تتجه صناعة الأدوية نحو تحول تاريخي بفضل الذكاء الاصطناعي، الذي لم يعد مجرد أداة مساعدة، بل قوة دافعة تعيد تعريف عملية تطوير الأدوية من البداية إلى النهاية.
وهذا التقدم يقودنا نحو عصر جديد يمكن أن نشهد فيه قريبًا أول دواء يتم تطويره بالكامل بواسطة الخوارزميات، مما يعد بتسريع غير مسبوق في اكتشاف العلاجات وخفض تكلفتها.
كيف بدأ التحول الرقمي في تطوير الأدوية؟
تقليدياً اعتمد تطوير الأدوية على التجربة والخطأ، حيث يقوم العلماء باختبار آلاف المركبات الكيميائية للعثور على ما يتفاعل مع "هدف جزيئي" مرتبط بالمرض. ولكن الذكاء الاصطناعي غيّر هذه القواعد جذريا، فبفضل قدرته على تحليل كميات هائلة من البيانات الجينية والكيميائية والسريرية بسرعة ودقة فائقة، أصبح بإمكانه تحديد أهداف علاجية جديدة وتطوير مركبات واعدة في وقت وتكلفة أقل بكثير.
تعتمد هذه الثورة على خوارزميات متقدمة مثل التعلم الآلي والتعلم العميق، التي تتنبأ بكيفية تفاعل المركبات مع الأهداف البيولوجية، بدلًا من التجارب المعملية المكلفة والمستهلكة للوقت، يمكن لهذه النماذج الرقمية محاكاة التفاعلات، مما يقلل الحاجة إلى الغربلة الأولية. كما يكشف الذكاء الاصطناعي عن روابط خفية بين المسارات البيولوجية وتطور الأمراض، مما يساعد في تصميم أدوية تستهدف المرض بدقة جزيئية غير مسبوقة.
الذكاء الاصطناعي يختصر سنوات تطوير الدواء إلى أشهر
لطالما كان تطوير الأدوية عملية طويلة وشاقة تمتد لسنوات. لكن الذكاء الاصطناعي يغير هذه المعادلة بشكل كبير، حيث توفر الخوارزميات المتقدمة قدرة غير مسبوقة على تحليل البيانات الكيميائية والبيولوجية والجينومية الضخمة، مما يسرّع الكشف عن مركبات علاجية واعدة.
وتجسّد تجربة شركة "إكسسينتيا" (Exscientia) هذا التحول، حيث طورت مركبا دوائيا جديدا في 12 شهرا فقط، مقارنة بالمتوسط التقليدي البالغ 4.5 سنوات. تشير مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار (ITIF) إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يقلل الوقت اللازم لتصنيع الأدوية وفحصها بنسبة 40% إلى 50%، مما يوفر ما يصل إلى 26 مليار دولار سنويا في هذه المراحل.
كما يمكنه تقليص مدة الأبحاث السريرية إلى النصف أو أكثر، وتخفيض تكلفتها بنحو 28 مليار دولار سنويا، من خلال أتمتة المهام وتحليل البيانات الإحصائية بكفاءة.
مزايا إضافية للذكاء الاصطناعي في صناعة الدواء
لا تقتصر فوائد الذكاء الاصطناعي على اكتشاف الأدوية الجديدة فحسب، بل تمتد لتشمل إعادة توظيف الأدوية القديمة لأغراض علاجية جديدة. خير مثال على ذلك هو عقار "أوزيمبيك" (Ozempic)، الذي طُوِّر في الأصل لمرض السكري من النوع الثاني، ثم اعتُمد كعلاج فعال للسمنة بفضل تحليل الخوارزميات لتأثيرات المركبات على مسارات المرض المختلفة.
يؤكد الخبراء أن هذا التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي لن يقلل التكاليف ويسرّع الإنجاز فحسب، بل سيمكن أيضا من إنتاج أدوية أكثر فعالية وطرحها في السوق بوقت قياسي، مما يعزز الابتكار في الصناعات الدوائية ويُحدث تحولا نوعيا في منظومة الرعاية الصحية العالمية.
الجهات التنظيمية تواكب التطور: معايير صارمة للأدوية المطورة بالذكاء الاصطناعي
تتعامل الهيئات التنظيمية الكبرى مثل هيئة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) ووكالة الأدوية الأوروبية (EMA) مع الأدوية المطورة بواسطة الذكاء الاصطناعي ضمن نفس الأطر القانونية التقليدية، دون مسار ترخيص منفصل. ومع ذلك، دفعت التطورات السريعة هذه الهيئات لإصدار وثائق إرشادية توضح كيفية دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي مع الحفاظ على معايير السلامة والفعالية الصارمة.
تُشترط على الشركات المطورة الالتزام بالممارسات العلمية والتنظيمية السارية، وتقديم بيانات ومخرجات شفافة وقابلة للتدقيق. في أوروبا، أكدت وكالة الأدوية الأوروبية أن أي نظام ذكاء اصطناعي يُستخدم ضمن ملفات الترخيص يجب أن يخضع لتقييم يعتمد على المخاطر، مع الالتزام الكامل بجودة وسلامة البيانات.
تُطالب الهيئات التنظيمية بمعلومات دقيقة عن الخوارزميات المستخدمة، بما في ذلك بنية النموذج وطرق تدريبه ومصادر البيانات. ويتم التركيز على تقييم الشفافية وقابلية التفسير، خاصة مع خوارزميات "الصندوق الأسود" (Black Box AI)، حيث تُشترط مبررات واضحة لعدم استخدام نماذج أكثر تفسيراً وتوثيق شامل لتطوير الخوارزمية والتعامل مع البيانات.
كما تُولى أهمية كبرى لقضية التحيزات المحتملة في البيانات، مع التأكد من أن الخوارزميات لا تعكس أو تعزز أي انحيازات ضد فئات معينة. ويُشترط أيضا توثيق قابلية التتبع لكل خطوة في تطوير النموذج، بما في ذلك تواريخ التدريب والإصدارات المستخدمة والتحقق من الأداء عبر بيانات مستقلة.
تُجري هيئة الغذاء والدواء الأمريكية ووكالة الأدوية الأوروبية مراجعات دقيقة لأي استخدام للذكاء الاصطناعي خلال التجارب السريرية أو تحليل النتائج، وتُلزم الشركات بتقديم بروتوكولات واضحة توضح كيف أثرت الخوارزميات على سير الدراسة أو نتائجها. كما يخضع توظيف الذكاء الاصطناعي في التصنيع أو اليقظة الدوائية لمتطلبات صارمة تتعلق بإدارة الجودة والمساءلة.
باختصار، لا تعارض الجهات التنظيمية استخدام الذكاء الاصطناعي في تطوير الأدوية، لكنها تشترط الالتزام الكامل بمعايير السلامة والشفافية والمساءلة، دون تقديم أي تسهيلات خاصة لمجرد أن الدواء تم ابتكاره بواسطة خوارزمية.
المحرر: عمار الكاتب