في مجتمعاتنا التي تتسارع فيها وتيرة الحياة وتتشابك فيها المصالح، تبقى أخلاقيات المهنة صمّام الأمان الذي يحفظ للمجتمع توازنه، وللعمل هيبته، وللإنسان كرامته. هي ليست قوانين جامدة تُدرَس على الورق فحسب، بل هي روح متحركة تتغلغل في تفاصيل المهنة وسلوكيات أصحابها، لترتقي بالعمل من كونه مجرد وسيلة للرزق إلى رسالة إنسانية تهدف إلى الخير العام.
ولعل الشباب، في أولى خطواتهم العملية، يكونون الأكثر حاجة لفهم هذه القيم وتطبيقها، خاصة أولئك الذين يعملون في مواقع تتطلب احتكاكاً مباشراً مع الناس، كالمؤسسات الإنسانية والخدمية. هنا، لا يكون العمل مجرد إنجاز للمهام أو تكديس للخبرات، بل يصبح مسؤولية أخلاقية تنعكس على حياة الآخرين بشكل مباشر.
وعندما يتعامل الشاب مع المواطنين، خصوصاً في إطار العمل الإنساني، فهو لا يتعامل مع أوراق أو أرقام، بل مع مشاعر وهموم وآمال. كل كلمة ينطق بها، كل قرار يتخذه، قد يكون له أثر عميق في حياة شخص آخر. وهنا يتجلى جوهر أخلاقيات المهنة المتمثل بالصدق، العدالة، التعاطف، وحسن التعامل.
فالشاب الذي يتحلى بهذه القيم يضيف لمهنته بُعداً إنسانياً يجعل من عمله مصدراً للثقة والاحترام. فهو لا يرى في المواطن مجرد "مراجع" أو "ملف" بل إنساناً يحمل قصة، وربما هماً ثقيلاً جاء يبحث عن يدٍ تُعينه أو صوتٍ يسمعه.
والالتزام بأخلاقيات المهنة يثمر آثاراً إيجابية تتجاوز الفرد لتشمل المجتمع بأكمله، فالشاب النزيه والمتفاني يزرع الثقة في قلوب الناس تجاه المؤسسات، ويعزز صورة الجهة التي يعمل فيها، وعندما يتعامل الإنسان مع من حوله بأخلاق وصدق، تنشأ بيئة عمل صحية يسودها التعاون والاحترام المتبادل، كذلك الشخص الذي يلتزم بأخلاقيات المهنة يكتسب سمعة طيبة تفتح له آفاق التقدم والنجاح في مستقبله المهني، وفي المؤسسات الإنسانية خاصة، يكون الالتزام الأخلاقي عاملًا جوهرياً في تعزيز العدالة الاجتماعية وتخفيف معاناة الفئات الهشة.
لكن ماذا يحدث عندما يغيب هذا الوعي؟ عندما يُفرّغ العمل من قيمه، وتصبح المهنة مجرد أداة للربح أو السلطة؟
المواطنون يفقدون الثقة بالمؤسسات، مما يخلق فجوة يصعب ردمها بين الناس والجهات المسؤولة، كما يؤدي الى انهيار بيئة العمل وتعم الفوضى والأنانية، والمصالح الشخصية تصبح هي الحاكمة، فتنهار الروح الجماعية ويشيع التوتر بين الزملاء، الامر الذي يؤدي الى الإضرار بالمجتمع، حيث في المؤسسات الإنسانية، خطأ بسيط أو قرار جائر قد يُفقد شخصًا حقه أو يزيد من معاناته، فضلا عن انعدام القيمة الذاتية، فالشاب الذي يعمل بلا أخلاق سرعان ما يشعر بالفراغ، إذ يفقد عمله المعنى الحقيقي ويتحول إلى عبء نفسي.
ولكي يكون الشاب قدوة في أخلاقيات المهنة عليه ان يبدأ كل يوم عمل وهو مؤمن أن جهده قد يكون سببًا في تخفيف ألم أو تحقيق عدالة، والتعامل بالصدق والشفافية في كل موقف، حتى وإن كان صعبًا، فالصدق يبني الاحترام ويمنح المهنة مصداقيتها، والتحلي بالتواضع والتعاطف خاصة في المؤسسات الإنسانية، حيث يتعامل مع من هم في أمسّ الحاجة لفهم مشاعرهم ومراعاة ظروفهم. أخلاقيات المهنة لا تقف عند حدود السلوكيات، بل تشمل السعي الدائم لتطوير الذات والارتقاء بالمهارات لخدمة الناس بشكل أفضل.
لذا فالمهنة ليست مجرد وسيلة للعيش، بل هي مرآة لأخلاق الإنسان وشخصيته. والشباب، باندفاعهم وحيويتهم، قادرون على أن يكونوا رسلًا للقيم في مجتمعاتهم، بشرط أن يحملوا معهم الوعي بأن كل عمل يقومون به، مهما كان بسيطًا، يحمل أثرًا في حياة شخص ما.
فلتكن أخلاقيات المهنة بالنسبة للشباب دربًا للارتقاء بالذات وخدمة المجتمع، فبها يصبح العمل رسالة، ويصبح الإنسان إنسانًا بحق.