الجمعة 9 رَجب 1446 هـ 10 يناير 2025
موقع كلمة الإخباري
هل نفهم الكون عن طريق العلم أم الدين؟
الشيخ مقداد الربيعي - باحث وأستاذ في الحوزة العلمية
2024 / 03 / 05
0

«هل يمكن ان تفهم الكون عن طريق العلم أم الدين»، سؤال ـ لا نعلم مدى براءته ـ طرحه الدكتور فيصل القاسم مقدم برنامج (الاتجاه المعاكس)، على صفحته الشخصية، وقد أعاد المسألة للنقاش مجدداً، فلطالما كان هذا الأمر جدلياً، وحالة يعيشها الخطاب الديني، تنطلق من توهم وجود حالة  فصام وتباعد بين النص الديني وعلوم العصر، فطائفة ترى أن الخير كل الخير في الاقتصار على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، أما الانشغال بغيرهما ففيه إهدار للوقت وذهاب لبركة العلم، بينما تذهب طائفة أخرى لضرورة الاقتصار على مخرجات العلوم العصرية، ونبذ الكتاب والسنة خلف أظهرنا، وأن الانشغال بالقرآن مورث للدروشة، ويبعد المسلم عن واقعه، وتسخير العلم لخدمته، وبين هذا وذاك تجد انقسام المسلمين!

تاريخياً، الخلاف يمتد الى عمق التاريخ، فمنذ فجر الحضارة رأى البعض عدم كفاية الدين لمعالجة قضايا الحياة، وضرورة الرجوع للعقل ـ بعد ذلك حل العلم محل العقل ـ في إدارة المجتمعات البشرية، وتلبية الحاجات الفردية والاجتماعية، وقد يتطرف هذا الرفض للنص لدرجة المطالبة بإلغائه تماماً لا مجرد تحجيمه، مع أن التجربة تقضي بأن العقل او العلم دائماً ما يقصر نظره على المنافع المادية، وملاحظة الجانب المادي للإنسان، وعن ذلك يقول السيد محمد حسين الطباطبائي: «إن فطرة البشر وعقله الذي يعده عقلاً سليماً لم تقدر على وضع قوانين تقطع منابت الاختلاف وتقلع مادة الفساد، وناهيك في ذلك ما تشاهده من جريان الحوادث الاجتماعية، وما هو نصب عينيك من انحطاط الأخلاق وفساد عالم الإنسانية، والحروب المهلكة للحرث والنسل، والمقاتل المبيدة للملايين بعد الملايين من الناس، وسلطان التحكم ونفوذ الاستعباد في نفوس البشر وأعراضهم وأموالهم في هذا القرن الذي يسمى عصر المدنية والرقي والثقافة والعلم، فما ظنك بالقرون الخالية، إعصار الجهل والظلمة»، الميزان، ج2، ص132.

والسبب في تقديرنا عدم وضوح دائرة ونطاق كل من النص الديني والعلم التجريبي الحسي عند الطائفتين، وهما ـ كلا الطائفتين ـ بهذا الفهم يقدمون خدمة جليلة للعلمانيين، أما الطائفة الثانية، فواضح لأنها تنبذ النص الديني ـ قرآناً وسنة ـ وراء ظهرها، الأمر الذي يُمَكِن العلمانيين من رقاب الأمة بترك الواقع لهم ليخططوا ما شاؤوا في مجالات السياسة والتعليم والاجتماع... الخ.

وأما الأولى القائلة بكفاية النص الديني ـ القرآن وسنة المعصوم ـ عن مراجعة علوم العصر التي تعينه على فهم الواقع، فهو يَفصل النص عن الواقع الذي من المفترض أن يعالجه، ويجعله مجرد طوباويات للرهبنة، وتمائم للبركة وحفظ الأطفال من طوارق الحدثان!!

الكتاب الذي أنزله الحق تعالى ليكون (..هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)، و(..لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ..)، البقرة: 213. وأنزله نجوماً على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، كل آية منه لها سبب نزول تعالجه، وتبين الموقف منه.

والحق أنهما ـ العلم والدين ـ متعاضدان في خدمة الإنسان، والعلاقة بينهما تكاملية، فالدين يشجع الإنسان لتحصيل كافة العلوم، وكشف أسرار الكون، وبيان ما يصب منه في صراط سعادته في الدنيا والآخرة، والعلم يرد جميل الدين بتوفير معطيات نافعة جداً في فهم النص الديني، وهكذا يستمر التفاعل بينهما في خدمة الإنسان لتحقيق السعادة الشاملة للدنيا والاخرة.

يقول السيد محمد باقر الصدر في ضرورة أن يكون تفسير القرآن منسجماً لإيجاد حلول للمشاكل الحقيقية على أرض الواقع: «إن المفسر التجزيئي دوره في التفسير على الأغلب سلبي، فهو يبدأ أولاً بتناول النص القرآني المحدد، آية مثلاً أو مقطعاً قرآنياً دون أي افتراضات أو أطروحات مسبقة، ويحاول أن يحدد المدلول القرآني على ضوء ما يسعفه من اللفظ.. وخلافاً لذلك المفسر التوحيدي والموضوعي؛ فإنه لا يبدأ عمله من النص، بل من واقع الحياة. يركز نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقدية أو الاجتماعية أو الكونية، ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل وما قدّمه الفكر الإنساني من حلول، وما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة، ومن نقاط‍ فراغ ثم يأخذ النص القرآني، لا ليتخذ من نفسه بالنسبة إلى النص دور المستمع والمسجِّل فحسب، بل ليطرح بين يدي النص موضوعاً جاهزاً مشرباً بعدد كبير من الأفكار والمواقف البشرية ويبدأ مع النص القرآني حواراً؛ سؤالاً وجوابا، المفسِّر يسأل، والقرآن يجيب، المفسِّر على ضوء الحصيلة التي استطاع أن يجمعها من خلال التجارب البشرية الناقصة من خلال أعمال الخطأ والصواب التي مارسها المفكرون على الأرض لا بد وأن يكون قد جمع حصيلة ترتبط بذلك الموضوع، ثم ينفصل عن هذه الحصيلة ليأتي ويجلس بين يدي القرآن الكريم، لا يجلس ساكتاً ليستمع فقط بل يجلس محاوراً، يجلس سائلاً ومستفهماً ومتدبراً، فيبدأ مع النص القرآني حواراً حول هذا الموضوع، وهو يستهدف من ذلك أن يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح والنظرية التي بإمكانه أن يستلهمها من النص، من خلال مقارنة هذا النص بما استوعبه الباحث عن الموضوع من أفكار واتجاهات. ومن هنا كانت نتائج التفسير الموضوعي نتائج مرتبطة دائماً بتيّار التجربة البشرية؛ لأنها تمثل المعالم والاتجاهات القرآنية لتحديد النظرية الإسلامية بشأن موضوع من مواضيع الحياة... فهنا يلتحم القرآن مع الواقع، يلتحم القرآن مع الحياة؛ لأنَّ التفسير يبدأ من الواقع وينتهي إلى القرآن، لا أنه يبدأ من القرآن وينتهي بالقرآن فتكون عملية منعزلة عن الواقع، منفصلة عن تراث التجربة البشرية، بل هذه العملية تبدأ من الواقع وتنتهي بالقرآن بوصفه القيم والمصدر الذي يحدد على ضوئه الاتجاهات الربانية بالنسبة إلى ذلك الواقع»، المدرسة القرآنية، ص23 ـ 30.

وهكذا يستمر التفاعل والتكامل بين النص الديني ومخرجات العلوم حتى تستوعب قوانينه جهات الاحتياج في الحياة. 



التعليقات