السبت 2 ربيع الآخر 1446هـ 5 أكتوبر 2024
موقع كلمة الإخباري
من هو الفقيه الكامل؟
من كتاب شرح أصول الكافي للمولى محمد صالح المازندراني المتوفى 1081 هـ
2024 / 03 / 05
0

عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ألا اخبركم بالفقيه حق الفقيه: من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله، ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره، ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكر».

الشرح:

(عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ألا اخبركم بالفقيه حق الفقيه) أي كامل الفقه.

(من لم يقنط الناس من رحمة الله) من خبر مبتدأ محذوف، والقنوط اليأس والتقنيط للتعدية يقال: قنطه من رحمة الله إذا آيسه منها وذلك بأن يقول مثلا: من فعل كذا وكذا لن يغفر الله له أبدا، أو يقول لرجل: إنك فعلت ذنبا لا يغفر الله لك بعده وحرمت عليك الجنة. والمراد بالناس المؤمنون لما روي عن أبي جعفر (عليه السلام): «إياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله»، ولا ريب في أن التقنيط حرام لا يرتكبه الفقيه الكامل; لأنه من امارات الجهل بالله وبسعة رحمته، ومن الأدلاء بأن له عنده تعالى منزلة رفيعة ولذلك المذنب خسة وإهانة وبعد منزلة، وفيه أيضا إيذاء المؤمن وكسر قلبه وبعثه على المعاصي، كما هو شأن بعض القانطين، وكل ذلك مذموم لا يصدر من الفقيه.

(ولم يؤمنهم من عذاب الله) بأن يقول مثلا: إن الله غفار يغفر الذنوب جميعا، ولا يعذب أحدا من المؤمنين أصلا وإن جاء بذنوب الثقلين، وحب الأئمة (عليهم السلام) يمنع من الدخول في النار ويدركه شفاعتهم قطعا وأمثال ذلك جهل بأنه تعالى قهار يغضب للذنوب وخلق النار للمذنبين ولمن خالفه، وبأنه قد لا يدركه الشفاعة على تقدير خروجه من الدنيا مع الإيمان إلا بعد مدة طويلة.

لا يقال: قال الله تعالى: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) وفيه وعد للمذنبين بالمغفرة وأمن لهم من العذاب وما أنزله الله تعالى يجوز أن يقرأ على كل أحد في كل آن وكل زمان.

لأنا نقول: السالكون إليه سبحانه يخافون من هذه الآية الكريمة أشد خوف لاحتمال أن يكون إضافة العباد إليه تعالى للاختصاص الموجب لعدم التعميم ويؤيده عدم شمولها الكفار اتفاقا ولو سلم جاز أن تكون المغفرة مشروطة بالتوبة والإنابة.

ويؤيده النهي عن القنوط الدال على شدة استيلاء الخوف عليهم، والأمر بالإنابة بعد هذه الآية حيث قال: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون) ولو سلم فليقرأ عليه أيضا قوله تعالى: (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم)، وقوله تعالى: (فمنيعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على المؤاخذة بالذنوب. وبالجملة: الفقيه العارف بالله حق المعرفة من لا يقتصر في مقام نصح الخلائق بأحاديث الخوف وآياته لئلا يقنطوا من رحمة الله تعالى ولا بأحاديث الرجاء وآياته لئلا يجترئوا على المعاصي بل يجمع بين ما دل عليهما كما فعله الله تعالى في كتابه الكريم، ولو غلب منه التخويف والوعيد لا على حد يوجب القنوط كان أحسن كما يظهر ذلك لمن تدبر في القرآن; لأن الفساد في النفوس البشرية أكثر وميلها إلى الراحة وترك الأعمال الصالحة أعظم وأشهر فيحصل لها بغلبة التخويف حالة متوسطة بين الخوف والرجاء.

(ولم يرخص لهم في معاصي الله) الرخصة في الأمر خلاف التشديد فيه، وقد رخص له في كذا ترخيصا فترخص هو يعني الفقيه الكامل لا يتساهل ولا يتسامح معهم إذا مالوا إلى معصية الله تعالى بل يشدد عليهم ويمنعهم منها ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويجذبهم عن متابعة الشيطان في المعاصي والمقابح قبل صدورها منهم وقبل صيرورتها ملكات في جوهر النفس إلى تحصيل السعادة الاخروية.

(ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره) من الكتب السماوية وغيرها يعني الفقيه الكامل بالأحكام وغيرها من كتاب الله (١)، وإن رجع في شيء من العلوم إلى غيره، فإن وجد موافقا للكتاب أخذه وإن وجده مخالفا له تركه، ولا يترك الكتاب رغبة عنه إلى غيره لعلمه بأنه نور الناظرين وسراج العارفين ومنهاج السالكين ومعراج السائرين ومظاهر علم الأولين والآخرين، فيه علم ما كان وما يكون وعلم الأخلاق وعلم الأحكام من الحلال والحرام وعلم أهوال القيامة والحشر والنشر وعلم الفصاحة والبلاغة بحيث تتروى بزلال معانيه قلوب الفقهاء وتتحير في عجائب مثانيه عقول العلماء وتعجز عن درك غرائب مبانيه أفهام الخطباء وتقر بمشاهدة شواهد مغانيه عيون الفضلاء وتنشرح بتلاوة زواهر آياته صدور القراء والصلحاء، فمن أعرض عنه كان ظالما جاهلا سفيها فضلا عن أن يكون عاقلا كاملا فقيها، فقد أخبر (عليه السلام) بأن الفقيه الكامل من كان بنور عقله هاديا للخلق ناصحا لهم جامعا بين الوعد والوعيد والأمر والنهي وتابعا للقرآن في العلم والعمل والقراءة، ثم أشار إلى أن هذه الصفات لا خير فيها ولا عبرة بها ما لم تقترن بفضيلة قلبية أعني التفهم والتدبر والتفكر بقوله:

(ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم) أي طلب فهم حقائقه وأغراضه، فإن من نظر إلى ظاهر هذا العالم مثلا واستدل به على وجود الصانع حصل له علم ظاهري يشاركه فيه سائر العوام، ولا خير فيه كثيرا، وإنما الخير فيما إذا تأمل فيه وفي كل واحد من أجزائه الساكنة والمتحركة والعلوية والسفلية والمركبة والبسيطة والنامية وغير النامية، وفي كيفية حركاتها ونشوئها واختلاف مقادير تلك الحركات ومسافاتها واقتراناتها واتصالاتها إلى غير ذلك من الأحوالات التي دلت على كمال قدرة صانعها (٢)، وفي فوائد تلك الامور وأغراضها، وقد اشتمل على جملة من ذلك حديث هشام، فإن المتأمل فيه يستغرق في بحر التوحيد، وكذلك لا خير كثيرا في العلم بوجوب الصلاة بدون تفهم حقيقتها وحقيقة أجزائها من التكبير والقراءة والركوع والسجود وسائر الأفعال والأذكار والأغراض المترتبة عليها ويرشد إلى جملة منها ما ذكرناه في حديث جنود العقل، وقس عليهما سائر العلوم فإن كل معلوم له ظاهر وباطن وحقيقة وغرض، والخير الكثير إنما هو في العلم المتعلق به من جميع الوجوه; إذ هو مرقاة الحق ونوره في قلوب العارفين لا العلم بالظواهر، والفرق بين علماء الظاهر والباطن: أن علماء الباطن واصلون إلى الحق وعلماء الظاهر طالبون لطريقه، ويحتمل أن يراد بالعلم الذي ليس فيه تفهم العلم التقليدي والظني الذي ليس عليه برهان والنقلي الذي بمجرد الرواية دون الدراية، وقيل: هذه الفقرة متعلقة بالفقرة الاولى للتنبيه على أن من يقنط الناس بالوعيد ليس في علمه تفهم إذ العالم المتفهم يعلم أن الغرض من الوعيد جذب عباد الله إلى الطاعة والانقياد له، والتقنيط يبعده عنها.

(ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر) للقرآن فينا منازل ولنا باعتبار كل واحد منها خير وثواب إلا أنه في بعضها أكمل وأوفر منه في بعض آخر، فمن تلك المنازل البصر فإنه منزل لنزول صوره وخطوطه ومحل لشهود جماله ونقوشه كما ورد «أن النظر في المصحف عبادة» (٣).

ومنها اليد فإنها منزل لحمله وكتابته وعدم ضرب بعضه ببعض كما ورد «ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر» (٤).

ومنها: اللسان فإنه منزل لتلاوته وقراءته بالترتيل والتعليم كما قال سبحانه: (ورتل القرآن ترتيلا)، وقال الصادق (عليه السلام): «اقرؤوا كما علمتم» (٥).

ومنها: القلب، وهو أعظم منازله، فإن المطلب الأعلى والمقصد الأقصى في سيره من عند الملك الجبار إلى هذا العالم وهو نزوله في هذا المنزل وقيامه فيه بالأمر والنهي وتعليم النفس الإنسانية وتربيتها فوجب عليها استقباله والقيام بتعظيمه والإقبال إلى ما جاء به والتدبر في أحكامه وحلاله وحرامه وسننه ومواعظه ونصائحه والتفكر فيما نطق به من أحوال المبدأ والمعاد وأحوال ما كان وما يكون وأحوال الامم الماضية والقرون السالفة وكيفية أخذهم وإهلاكهم بسبب العصيان والاعتبار بحالهم حتى تستعد بذلك للرجوع من حضيض النقصان إلى أوج الكمال، ومن منازل الهجران إلى مقام الوصال، فلو أعرضت عنه ولم تستقبله عند نزوله في منزل اللسان ولم تنزله في منزل القلب والجنان ولم تستمع إلى ما جاء به ولم تتدبر فيه فات عنها الحظ الأوفر والخير الأكثر وحصل لها الخير القليل بتلاوة اللسان ومشاهدة البصر، بل هي مستحقة للتعذيب والتأديب; لأنها بمنزلة من عصى الملك العظيم ومنع رسوله الكريم من الوصول إلى غاية مقاصده أو بمنزلة منافق يتكلم بالحق ظاهرا ويغفل عنه باطنا، وقيل: هذه الفقرة متعلقة بالفقرة الثانية فإن من تدبر في قراءة القرآن وما فيه من إهلاك قوم بالمعاصي ومسخ آخرين علم أنه لا ينبغي لأحد أن يؤمن عباد الله من عذابه وأن يرخص لهم في معاصيه.

(ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكر) لأن الغرض من العبادة هو التقرب للمعبود وطلب رضاه والوصول إليه والقطع عما عداه، وذلك لا يتحقق بمجرد اشتغال الجوارح بما يليق به مما هو آلة لذلك التقرب بدون يقظة القلب وتفكره فإن قلب غير المتفكر مظلم لا يهتدي إلى الحق دليلا ولا إلى الوصول إليه سبيلا بخلاف ما إذا تفكر فإنه يطلع حينئذ شوارق المعارف من مشارقه وينكشف الحجاب عنه فينظر إلى وجوه مطالبه ويرى خيره وشره ومنافعه ومضاره ويأخذ عنان الطبيعة عن يد النفس الأمارة بالسوء ويسعى في سبيل ربه ومرضاته حتى يبلغ غاية مقاصده ومتمنياته وفيه تفضيل العالم المتفكر في أمر العبادة وأجزائها وأحكامها وشرائطها ومصالحها ومنافعها وفي أحوال المعبود وصفاته اللائقة به على العابد كما مر مرارا، فمن آثر العبادة على العلم والتفكر والحركات البدنية على الحركات الفكرية فقد آثر الأدنى على الأعلى والأخس على الأشرف.

وقيل: هذه الفقرة متعلقة بالفقرة الأخيرة، فإن التفكر في العبادة إنما يتحقق بأخذها من مأخذها وهو القرآن، وأما من رغب عنه إلى غيره وأخذها من ذلك الغير فقد ترك التفكر فيها.

(وفي رواية اخرى: ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خير في عبادة لا فقه فيها) لأن الفقه أصل للعبادة ولا خير في الفرع مع انتفاء الأصل واختلاف هذه الرواية مع السابقة في هذه الفقرة بحسب العبارة دون المعنى (٦)، وفي زيادة فقرة اخرى وهي قوله:

(ألا لا خير في نسك لا ورع فيه) في الصحاح: النسك العبادة والناسك العابد. وفي المغرب:

النسك الذبيحة، يقال: من فعل كذا فعليه نسك، أي دم يهريقه بمكة ثم قالوا لكل عبادة نسك، ومنه:

(إن صلاتي ونسكي) (٧) والناسك العابد الزاهد وهذا من الخاص الذي صار عاما، وفي هذا دلالة على أن النسك في الأصل هو الذبيحة ثم صار عاما، على أن معناه هو العبادة المقيدة بالزهادة لا مطلق العبادة.

والظاهر هنا هو المطلق والورع هو الكف عن المحرمات والأغراض الدنيوية وزهراتها وشبهاتها وعن الطمع والحرص ومنشؤه العلم بحقارة الدنيا وما فيها وجلالة قدر الآخرة والجنة ونعيمها وإطالة الفكر في أحوال المبدأ والمعاد والعبادة إذا قارنت بهذه الفضيلة صارت خيرا محضا يترتب عليها ثمراتها وهي التقرب إلى الله والوصول إلى الله والفناء في الله (٨)، وإن فارقت عنها بقي العابد محبوسا في سجن الدنيا ومغلولا بأغلال زهراتها ومقيدا بقيود شهواتها ولا خير في عبادة لا تنجي صاحبها عن هذه المزلة والجهالة ولا تدفع عنه هذه الخسة والرذالة.

————————————-

الهوامش

١ - من الوساوس الشيطانية ما حدث واشتهر بين الناس في العصور المتأخرة من أن القرآن جميعه متشابه أو أكثره، ولا يفهمه أحد إلا أن يرد في معناه رواية من أهل البيت (عليهم السلام) فتركوا القرآن ولم يرد لأكثر الآيات تفسير صحيح عن أهل البيت (عليهم السلام); لأن أكثر الآيات لا يحتاج إلى تفسير منصوص، وإذا بنينا على عدم تدبير الآيات إلا بنص لزم ترك القرآن أصلا، وليس من جمع بين القرآن والحديث والكلام من أهل النظر والاجتهاد تاركا للقرآن، بل التارك له المحدثون الذين لا يرون ظاهر القرآن حجة إلا بنص من الروايات. (ش)

٢ - هذا تصريح بحسن تعلم علم النجوم، ولا ينافي ما سبق منه في ذمه، كما يظهر بالتأمل. (ش)

٣ - الكافي - كتاب فضل القرآن (باب فضل قراءة القرآن في المصحف)، تحت رقم ٥.

٤ - المصدر - كتاب فضل القرآن (باب النوادر)، تحت رقم ١٧ و ٢٥.

والظاهر أن الشارح (رحمه الله) حمل معنى الضرب على المعنى المعروف منه. وفي معاني الأخبار للصدوق قال:

«سألت محمد بن الحسن عن معنى هذا الحديث فقال: هو أن يجيب عن تفسير آية بتفسير آية اخرى».

٥ - المصدر، تحت رقم ١٥.

٦ - العالم بالعربية إذا نظر في الحديث عرف ظاهر معناه، وهو الذي يكون حجة على الناس، وليس المراد

من التفهم المأمور به ذلك; إذ يستوي فيه الناظرون ولا فضل لأحد على أحد، فلا بد أن يكون معناه

فهم الشيء من غير ظاهر اللفظ والتنبه من قرائن مصحوبة مثلا إذا سمع رواية تدل على التجسم

والجبر ظاهرا مثل أن ولد الزنا لا ينجب وأن الله لا ينظر إليه لا يكتفى بظاهر اللفظ وفهم بالقرائن

العقلية ما يخرجه من الباطل، وبالجملة يدل الحديث على جواز التصرف في ظواهر الروايات بالقرينة

العقلية. (ش)

٧ - هذا يدل على حجية ظواهر القرآن وإن لم يرد فيه تفسير. (ش)

٨ - سبق ذكر الفناء في المجلد الأول، وذكرنا شرحه بقدر ما يناسب هذا الكتاب. (ش)



التعليقات