الخميس 8 رَجب 1446هـ 9 يناير 2025
موقع كلمة الإخباري
العبادة: الغاية السامية من خلق الإنسان
الشيخ مقداد الربيعي
2025 / 01 / 07
0

السؤال عن فلسفة وجود الإنسان في هذه الدنيا من الأسئلة التي تطرأ على ذهن الإنسان في مراحل مختلفة من حياته. قد يبدو هذا السؤال محيراً أو مستحيلاً في نظر الفلسفات المادية والعدمية، ولكن بقليل من التأمل والدراسة نجد أن الإجابة عليه تكمن في فطرة الإنسان ووجدانه، وفي فلسفة الوجود التي تبناها الإسلام والديانات السماوية الأخرى.

فعندما يتأمل الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً في خلق الكون وسيرورته، تتكشف أمامه حقيقة مثيرة للدهشة، وهي أن كل شيء في هذا الوجود مترابط ومنسجم بطريقة تكاملية مذهلة. الأجرام السماوية، الظواهر الطبيعية، والكائنات الحية جميعها تعمل بتناغم وفق قوانين كونية دقيقة، مما يعكس تصميماً معقداً يهدف إلى تحقيق نظام شامل. ومن البديهي أن هذا التناسق الكوني ليس مجرد تصادف أو تشكّل عشوائي، بل هو إشارة إلى حقيقة أساسية تتعلق بوجود الإنسان وغاية خلقه.

الإنسان هو الكائن الوحيد في هذا الكون الذي يستطيع أن يدرك وجوده ويتساءل عن غايته. إنه الكائن الذي يعقل ويفكر في الأسئلة الكبرى مثل: "من أين جئت؟"، "لماذا أنا هنا؟"، و"إلى أين أذهب؟". هذا الوعي العميق يمنح الإنسان مكانة فريدة في هذا الكون.

الكون ليس مجرد فضاء فارغ أو مكان عشوائي تم إنشاؤه بلا هدف. بل إن الله خلق هذا الكون بعناية فائقة ليكون مسرحاً لحياة الإنسان. كل شيء أوجده الله في هذا الكون يخدم الإنسان ويوفر له الأدوات والظروف التي يحتاجها لتحقيق كماله. فالله خلق للإنسان كل ما يحتاجه ليحقق كماله في مختلف جوانب حياته: في علاقاته مع نفسه ومع الآخرين، في قدراته العقلية، وفي روحه التي تسمو به بعيدًا عن عالم المادة الضيق.

الإنسان ومحورية الكون:

الإنسان ليس مجرد جزء من هذا الكون، بل هو مركزه ومحور وجوده. الكون لا يوجد لأجل ذاته، بل هو مسخر لخدمة الإنسان. وما هذه الحياة إلا فرصة عظيمة للإنسان ليتحمل مسؤوليته ككائن سخّر له الله هذا الوجود. ومع ذلك، كيف يمكن للإنسان أن يغفل عن الغاية من وجوده بعد كل هذه الدلائل التي تشير إلى مكانته العظيمة ودوره المحوري؟

الفلسفة الكونية التي يطرحها القرآن الكريم تتوافق مع ما يصل إليه العقل السليم من استنتاجات، وهي أن الكون قد سُخِّر لخدمة الإنسان. يقول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان: 20). هذا التسخير الكوني لم يكن مجرد صدفة، بل هو ضرورة لاستمرار حياة الإنسان وتمكينه من الاستفادة من موارده. لولا هذا التسخير، لعجز الإنسان عن تحقيق أي نوع من التقدم أو التطور، ولكانت حياته مستحيلة في عالم يفتقر إلى هذا الانسجام.

من هنا، يتضح أن الإنسان هو الهدف المحوري للخلق، وهو الذي يستطيع أن يرى غاية الوجود من خلال فكره ووعيه. الكون يكتسب معناه من خلال الإنسان الذي يعيد تفسيره ويبحث عن الحكمة التي تكمن فيه.

العبادة والتكامل الإنساني:

الإنسان، بوصفه كائناً مدركاً لوجوده، بدأ منذ أن خُلق في سعي مستمر نحو التكامل والارتقاء. عندما يتأمل الإنسان في نفسه وحركته في الكون، يجد أنه دائم السعي للتحسن والتطور، سواء على مستوى المعرفة، الأخلاق، أو الحضارة. هذا السعي لا يتوقف لأن الإنسان يطمح إلى الكمال، ويجد نفسه في حركة مستمرة نحو الأفضل.

الجمود والاستسلام والانطواء مفاهيم تتعارض مع فلسفة الخلق والوجود. وقوف الإنسان ساكناً أمام إمكاناته يمثل انحرافاً عن طبيعته الطامحة لكل كمال. في هذا الإطار، جاءت رسالة الإسلام لتؤكد ما يدركه الإنسان في أعماق فطرته وما يهتدي إليه عقله من أهمية السعي نحو التكامل في جميع جوانب الحياة.

الدين في جوهره ليس إلا تذكيراً دائماً بهذه الحقيقة الجوهرية ودعوة مفتوحة لتحقيق الكمال. ومن هذا المنطلق، ينبغي فهم العبادة والطاعة على أنها وسائل لتحقيق هذا الهدف الأسمى، وليست قيوداً تُكبّل الإنسان أو تُعارض فطرته.

الإسلام يحفز الإنسان على التقدم والنمو، فهو لا يطلب من الإنسان أن يجمد قدراته أو يستسلم لواقعه، بل يشجعه على استثمار إمكاناته لتحقيق الغايات الكبرى. العبادة في الإسلام ليست مجرد أداء طقوسي، بل هي دعوة لتكامل الإنسان وتحقيق التوازن بين روحه وعقله وواقعه. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال: 24).

هذه الآية تشكل جوهر الرسالة الإسلامية، دعوة لحياة حقيقية مليئة بالتقدم والنمو، وتحقيق التكامل بين الجوانب المادية والروحية، وفتح أبواب الخير والعطاء. الاستجابة لله ورسوله تعني الانخراط في مسيرة مستمرة نحو الكمال الإنساني، حيث تُشحذ الطموحات وتتجدد الآمال.

العبادة كغاية من خلق الإنسان:

قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56) يمثل مفتاحاً لفهم فلسفة وجود الإنسان. فالعبادة ليست منفصلة عن هذه الرحلة التكاملية، بل هي جوهرها ومحورها. إنها الإطار الذي يوجه تطلعات الإنسان وينظم جهوده، بحيث لا تصبح سعياً عشوائياً أو هدفاً بلا معنى.

العبادة في هذا السياق تعني استخدام الإنسان لكامل طاقاته المادية والروحية لتحقيق هدفه الأسمى: التقرّب إلى الله والسير نحو الكمال. العبادة كما يطرحها القرآن الكريم تتناغم مع طبيعة الإنسان وأهدافه الفطرية. هي ليست قيداً على حرية الإنسان، بل بوابة إلى التحرر الحقيقي من كل ما يعيق تقدمه الروحي والمادي.

فالعبادة في جوهرها لا تحمل أي معنى سلبي. فالله عز وجل غني عن عبادة خلقه، كما قال تعالى: (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) (محمد: 38). الله لا ينتفع من عبادة الإنسان، وإنما يعود نفع العبادة على العابد نفسه، فهي وسيلته للتواصل مع خالقه ومصدر قوته وكماله.

من جهة الإنسان، لم تُفرض العبادة عليه قسراً، بل وُضعت كمسؤولية تعبر عن جوهره الإنساني وطموحه نحو الكمال. الحرية هنا ليست مجرد استقلال عن القيود، بل هي التزام ومسؤولية تجاه إنسانيته ودوره في الوجود. الكون كله مسخر له، وكُلِّف بحمل الأمانة، كما قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ) (الأحزاب: 72).

هذا التكليف العظيم يعكس مكانة الإنسان كمحور للخلق، مما يعني أن لتكامله غاية خاصة. العبادة في هذا الإطار ليست سلباً أو انتقاصاً، بل وسيلة لرفع قيمة الإنسان وتحقيق غايته الكبرى. كما قال الإمام الصادق (عليه السلام): "وما خلقهم ليجلب منهم منفعةً ولا ليدفع بهم مضرة، بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد".

وهكذا، العبادة تعبير عن الارتباط بالله، وهي الطريق لتحقيق الكمال الإنساني والانخراط في رحلة دائمة نحو السمو الروحي والأخلاقي. هي محور الحياة التي تعيد تشكيل علاقتنا بالخالق وبالكون من حولنا. إنها دعوة ترتقي بالإنسان من مجرد وجود مادي إلى كائن يحمل رسالة سامية، تجسد التكامل بين حاجات الروح ومتطلبات الجسد.



التعليقات