق الرزق ويبطل الدين». الكافي، ج5، ص541.

وعنهم عليهم السلام " مكتوب في التوراة: أنا الله قاتل القاتلين، ومفقر الزانين، أيّها النّاس، لا تزنوا فتزني نساؤكم، كما تدين تدان». المصدر نفسه.

ومن تطبيقات ذلك الظلم، فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: «من ظلم مظلمة، أُخِذَ بها في نفسه، أو في ماله، أو في ولده». الكافي، ج2، ص332.

فيكون ما يصيب العبد من بلايا ومصائب تطهيراً له من آثار هذه الذنوب حتى لا يبقى من درنها شيء يحاسب عليه يوم القيامة، كما عن أمير المؤمنين عليه السلام: «ما عاقب الله عبداً مؤمناً في هذه الدنيا إلاّ كان الله أحلم وأجود وأمجد من أن يعود في عقابه يوم القيامة». ثم قال: «وقد يبتلى الله عز وجل المؤمن بالبلية في بدنه أو ماله أو ولده أو أهله ثمّ تلا هذه الآية: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، وحثا بيده ثلاث مرات. تفسير القمي، ج2، ص276.

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: في قول الله عز وجل: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) ليس من التواء عرق ولا نكبة حجر، ولا عثرة قدم، ولا خدش عود، إلاّ بذنب ولما يعفو الله أكثر، فمن عجل الله عقوبة ذنبه في الدنيا فإنّ الله أجل وأكرم وأعظم من أن يعود في عقوبته في الآخرة». الكافي، ج2، ص445.



السبب الثاني: الاختبار والامتحان: والمراد منه إظهار مكنون نفس المبتلى، فقد يظهر العبد إيماناً ويبطن كفراً، لكن في المواقف الصعبة والشديدة ليس له إلاّ الظهور على حقيقته؛ أهي طيّبة أم خبيثة، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: «في تقلب الأحوال، علم جواهر الرجال، والأيام توضح لك السرائر الكامنة»، بحار الأنوار: ج71 ص163. وقال تعالى: (مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الخبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ). آل عمران: 179.

ومنه قول إبليس - لعنه الله  - عند تكليفه وابتلائه بالسجود لآدم: (قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)، الحجر: 33، فلولا هذا الاختبار والابتلاء ما ظهرت حقيقته وكبره وحسده، وقد كان يتمثل بالعبادة، وهذا لا يعني إنه تعالى: كان جاهلاً بحقيقته – والعياذ بالله – (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ)، آل عمران: 29، غاية ما في الأمر أنّه تعالى ألزم نفسه بمقتضـى عدله أن لا يعاقب أحداً إلاّ بعد صدور المعصية منه، ولا يكفي علمه تعالى بنيته في ارتكابها.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: «ألا إن الله تعالى قد كشف الخلق كشفة، لا أنه جهل ما أخفوه من مصون أسرارهم ومكنون ضمائرهم، ولكن ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، فيكون الثواب جزاء والعقاب بواء». شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد: 9 / 84.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام في قوله تعالى: )إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ(: «ومعنى ذلك أنه سبحانه يختبر عباده بالأموال والأولاد؛ ليتبين الساخط لرزقه، والراضي بقسمه، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب». شرح النهج لآبن ابي الحديد: ج 18، ص 248.

السبب الثالث: رفع الدرجات: وابتلاءات الأنبياء والأئمة عليهم السلام من هذا الباب، فلنجاحهم وصبرهم في كل ما ابتلاهم تعالى به نالوا الدرجات العلى، يظهر ذلك من قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). البقرة: 124. 

فارتفاع رتبة إبراهيم عليه السلام وجعله إماماً إنّما هو لنجاحه بجميع الابتلاءات التي مرّ بها، والكلام هو الكلام في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)، السجدة: 24.


يدلّ عليه = أيضاً - ما رواه الكليني بإسناده عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب قال: سألت أبا عبدالله (عن قول الله عز وجل: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)، أرأيت ما أصاب علياً وأهل بيته من بعده؛ أهو بما كسبت أيديهم، وهم أهل بيت طهارة معصومون؟!.

فقال عليه السلام: «إنّ رسول الله صلى الله عليه واله كان يتوب إلى الله ويستغفر في كلّ يوم وليلة مائة مرة من غير ذنب؛ إنّ الله يخص أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب». الكافي، ج2، ص450.

قال المجلسي في المرآة: صحيح. مرآة العقول 11: 374.

وبما تقدم يرتفع ما يمكن توهمه من أن سبب ما يصيب الأنبياء والأولياء من مصائب هو الذنب والعياذ بالله، كما توهم ذلك يزيد بن معاوية لعنه الله، فقد روى صاحب تفسير نور الثقلين أنّه لما دخل على بن الحسين عليه السلام على يزيد ونظر إليه قال له: يا علي: )وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ(!!.

فقال عليّ بن الحسين عليه السلام: «كلاّ، ما هذه فينا نزلت إنّما نزل فينا: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ  لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) فنحن لا نأسى على ما فاتنا من أمر الدنيا ولا نفرح بما أوتينا». تفسير نور الثقلين: ج4 ص580.

فأشار الإمام إلى أنّ ما يصيبهم من نوازل لم يكن بسبب ذنب اقترفوه كما هو مؤدى الآية الأولى، وإنّما هو لطفٌ بهم ونعمة؛ ليرفع درجاتهم.

فاتّضح ممّا تقدم أنّ الغاية القصوى من البلاء والمصيبة والمحنة، هي الرحمة بالعباد، وهي غاية حسنة، لكن قد يسأل البعض إنّ الله تبارك وتعالى قد وصف بعض الابتلاءات بالمصيبة والسيئة كما في قوله تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً. مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً)، النساء: 79.

فالآية صريحة بوصف بعض الابتلاءات بالمصيبة والسيئة؟!.

قلنا: يمكن القول اختصاراً: إن وصف القرآن لهذه الابتلاءات بالسيئة والمصيبة ليس لأنها في نفسها سيئة ومضـرة، وإنما وصفها كذلك بالقياس لما كان يتمتع به العبد قبل الابتلاء من النعمة، فالفقر بالقياس لما كان يتمتع به قبل الابتلاء من نعم هو سيئة أي هو نقص وعدم، والمرض بالقياس لما كان يتمتع به من صحة هو سيئ ومصيبة.

 وأما هذا الفقر والمرض من دون قياس لما فات فهو حسن في ذاته لما يترتب عليه من فوائد مر ذكرها، كإزالة درن الذنوب وقذارة المعاصي عن العبد وتطهيره منها، حتى لا يصيبه العقاب الأخروي، ولإرجاع العبد لساحة قدس الله تبارك وتعالى وتنبيهه من الغفلة، أو رفع درجته.

فمن كان يملك عدة دور وسيارات مثلاً إذا أصابه البلاء وعاش في ظنك وفقر، تعد حياته الحالية مصيبة بالنسبة لحياته السابقة، فتعبير القرآن عن البلاء بالمصيبة والسيئة بهذا اللحاظ، وأما إذا غضضنا النظر عن ذلك، فهذا البلاء تترتب عليه جملة من الأمور في صالح العبد، فهو إما تكفير لذنب فيتخلص العبد من تبعاته في الآخرة، او رفع درجة ونحو ذلك.

لذا كل ما قدره الله تعالى لعبده فهو خير له، فعن أبي عبد الله عليه السلام: «أنّ فيما أوحى الله عز وجل إلى موسى بن عمران عليه السلام: يا موسى بن عمران ما خلقت خلقاً أحبّ إليّ من عبدي المؤمن؛ فإنّي إنّما أبتليه؛ لما هو خير له، وأعافيه لما هو خير له، وأزوي عنه ما هو شر له؛ لما هو خير له، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي؛ فليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، وليرض بقضائي، أكتبه في الصديقين عندي إذا عمل برضائي وأطاع أمري». الكافي، ج2، ص62.

قال المجلسي في المرآة: صحيح. مرآة العقول، ج8، ص6.

وقد مرّ ما رواه الكليني عن زيد الشحام، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إنّ عظيم الأجر لمن عظيم البلاء، وما أحبّ الله قوماً إلاّ ابتلاهم»، الكافي، ج2، ص109.

قال المجلسي في المرآة: إسناده صحيح. مرآة العقول، ج8، ص198.

ومنه يظهر إن البلاء نعمة من الله على عبده المؤمن، يشهد له أيضاً ما رواه الكليني بإسناده عن عن مثنى الحناط، عن أبي أسامة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «قال الله عز وجل لو لا أن يجد عبدي المؤمن في قلبه لعصبت رأس الكافر بعصابة حديد لا يصدع رأسه أبداً». الكافي، ج2، ص252.

قال المجلسي في المرآة: موثّق كالصحيح. مرآة العقول، ج98، ص326.

قلت: وهو نصٌ أنّ البلاء يدور مع المؤمنين ممّن يحبهم الله تعالى، لا الكافرين ومن يبغضهم الله تعالى من الناصبة وغيرهم؛ والغرض هو تطهيرهم وتهيئة أوعيتهم؛ لنيل رحمة الله وفضله.

يشهد له أيضاً ما رواه الكليني رضوان الله عليه بإسناده عن عبد الله بن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله مثل المؤمن كمثل خامة الزرع، تكفئها الرياح كذا وكذا، وكذلك المؤمن تكفئه الأوجاع والأمراض، ومثل المنافق، كمثل الإرزبة المستقيمة التي لا يصيبها شيء حتى يأتيه الموت فيقصفه قصفاً». الكافي، ج2، ص257.

قال المجلسـي  في المرآة: حسن كالصحيح.  مرآة العقول 9: 347. والإرزبة: عصبة من حديد.

يشهد لذلك أيضاً ما رواه الكليني بإسناده عن أبي أسامة، عن حمران، عن أبي جعفر عليه السلام: «إنَّ الله عزَّ وجلّ ليتعاهد المؤمن بالبلاء، كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية من الغيبة، ويحميه الدنيا كما يحمي الطبيب المريض». الكافي، ج2، 253.

وبذلك ينكشف سرّ كثرة الابتلاءات التي تعرض للمؤمنين، فإنهم يتنقّلون من بلاء إلى بلاء، كما لو سرى البلاء في حياتهم مسرى الدماء في العروق؛ إذ الغاية هي تطهيرهم؛ لينالوا عالي الدرجات وسامي المقامات.

وبذا يُعلم سرّ إحاطة البلاء بالأنبياء عليهم السلام، ثمّ الصالحين، ثمّ من سواهم. فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إنَّ أشدَّ الناس بلاءً الأنبياء ثمَّ الذين يلونهم، ثمّ الأمثل فالأمثل». الكافي، ج2، ص 252.

خلاصة 

الملاحظ من مجموع ما مرّ، أنّ لله تبارك وتعالى غرض بحسب كلّ سبب من الأسباب المتقدمة، فالغاية من البلاء والمصائب الناتجة من ارتكاب العبد للذنب هي رفع ما تلوث به من الخبث والرين الذي أصاب قلبه؛ فلحبّ الله تعالى لعباده، ورحمته به، يصيبهم ببعض البلاء؛ ليطهّرهم من درن الذنوب، فهي نوع عقوبة تأديبيّة لهم في الدنيا؛ لينجيهم بها من عقوبات الآخرة، كما أشارت الأحاديث الثابتة السابقة؛ فإنّه تعالى أحلم وأجود وأمجد من أن يعود في عقابه يوم القيامة.

هذا فيما يخصّ سبب التطهير لنزول البلاء، ولا ريب في كونه رحمة.

وأمّا السبب الآخر، وهو: رفع الدرجات عند الله سبحانه وتعالى، فالغاية منه واضحة من العنوان؛ ولا إشكال في حسن هكذا بلاء، تكون عاقبته رفع الدرجات؛ ولهذا وعد الله تعالى عبيده بأفضل الجزاء.

وقد سردنا آنفاً بعض الأخبار المعتبرة في ذلك، منها: قول الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ في الجنة منزلةً لا يبلغها عبدٌ إلّا بالابتلاء في جسده».

ولا ريب في أنّ كلّ هذا رحمة من الله وفضل. 

فالبلاء من أهم أسباب القرب الإلهي، وذلك أنَّ البلاء أدعى إلى الالتصاق بالله تعالى وإلى التذكّر، وأقوى دفعاً إلى الشكر والصبر، وطلب المعونة واستعراض الفقر والضعف والحاجة إليه تعالى، والغفلة والكبر ونحو هذه الأمور من الرذائل موانع تمنع نزول الرحمة، فيصيبه ببعض البلاء لتحصيل حالة الفقر والانكسار الذي هو عبارة عن تواضع الإنسان ومعرفته لمقام ربه، فيكون ذلك سبباً لنزل النعم.

من هنا نخلص إلى أنّ البلاء والابتلاء على خلاف ما تعارف بيننا هو رحمة منه تعالى ونعمة وخير وفضل ومنّة، يجب تقديم الشكر عليها، لذا نجد بعض الأولياء كان لا يُرى فَرِحاً إلاّ عند ابتلائه.

فما من بلاء ومصيبة ومحنة إلاّ وغاية الله تعالى القصوى منها هي اللطف بعباده.



التعليقات