الأربعاء 18 جمادى الآخرة 1447هـ 10 ديسمبر 2025
موقع كلمة الإخباري
لماذا يستفزنا بعض الإعلاميين وصنّاع المحتوى… ويستمتعون بذلك؟
بقلم: الدكتور مهند حبيب السماوي
دكتوراه في الفلسفة - مهتم في العالم الرقمي وفضاءاته
2025 / 12 / 08
0

تظهر بين فترة وأخرى شخصيات إعلامية أو مشاهير على المنصات الرقمية تتعمّد إثارة الجمهور بمنشورات غريبة وسلوكيات لاتخضع للمنطق، تبدو وكأنها تهدف لفتح باب الجدل أو الإثارة ولفت الانتباه لدى الآخرين، بل وحتى السخرية التي تقود للشهرة !

ورغم موجات الانتقاد المتواصلة ضد هذه النماذج، تبقى لدينا عدة أسئلة تبحث عن اجابة: 

لماذا يستمر هذا السلوك؟ 

ومتى يراجع صاحب السلوك نفسه ويتخلى عنه؟ 

وكيف تستسيغ هذه النماذج كل هذه الانتقادات التي تصل أحيانا إلى الانتقاص من شخصيتها وذاتها وكرامتها؟

لفهم ومعرفة هذا النمط من السلوك، علينا النظر إليه بوصفه ظاهرة إنسانية معقدة ومركّبة، تتداخل وتشتبك فيها مقتضيات البيئة الرقمية، الدوافع الشخصية، الغايات الاجتماعية فضلا عن العوامل الداخلية العميقة للنفس البشرية .

فيما يلي بعض التفاصيل التحليلية المتعلقة بسلوك هذه الشخصيات، من خلال الابعاد ادناه :

اولا : البعد الرقمي

 خوارزميات المنصات تكافئ أي تفاعل بغض النظر عن نوعه، سواء كان مدحا أو انتقادا أو سخرية، وهو ما يعرفه أصحاب السلوك الاستفزازي ويدركون أن الضجيج والغرابة والتهريج ترفع من نسبة ظهورهم وانتشارهم في بيئة يحكمها اقتصاد الانتباه، حيث يصبح لفت الأنظار أهم من جودة المحتوى أو قيمة المنشورات او حتى الكرامة. 

 بيئة المنصات تمنح بعض الناس جرأة فارغة تذيب إحساسهم بالخجل وتجعله معدوما، بل تخلق حالة من " اللاخجل الرقمي "، حيث يصبح من السهل القيام بما لا يجرؤون عليه في الواقع، دون اعتبار لصورهم او ما يتعرضون له من سخرية .

ثانيا : البعد النفسي

 ينشأ داخل هذه الشخصيات وهم كبير يجعلهم يفسّرون الهجوم والسخرية ضدهم بأنها دليل على قوة يمتلكونها وحضور وتأثير واضح لديهم، وليس رفضا واستنكارا لسلوكهم غير المقبول.

يُصاب الكثير من هذه النماذج بشعور اسميه "البطولة الزائفة"، فيتخيل نفسه شخصية تختلف عن الآخرين ويعتبر سلوكه غير تقليدي واستثنائي، فيحوّل النقد والسخرية ضده إلى دليل على تميّزه وفرادته  .

هناك من لا يستطيع الحصول على الاهتمام الإيجابي، أو لا يمتلك الأدوات لتحقيقه عبر منشوراته، فيلجأ إلى إثارة الاخرين لأنه يضمن له ظهورا فوريا عبر الجدل بشأنه، وهنا يُصبح الاهتمام السلبي المتضمن سخرية وانتقادات بديلا مُرضيا له. 

 مع الوقت يتحول استنكار سلوكه وتصرفاته إلى جزء طبيعي من التجربة الرقمية لهذه الشخصيات، حيث يتعايشون معها دون أي إحراج او قلق، بل قد يرونها "ضريبة " كتاباتهم ومنشوراتهم وشهرتهم مادامت الأرقام مرتفعة والمشاهدات في صعود مستمر.

ثالثا : البعد الاجتماعي

الجمهور جزء أساسي من استمرار هذه الشخصيات بالتواجد على الفضاء الرقمي ؛ فكل تعليق غاضب، مشاركة ساخرة، وكل نقاش محتدم حول المحتوى، يُعد خدمة مجانية تمنح هذه الشخصيات الاستفزازية مزيدا من الانتشار وتدفعها لمضاعفة نفس السلوك بفض النظر عن تداعياته والنتائج التي تترتب عليه.

 تعيش هذه الشخصيات هاجسا وخوفا دائما من الغياب عن المشهد ونسيان الناس لهم، لذلك يفتعلون أي سلوك يضمن استمرار تداول اسمهم، حتى لو كان بطريقة مضحكة أو غير معقول أو تتضمن استفزازا للأخرين، فالمهم أن يبقوا حاضرين ويُذكر اسمهم على مواقع التواصل .

 وأخيرا يمكن ان اقول :

إن الشخصية المستفزة هي نموذجا يعكس تفاعل بيئة رقمية تشجّع الضجيج والتهريج، ودوافع نفسية تبحث عن الانتباه، وشخصيات هشّة تسعى لتعويض نقص داخلي عبر الجدل والسطحية والاثارة .

هذه الظاهرة تكشف عن خلل كبير في الشخصية من جهة، والطريقة التي تعمل بها المنصات وتعيد تشكيل السلوك الجمعي من جهة ثانية، فالنجاح والظهور الرقمي المتواصل، في بعض الأحيان، يرتبط بالاستفزاز أكثر من القيمة، وبالأثارة اكثر من جودة المحتوى الذي نتوقعه من تلك الشخصيات.

التعليقات