الأحد 21 جمادى الآخرة 1446هـ 22 ديسمبر 2024
موقع كلمة الإخباري
هل يتوقف إثبات أنبياء القرآن على الكشف الأثري؟
الشيخ مقداد الربيعي
2024 / 05 / 07
0

مع تطور دراسات علم (النقد الأعلى) وهو علم يهتم بدراسة مصادر الوثائق، لمعرفة مؤلفها وزمن تأليفها ومكانه، ضعفت الثقة بمصداقية الكتاب المقدس، خصوصاً بعد التزام أغلب الجهات الأكاديمية الغربية بالفلسفة الوضعية المنطقية، التي تؤمن بالأدلة الحسية دون غيرها، فبعد أن كانت مدرسة الأركيلوجي الأمريكي وليام فوكسويل أولبرايت وتلاميذه مهيمنة على الجو العلمي للبحث التاريخي طيلة القرن العشرين، والتي كانت تؤمن بحجية نصوص الكتب المقدسة وصلاحيتها لأن تكون أدلة تاريخية على الأحداث، ظهر توجه جديد بين الباحثين، لا يؤمن بحجية النصوص الدينية في الكتاب المقدس، ولا يعتبرها أدلة تاريخية، عرفوا بمدرسة (الحد الأدنى). 

وذلك في العقد السابع من القرن الماضي، بعد صدور كتابين مثيرين لباحثين أمريكيين، هما (تاريخية روايات الآباء: البحث عن إبراهيم التاريخي)، لتوماس تومسون، و (إبراهيم في التاريخ والتراث) لجون فان سيترز، وقد نقضا فيهما الطرح الأولبرايتي الكلاسيكي، وأقاما الأدلة والقرائن على أثر بيئة القرن السابع أو السادس قبل الميلاد في كتابة النص التوراتي، وقد أدى ذلك لظهور المدرسة الجديدة، مدرسة الحد الأدنى.

فكما هو واضح من عنوان الكتابين اللذين مثلا خط شروع التيار الجديد، كانت مسألة ثبوت ووجود بعض الأنبياء اللذين ذكرتهم الكتب المقدسة هي المسألة الأولى التي بحثتها مدرسة الحد الأدنى، فكانت الانطلاقة الأولى، لإثارة الشك في تاريخية الأنبياء في هذه الفترة، أثر انحسار أطروحة مدرسة وليام فوكسويل أولبرايت؛ ولموافقة التيار الجديد للفلسفة الحاكمة للجو الأكاديمي الغربي وهي الوضعية المنطقية التي لا تؤمن بغير الدليل المادي، تمدد الطرح الجديد بسرعة في عالم الدراسات الدينية؛ لتصبح قصص الأسفار التوراتية مجرد عمل دعائي يهودي لا قيمة تاريخية له.  

وقد اقتبس جماعة من الكُتاب العرب هذا المنهج، رغم عدم تخصصهم ولم يُعرف عنهم أن مست أيديهم تراب الحفريات، وإنما هو التأثر بالغرب المتقدم، وتقليده الأعمى، من دون ملاحظة السبب الرئيس الذي أدى بالغربيين لطرح منهج أولبرايت والالتزام بمنهج توماس تومسن ومدرسة الحد الأدنى، وهو ثبوت تحريف الكتاب المقدس وبالتالي سقوط قيمته في النقل التاريخي، بخلاف القرآن الكريم، الذي بقي مصوناً من التحريف بما لا يقبل الشك.  

فكان الرواد مجرد نقلة عن كتب المستشرقين، أو غلاة الأركيلوجيين، وعلى رأسهم في النصف الأول من القرن العشرين طه حسين صاحب العبارة الشهيرة التي أثارت واحدة من أبرز الزوابع الفكرية في حينها: «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل. وللقرآن أن يحدثنا عنهما ايضاً. ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن أبراهيم الى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها. ونحن مضطرون الى أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية من جهة أخرى. وأقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية ويثبتون فيه المستعمرات. (في الشعر الجاهلي، ص29).  

فهل بين لنا الدكتور طه حسين سبب عدم كفاية التوراة والقرآن الكريم لإثبات وجود الأنبياء؟! فإن تفهمنا ذلك في التوراة بسبب امتداد يد التحريف والتلاعب لها، فماذا يقول في القرآن الكريم؟! قال تعالى: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا)، الأسراء: 72.

وقد أثر العزوف المعرفي الإسلامي عن المساهمة في جدل الأركيولوجيا الكتابية والقرآنية الى فتح المجال للكتاب الملحدين واللادينيين العرب لبث مغالطاتهم التاريخية، والترويج لطروحات مدرسة الحد الأدنى، ككتابات الكاتب السوري فراس السواح الذي لا تكاد تتجاوز جهوده في البحث التوراتي عن تعريب أطروحة زعيم متطرفي الحد الأدنى توماس تومسون.

والذي يظهر تأثره وتبعيته له من خلال قوله التالي: «لقد أراد أصحاب النظرية الأركيولوجية الحديثة إنقاذ ما تبقى من السمعة التاريخية للرواية التوراتية، عن طريق إثبات جوهر الرواية وإسقاط جميع تفاصيلها، ولكن النتائج التي خرجوا بها قد دقت، والى الأبد المسمار الأخير في نعش هذه الرواية بجوهرها وجميع تفاصيلها، وقدمت لنا المادة اللازمة لكتابة تاريخ فلسطين في عصري الحديد الأول والثاني، ودراسة أصول إسرائيل بشكل علمي مستقل عن التوراة. وهذا ما قام به على أكمل وجه الباحث توماس ل. تومبسون في كتابه الصادر عام 1992، تحت عنوان (The Early History of the Israelite People). آرام دمشق، ص176.

وكذلك الكاتب العراقي خزعل الماجدي الذي لم يتطرق لأركيولوجيا التوراة إلا في كتابه (تاريخ القدس القديم)، والذي نقل فيه أطروحة توماس تومسون أيضاً وهي كتابه (التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي)، والذي سنختار تقريره لشبهة عدم ثبوت وجود الأنبياء الذين ذكرتهم الكتب المقدسة.

فقد ذكر في لقاء عبر وسائل التواصل: «إنَّ الحضاراتِ القديمةَ المُفترضُ وجودُ الأنبياءِ في عصرِها كالسومريّةِ والأكّاديّةِ وغيرِها ذكرَت تفاصيلَ دقيقةً عن حياةِ البشرِ والحروبِ والمأكولاتِ وغيرِ ذلك ولكنّها لم تتعرَّض لذكرِ الأنبياءِ والرّسل وهذا يدلُّ على أنّهم وهميّونَ ألّفَ قصصَهم بنو إسرائيل بناءً على تراثٍ مسروقٍ مِن مناطقَ أخرى.. ». 

ونحن قبل تسليم علم الأركيولوجيا صولجان الحكم والبت في قضايا تاريخية ذكرتها الكتب المقدسة، لابد أولاً من تقييمها من جهتين:

الأولى: حجم وكمية المحفوظات من الآثار القديمة، وقدرتها على رسم صورة كافية عن الماضي. والثانية: موضوعية هذا العلم ومقدار تأثره بالفلسفات والآيدلوجيات. 

أما الجهة الأولى: فالبحث الأركيولوجى يتعامل مع بقايا العمران القديم بعد أن تهدم وضاع منه الكثير مما قد يقود أحياناً الى استنتاجات خاطئة، فالمعروف بين علماء الآثار، إن نسبة المكتشف من آثار السابقين لا تتعدى نسبة 5%، وإن ما تم اكتشافه فعلياً لم تتم دراسته كله ونشر الأبحاث عنه، فمثلاً من بين 25 ألف لوحة نقوش طينية مسمارية من مجموعة ماري/تل حريري لم ينشر حتى الان سوى بضعة آلاف، ويقول أحد مشرفي المتحف البريطاني أنه من بين 150 ألف لوحة طينية مسمارية تم فقط أرشفة الثلث.

وقد تناول ذلك الأركيولوجي ندف نأمان في مقالته: (هل يستحق علم الأركيولوجيا حقاً مقام محكمة عليا؟)؛ وذكر أكثر من مثال على تعارض دلالات بقايا العمران مع الشهادات التايخية القطعية. 

بل إن الفجوات في الأدلة الأركيولوجية واضحة جداً، فمثلاً إن أورشليم القديمة التي قُتلت بحثاً، ولم يظن أحد إمكان الكشف عن جديد فيها، شهدت كشف مُجمع إداري أثري كامل سنة 2020.

وفي جنوب شرق آسيا إمبراطورية كاملة لا يعرف عنها أحد شيئاً لولا ذكر وجودها في السجلات الصينية القديمة، وفقط في 2023 بدأ العثور على بعض آثارها.

فى ظل كل ما سبق يتضح بجلاء أي لغة وثوقية قائمة على الادعاء بقطعية وشمولية استنتاجات الأبحاث الأركيولوجية، فالمنهج الذي يعجز عن إثبات وجود إمبراطوريات كاملة فهو في إثبات وجود بعض الشخصيات (الأنبياء) أعجز.

فالتفاصيل الحياتية لأي أمة تشمل مساحة بحث كبيرة مكانياً وزمانياً شاملة كل المساحة الجغرافية لتواجد هذه الأمة، وكل الفترة الزمانية والتي تصل الى مئات أو الاف السنين. ومن الطبيعي في هذه الحالة ألا يتم اكتشاف سوى الأواني وعظام الحيوانات وبقايا الطعام الذي كان يمثل "زاد الاخرة" في المقابر بجوار المومياوات.

 وهذا يختلف جذرياً عن نطاق البحث عن آثار النبوة والتي تشمل ملاحقة آثار بضعة أشخاص قل أتباعهم ولم يكن لهم سلطان سياسي أو نفوذ أو مناصب الا فيما ندر، بل لفظتهم أقوامهم وكذبتهم في معظم الأحوال، قال تعالى: (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ)، هود 17، وقال أيضاً: (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ)، الأعراف 101.

 واتهمتهم أممهم بالسحر والجنون، قال تعالى: (كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)، الذاريات 52.

بل إن ملوكاً مشهورين من قبيل سرجون الثاني، وسنحاريب، تندر النصوص التي تثبت وجودهم، حتى ساد الاعتقاد بأن الملك الأشوري توديا شخصية خرافية إلا أن تم اكتشاف نص يشهد لوجوده.

وإذا كان الملوك الذين هم أكثر الشخصيات سطوة وتأثيراً ونفوذاً يمكن أن تضيع أو تندر آثارهم فما بالنا بقلة مستضعفة معارضة كالأنبياء وأتباعهم؟!

فحوليات الملوك والنقوش التي يعتمدها الماجدي وأمثاله، ما هي الا مدونات لتمجيد الحكام وطمس عيوبهم، يكتبها من يختارهم الملك ذاته، ويتم استخدامها للتباهي والتفاخر، فمن الطبيعي يتم فيها إهمال كل من يعارضهم ويقف في وجوههم من الأنبياء.

وأما من الجهة الثانية: 

فالمعلوم ان أخطر ما يوجه العمل الأركيولوجي هو الافتراضات المسبقة، وما يعتقده الباحث من أيدلوجية، وقد نبه على ذلك الأركيولوجي جيمس ك. هوفرنير، حيث قال: «كل باحث له افتراضات تؤثر على قراءاته عندما يقترب من النص او البيانات الأركيولوجية. »Israel in Egypt, p14. 

وعليه فالكشف الأثري يكون مفتوحاً على تفسيرات عدة، بناء على قبليات الأركيولوجي، يشهد لذلك قول ندف نأمان: «نتائج الحفريات الأركيولوجية، مثل المصادر المكتوبة، مفتوحة لتفسيرات مختلفة، وأحياناً متناقضة، فالأدبيات الأركيولوجية تعج بالخلافات على عدد لا حصر له من القضايا... البيانات الأركيولوجية لا تتحدث عن نفسها بنفسها، وتفسيرها محفوف بالصعوبات.» Bob Becking , lester Grabbe, eds, p.167.

تأثر المدرسة الحديثة للأركيولوجيا بالفلسفات العدمية

منذ ستينات القرن الماضي سيطرت ثقافة ما بعد الحداثة على الفضاء الثقافي للجامعات الغربية، حيث الشك مبدأ ومنتهى البحث، والتأويل والتخمين هو الأمر الوحيد الممكن، وقد تناول لذلك المؤرخ كيث وندشاتل في كتابه (قتل التاريخ: كيف قتل النقد الأدبي ومنظرو الاجتماع ماضينا؟) بحديثه عن جناية مناهج ما بعد الحداثة على كتابة تاريخ الأمم، ونقل سؤال الأركيولوجي ـ اللاأدري ـ ويليام ديفر في كتابه (مالذي عرفوه مؤلفو الكتاب المقدس، ومتى عرفوه؟ ص 128): «لماذا دائماً يتم التعامل مع النصوص الكتابية من خلال (تأويلات الشك) النموذجية لما بعد الحداثة، بينما يتم قبول النصوص غير الكتابية على ظاهرها؟ يبدو أن الكتاب المقدس يُدان تلقائياً حتى تثبت براءته». 

من هنا ذهب البعض الى رفض اعتبار الأركيولوجيا علماً من الأساس، إذ هي (مجرد تجمع لتقنيات، وليست علماً كما هو مفترض في العلوم الطبيعية، أي إنها لا ترتقي الى البحث في الإنسان القديم ونشاطاته؛ لأنها لا تملك غير القياس الفيزيائي والحسابي). Archaeological Science, p.4.

وبعد هذا كله نعرف قيمة علم الأركيولوجيا، وقيمة الدعوة القائلة بضرورة الاكتفاء بالكشوفات الأثرية.



التعليقات