قبل ثلاثة أيام من انقضاء عام (2024) المنصرم، لوّح العراق بتدويل أزمة المياه مع تركيا، بسبب تفاقمها وتأثيراتها الحالية والمستقبلية على الواقع الزراعي والبيئي وما يمسّ حياة الإنسان العراقي بالدرجة الأولى، إلى جانب تأثير إيران أيضاً على هذه الأزمة القديمة الجديدة، ولكن سؤال مهماً يقفز هنا: كيف يمكن لدولة تمتلك بعضاً من أكبر مصادر المياه في الشرق الأوسط أن تتأثر أكثر من جيرانها؟
إن الأزمة المائية في العراق لم تعد مجرّد حديث عابر على لسان المواطنين والمزارعين وخبراء البيئة والاقتصاد؛ بل صار مثار اهتمام مراكز البحوث العالمية، التي توقّعت مستقبلاً قاتماً لهذا البلد، الذي عُرف منذ فجر التاريخ ببلاد ما بين النهرين.
ولكن لأسباب طبيعية وأخرى بسبب الإنسان ذاته وضعف المعالجات الحكومية، ناهيك عن ما تُوصف اليوم بـ "حرب المياه" التي تشنّها تركيا على جارها، كونها تمثل بلاد المنبع لنهري دجلة والفرات، مما يعني أن القضية في حدّ ذاتها سياسية، وصارت تُستخدم كورقة ضغط على العراق؛ لقبول أجندات ومخططات أنقرة وما تريده من بغداد.
خبراءُ محليون ودوليون فضلاً عن مراكز بحثية ووسائل إعلامية أجنبية تابع موقع (كلمة) تقارير صادمة صدرت عنها مؤخراً وقبل سنوات أيضاً، تحدّثوا عن الواقع السوداوي الذي تعيشه أرض السواد (النخيل).
وبسبب شحّ الأمطار والاحتباس الحراري والتغيرات البيئية، مع استمرار دول المنبع في السيطرة على ما يدخل للعراق من الحصص المائية، نتجت مثل هذه الأزمة الكبيرة، في حين تغيب الحلول الداخلية أو الاتفاقات الملزمة مع الدول المجاورة، لتبدأ الأصوات بعدها بالارتفاع، حيث دعت إلى "تدويل ملف المياه وإيجاد حلول جذرية".
وقبل أن نغوص أكثر في النتائج المستقبلية التي توصف بـ "الكارثية" يجب أن نقف أولاً عند الأسباب الرئيسية وراء حصول مثل هذه الأزمة في العراق.
تركيا وإيران.. سدود وأوراق ضغط
ينبع نهرا دجلة والفرات من تركيا، ويجريان عبر سوريا والعراق، قبل أن يصبّا في الخليج العربي، وهما يمثلان المصدرين الرئيسيين لمياه الشرب والزراعة في المنطقة.
وينبع حوض نهر دجلة من جنوب شرق البلاد، على المنحدرات الجنوبية لسلسلة جبال طوروس. وينقسم بين تركيا وسوريا والعراق وإيران، ويقع (58%) منه في العراق، وبالإضافة إلى ذلك، فإن معظم ثروات نهر دجلة تتدفق إلى العراق من إيران، ولا يجري توفير سوى (13 %) من مياه نهر دجلة.
ويبدأ حوض نهر الفرات مجراه في الجزء الجنوبي الشرقي من تركيا ويمتد على أربع دول هي العراق وتركيا وسوريا والمملكة العربية السعودية، حيث يلتقي نهرا كاراه سو ومراد سو في جنوب شرق تركيا، عند كوبان، ليشكلا نهر الفرات.
ويُرجع الباحثون والمختصون المخاوف المتزايدة بشأن "الأمن المائي العراقي" إلى عوامل متعددة، أبرزها بناء سدّ (أليسو) التركي عام (2018)، والذي أدى إلى تقليص الإطلاقات المائية من تركيا إلى العراق من نحو (70) مليار متر مكعب سنوياً إلى أقل من (40) مليار متر مكعب، حيث انخفضت إلى أقل من (300) متر مكعب في الثانية، مقارنة بـ (600) متر مكعب في السابق.
ووفقاً للخبير الزراعي عادل المختار فإن "لخزين المائي العراقي وصل في (صيف 2023) إلى (5 مليارات) متر مكعب فقط، وهو الأدنى في تاريخ البلاد".
فيما يقول الخبير الزراعي تحسين الموسوي: إن "التغيرات المناخية وانخفاض الأمطار، وسوء إدارة الموارد المائية أسهمت في تفاقم الوضع، إلى جانب تصريف النفايات الصناعية في الأنهار وقطع إيران نحو (42) نهراً ورافداً يرفد العراق بالمياه".
وتابع بأن "شحّ المياه أدى إلى تقلص المساحات الزراعية إلى (مليوني) دونم من أصل (40 مليون) دونم صالحة للزراعة"، مشيراً إلى "ارتفاع معدلات التصحر إلى مستويات قياسية بلغت (70%) من الأراضي العراقية، ناهيك عن جفاف مناطق الأهوار ونفوق أعداد كبيرة من الأسماك".
وتسببت هذه الأوضاع كذلك في نزوح آلاف العائلات الريفية إلى المدن، ما زاد الضغط على البنية التحتية وفرص العمل، وفقاً للموسوي، مشيراً إلى أن "استهلاك القطاع الزراعي للمياه يصل إلى (85%) بسبب الاعتماد على طرق الري التقليدية، ما يزيد من استنزاف الموارد المائية" بحسب قوله.
ومع "استمرار ارتفاع درجات الحرارة والتبخر الذي يستهلك أكثر من (5 مليارات) متر مكعب سنوياً من الخزين المائي، يواجه العراق بحسب خبراء آخرين "مستقبلاً مجهولاً ما لم تُنفذ إصلاحات جذرية في السياسات المائية والزراعية، وتُعزز المفاوضات مع دول المنبع لتحقيق الأمن المائي".
ولفتوا إلى أن العراق في إزاء ذلك "يعاني من غياب اتفاقيات ملزمة مع دول الجوار لتأمين حصصه المائية، وضعف السياسات الوطنية لمعالجة الأزمة" وهو ما يُنذر بكوارث بيئية ومجتمعية خطيرة "إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة وجديرة بإنقاذ الموقف".
وبتاريخ (12 ديسمبر/ كانون الأول 2024) حذّر تقرير صادر عن الأمم المتحدة من تفاقم معدلات الجفاف والتصحر على مستوى العالم، ووضع التقرير العراقَ ضمن الدول الخمس الأكثر تأثراً بالتغيرات المناخية، نتيجة تراجع كميات الأمطار على مدار عدة مواسم واستمرار الاعتماد على وسائل الري التقليدية.
تقرير المنظمة أوضح أن العراقَ "يعاني من شحّ المياه بسبب قلة الموارد المائية القادمة من دول المنبع، إضافة إلى تراجع هطول الأمطار بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، مما أدى إلى تفاقم ظواهر الجفاف والتصحر وانحسار الحزام الأخضر في العديد من المناطق".
ويسلّط التقرير الأممي بذلك الضوء على الحاجة الماسة لتحرك فوري لمواجهة التحديات البيئية التي يواجهها العراق، والتي تمثل تهديداً كبيراً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلد.
من جهته انتقدَ الخبير المائي رمضان محمد سياسات تركيا تجاه العراق في ما يتعلق بالمياه.
وقال محمد في تصريح صحفي تابعه (كلمة): إن تركيا "تتغافل عن استخدام الدبلوماسية المائية بشكل جاد مع العراق"، موضحاً أن "تركيا تسعى أحياناً لكسب ودّ العراقيين عبر إطلاق كميات محدودة من المياه في نهري دجلة والفرات، بينما تتجنب التوقيع على اتفاقيات رسمية ملزمة".
وبحسب محمد "يسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مرات عديدة استرضاء العراقيين بتصريحات تُظهر أنه يهتم بمصالحهم، لكنه سرعان ما يتحايل على هذه التفاهمات بمذكرات تفاهم غير ملزمة، بدلاً من توقيع اتفاقيات دولية تضمن حقوق العراق المائية بشكل دائم".
كما أكدت الباحثة صوفيا لاير أن "تجاهل تركيا المستمر للأزمة التي تتفاقم في العراق سيؤدي إلى عواقب وخيمة على مستقبل الملايين من أبناء الشعب، ناهيك عن الأجيال التي ستولد على واقع مأساوي".
وهو أمر غير منصف يهدد الاستقرار السياسي ويكلف البلاد ثمناً باهظاً في المستقبل، كما ذهب إلى ذلك خبراء آخرون.
وعودة على حديث رمضان محمد فإن "الوضع لن يستمر على هذا الحال إذا ما أظهر العراقيون موقفاً أكثر حزماً واستفاقوا من غفوتهم" بحسب قوله.
وفي وقت سابق من العام (2023) وصف وزير الموارد المائية العراقي عون ذياب، سياسة تركيا في إطلاقات المياه بأنها "كانت سلبية"، مبيناً أن "أنقرة لم تلتزم بطلب بغداد إطلاق (500) متر مكعب في الثانية من سدّ أليسو".
وشدّد أيضاً بأن ملفّ المياه وشحتها "لا يقلّ خطورةً عن مستوى مواجهة عصابات داعش الإرهابية".
كما وجه النائب المستقل علاء الحيدري انتقادات لاذعة لما وصفه بالمفاوضات الخجولة والضعيفة التي تجرتها الحكومة العراقية بشأن ملف المياه الملح مع تركيا.
وقال الحيدري في تصريح صحفي: إن "جلسة البرلمان اليوم شهدت استدعاء وزراء الخارجية والموارد المائية والعدل لبحث أزمة المياه والأزمة الحقيقية بين العراق وتركيا"، مؤكدا أن "هذه القضية أصبحت هاجسا يؤرق كل مواطن عراقي وخاصة قاطني المناطق الوسطى والجنوبية".
وتابع قائلاً: "للأسف فإن تركيا لم تلتزم بالاتفاقيات الدولية. ونقول هذا بصراحة وبدون تحفظ إن هناك مفاوضات خجولة من جانب الحكومة العراقية، وتحديداً وزارة الخارجية ووزارة الموارد المائية، في التعامل مع الجانب التركي".
وأوضح الحيدري أن "العراق يحتاج إلى مفاوض قوي وشجاع في التعامل مع الجانب التركي لتأمين حقوق العراق المائية وزيادة الحصص المائية من تركيا للعراق، وفي حال عدم تحقيق حقوق العراق فإن هناك اجماعاً برلمانياً على محاسبة الوزراء المسؤولين عن ملف المياه مع تركيا".
ولكن لم تتردد تركيا وكذلك إيران، في عزو تراجع الموارد المائية إلى سوء إدارة السلطات العراقية.
وفي عام (2019) دعت تركيا إلى إيجاد حل طويل الأمد للتحديات المائية بين تركيا والعراق من خلال "خطة العمل التركية العراقية". ورغم هذه المبادرة فإن تنفيذ هذه البروتوكولات لم يكن ناجحاً بسبب الصراعات المزمنة.
في حين اعتبرت مستشارة الأمن والمخاطر (بيرتيل دومالين) في مقال تحليلي لها نشره المركز الفرنسي للأبحاث في العراق بتاريخ (29 يوليو/ تموز 2022) وترجمه (كلمة) إلى أن "هناك عدم توازن جيوسياسي بين تركيا والعراق، وهو ما أثّر على الواقع المائي للأخير".
وقالت: "بما أن نهري دجلة والفرات ينبعان من الأناضول القديمة، فإن تركيا تمارس هيمنتها على العراق، وكذلك هو الحال بالنسبة لإيران".
وفي إزاء تفاقم هذه الأزمة، أكد عضو لجنة الزراعة والمياه النيابية ثائر مخيف، أن "أزمة الجفاف في العراق ما زالت تشكل خطراً وتهديداً حقيقياً وبدأت تتفاقم يوماً بعد يوم دون وجود حلول سريعة"، مبيناً أن "الصيف المقبل سيكون الأخطر في تاريخ العراق".
وطالب الحكومة "بالتحرك سريعاً نحو الجانب التركي لضمان حصول العراق على حصته المائية العادلة وعدم الخضوع إلى متطلبات تركيا التي جعلت العراق يعاني كثيراً"، مشيراً إلى أن "تركيا غير ملتزمة بالاتفاقيات المائية مع العراق حتى الآن".
وفي حين واجهت إيران الاتهامات ذاتها الموجهة إلى تركيا، إلا أنّها انتقدت هي الأخرى برنامج بناء السدود من قبل الأخيرة، وادعت أن سد (إليسو) يشكل "تهديداً بيئياً خطيراً للعراق، وفي نهاية المطاف لإيران، وذلك من خلال الحد من دخول مياه نهر دجلة إلى الأراضي العراقية بنسبة (56%)" وذلك بحسب تصريحات رسمية تابعها (كلمة).
وبناءً على مثل هذه المواقف السياسية الخارجية، رأى الباحث كونور ديلين في مقال له ترجمه (كلمة) أن "تركيا تحاول التلاعب بحالة عدم الاستقرار الإقليمي الحالية لتعزيز أجندتها في الشرق الأوسط المضطرب، بما في ذلك من خلال متابعة خططها الطموحة، لتصبح قوة عظمى مائية إقليمية يمكن أن تمنحها السيطرة الرئيسية على مياه المنطقة" على حد قوله.
الجفافُ يفتك بــ "جنة عدن"!
لا يتعلّق الأمر في العراق بانخفاض مناسيب المياه في نهري دجلة والفرات رغما أنهما يمثلان الرافدين الأهم للبلد؛ فقد قضى الجفاف على مساحات واسعة من المسطّحات المائية المعروفة باسم (الأهوار) في الجنوب العراقي التي تُعرف باسم (جنة عدن) كونها بحسب الباحثين والمؤرخين تمثل المهد الأول للبشرية؛ إلى جانب تأثيراته على بحيرة الرزازة في محافظة كربلاء، وبحر النجف في محافظة النجف، وبحيرة الثرثار في محافظة الأنبار، ناهيك عن موجة الجفاف التي ضربت بحيرة سدّ الموصل بمحافظة نينوى بشكل كامل.
كانت الأهوار التي تكون على شكل مثلث والواقعة بين مدن (العمارة والناصرية والبصرة وذي قار) من بين أكبر الأراضي الرطبة في العالم، حيث كانت تغطي مساحة (10 آلاف و500) كيلومتر مربّع في العام (1973) وهي مساحة تعادل مساحة لبنان تقريباً.
وكانت الأهوار موطناً لمجموعة متنوعة من النباتات والحيوانات، وبحلول منتصف القرن العشرين كانت تدعم عددًا من السكان يقدر بنحو (500) ألف نسمة، ولكن أعدادهم تراجعت بشكل صادم وخصوصاً في مطلع تسعينيات القرن الماضي حيث حارب نظام البعث بقيادة (صدام حسين) سكان هذه المناطق وعمد إلى تجفيف مياه الأهوار وتشريد السكان الذين كانوا يعارضون حكمه الديكتاتوري.
ويعتمد اثنان من أكبر أهوار العراق، الأهوار الوسطى وهور الحمّار، في الأغلب على نهر الفرات لتجديد مخزونها، وبسبب تسرب مياه البحر إلى شط العرب، بنت وزارة الموارد المائية في العام (2014) سدّاً على نهر الفرات، بين الأهوار الوسطى وهور الحمّار، وقبل بداية شط العرب؛ لمنع وصول مياه البحر إلى الفرات.
وخلال العقد الماضي، تراجعت كمية المياه في الفرات إلى حد جعلها بالكاد قادرة على الحفاظ على الأهوار بنصف حجمها الأصلي، وكان لمشروع السد على نهر الفرات، والذي كان قادراً على الاحتفاظ بكثير من المياه في الأهوار، تأثير كبير على خفض كمية المياه المتدفقة من الأهوار أسفل نهر الفرات إلى شط العرب.
ولكن أدت موجات الجفاف الشديدة في أعوام (2009 و2015 و2018 و2022 و2023) إلى جفاف العديد من مناطق الأراضي الرطبة الضحلة وزيادة تركيز الملوثات في المياه المتبقية.
وازداد الأمر سوءاً خلال السنوات الثلاث الأخيرة، حيث شهدت مناطق الأهوار بعد جفاف مساحات كبيرة منها هجرة واسعة شملت أكثر من (3 آلاف) عائلة، توزّعت في مناطق وسط البلاد، ومنها محافظة كربلاء.
ومنذ العام (2007) لعبت منظمات عراقية وناشطون دوراً كبيراً للاعتراف بمناطق (الأهوار) كأراضٍ رطبة ذات أهمية دولية؛ وذلك بموجب اتفاقية (رامسار) وموقع للتراث العالمي لليونسكو في العام (2016).
ووفقاً لتصريح صحفي للناشط البيئي جاسم الأسدي وهو أحد سكان منطقة (الجبايش) وسط أهوار مدينة الناصرية، فإنّ "الأراضي الرطبة المتمثلة بـ (الأهوار) تعتبر أنظمة تخزين مياه مهمة على الرغم من ارتفاع معدلات التبخر، كما توفر معالجة فعالة لمياه الصرف الصحي، حيث تمتلك قدرة على امتصاص ومعالجة النفايات".
وأكّد بأنّ "تعزيز التنوع البيولوجي هو وظيفة أخرى مهمة للأراضي الرطبة، فالمستنقعات ليست فقط مهمة للطيور المهاجرة؛ بل إنها أيضاً تدعم مجموعات الأسماك القابلة للحياة، حيث كانت في وقت من الأوقات تزود البلاد بأكثر من (60%) من الأسماك المستهلكة".
كما تساعد الأراضي الرطبة بحسب الأسدي "في تعديل المناخ المحلي. فالمستنقعات الجافة تمتص قدراً أكبر من الإشعاع الشمسي ذي الموجات القصيرة".
وفي أوائل تسعينيات القرن العشرين، كانت مساحة الأهوار في العراق تبلغ نحو (20 ألف) كيلومتر مربع، ولكنها تقلّصت منذ ذلك الحين إلى حوالي (4 آلاف) كيلومتر مربع، حسب أحدث التقديرات.
ولكن على الرغم من الأدلة على أهمية الأهوار، فإنّ "الحفاظ عليها لا يشكل أولوية سياسية عالية في العراق" كما يقول الباحث (ستيفين لونيرجان) في مقالٍ له نشره بتاريخ (4 مايو/ أيار 2024) باللغة الإنجليزية وترجمه موقع (كلمة).
ويبقى الوضع بالنسبة لهذه المسطحات المائية التي تفقد مساحتها يوماً بعد آخر كالتالي: "إذا هطلت الأمطار وقامت الوزارة بإطلاق المياه إلى الأهوار كما وعدت، فإن جزءاً على الأقل من الأهوار سوف ينجو".
ولكن حتى بعد ذلك، كما يقول لوينرجان "توفر الأهوار العراقية نافذة مهمة على الماضي وشعوراً بالهوية للمستقبل. وهي تشكل جزءاً كبيراً من قصة الحضارة العراقية وكيف ازدهرت البلاد ذات يوم".
ناشطون: حرب المياه وشيكة
وقد أصبح الضغط على مناطق الأهوار والمدن الجنوبية في العراق شديداً للغاية لدرجة أن هناك مخاوف حقيقية من احتمال اندلاع صراع قريباً في المنطقة حول المياه.
ويقول الناشط البيئي جاسم الأسدي في تصريح لصحيفة (التلغراف) ترجمه (كلمة): إنّ "المدن الجنوبية في العراق تواجه منافسة متزايدة على موارد المياه، وما لم يتم تنفيذ حل شامل؛ فإن هذه التوترات الداخلية قد تتفاقم إلى صراعات خطيرة. وأعتقد أن حرب المياه وشيكة" بحسب قوله.
كما يعتقد الأسدي أن "المفاوضات التي انتهت بإضافة الأهوار العراقية إلى قائمة التراث العالمي للأمم المتحدة في عام (2016) حوّلته إلى هدف".
وبيّن أنّ "إيران وتركيا عارضتا الإدراج؛ لأنه سيلزمهما بإطلاق حصة العراق من المياه" حسب قوله.
تأثير أزمة المياه على الزراعة
تعرّضت الزراعة في العراق لضربة قاسية؛ نتيجة مشاريع السدود التركية والإيرانية المستمرة والتي تعمل على تقليل تدفق المياه وتمنع إمدادات المياه الرئيسية من اثنين من الأنهار الرئيسية في المنطقة، بحسب ما ذكره موقع (ميدل إيست آي).
ويقول مزارعون في محافظة ديالى: إن "سبل عيشهم مهددة نتيجة قيام طهران بإعادة توجيه مياه نهري (سيروان) و(الزاب الصغير) إلى سدود في إيران، مما أجبر بعض العراقيين على مغادرة مدنهم وقراهم".
وليست السدود وحدها هي المشكلة، فقد أدت درجات الحرارة الشديدة والجفاف المطول وسوء إدارة المياه إلى دفع البلاد إلى حالة الطوارئ.
ويسلط تقرير نشره المجلس النرويجي للاجئين وترجمه (كلمة) الضوء على كيفية تفاقم التدهور الزراعي في العراق بسبب "درجات الحرارة الشديدة وفترات الجفاف الطويلة"، مما يجبر أسرة واحدة من كل أسرتين على زراعة مساحة أقل من الأرض أو استخدام كميات أقل من المياه في عام (2024) مقارنة بالسنوات السابقة. ويلقي التقرير الضوء على كيفية تأثير هذه التحديات على الدخل وغلات الحصاد وقدرة الناس على التعافي من عقود من عدم الاستقرار.
وبحسب التقرير فإن "من المرجح أن يؤدي اعتماد العراق على تقنيات الري القديمة إلى تفاقم الأزمة. فما زال نحو (70%) من المزارعين يعتمدون على الري بالغمر غير الفعال، على الرغم من النقص الحاد في المياه".
كما تركت سنوات الصراع البنية التحتية للمياه في العراق في حالة يرثى لها، مما جعلها غير قادرة على معالجة التحديات الحالية أو المستقبلية، وقد أدى انخفاض المدخلات الزراعية إلى عواقب اقتصادية واجتماعية وخيمة.
بالإضافة إلى ذلك، شهدت المجتمعات الزراعية انخفاضاً مطرداً في محاصيل القمح والخضروات والفواكه للعام الثاني على التوالي. ولا يؤدي هذا الاتجاه إلى تآكل دخول الأسر فحسب، بل يزيد أيضًا من تعرض الملايين للجوع والفقر. وبدون تدخل عاجل، يواجه العراق أزمة متصاعدة تهدد بزعزعة استقرار المجتمعات الريفية وتعميق التفاوت الاجتماعي والاقتصادي".
وفي عام (2020) ضربت موجة جفاف العراق وسوريا وإيران، والتي تم تصنيفها حاليًا على أنها "شديدة" على مقياس مراقبة الجفاف في الولايات المتحدة.
لقد كانت فترات الجفاف الطويلة ودرجات الحرارة القصوى سبباً في إحداث تأثير عقابي على سبل عيش المزارعين الذين يعتمدون على الكفاف في جميع أنحاء المنطقة، ولكنها أثرت بشدة على أولئك الذين يعيشون في المستنقعات.
وبالإضافة إلى الخسارة الكبيرة التي تعرض لها المزارعون في مختلف مناطق العراق، فقد عانى رعاة الجاموس من خسائر كبيرة بسبب نقص المياه في السنوات الأخيرة.
ولم تصدر الحكومة العراقية أرقاماً رسمية عن نفوق الجاموس بسبب الجفاف وندرة المياه، لكن تقارير إعلامية محلية كشفت عن نفوق أكثر من (4500) جاموس في هور الجبايش في عام (2022) وحده، وقد اضطر العديد من الرعاة إلى الرحيل بحثاً عن المياه في أماكن أخرى. وذهب بعضهم إلى المدن بحثاً عن فرص عمل أخرى.
تحديات بيئة "متطرّفة"!
بمجرّد أن تسمع كلمة "تطرف" فهذا يعني الجماعات الإرهابية التي تتبنى فكراً متطرفاً بعيداً عن الشرائع السماوية، كما هو الحال بالنسبة لتنظيم (القاعدة) الإرهابي وعصابات (داعش) الإرهابية وغيرهما، ولكن الجفاف هو الآخر ونقص المياه في العراق جعله يعيش تحديات بيئية "متطرّفة" كما يقول مدير دائرة بيئة محافظة البصرة وليد الموسوي.
وقال الموسوي في تصريح صحفي تابعه (كلمة): إن "العراق يواجه تحديات بيئية متطرفة نتيجة شح المياه والتغيرات المناخية"، موضحاً أن "التغيرات المناخية ظاهرة عالمية، لكن العراق يتأثر بها بشكل استثنائي بسبب قلة الموارد المائية".
وفي العراق، كان موسم الأمطار لعامي (2020 – 2021) هو ثاني أكثر موسم جفافاً خلال السنوات الأربعين الماضية، مما تسبب في انخفاض تدفق المياه في نهري دجلة والفرات بنسبة (29%) و(73%) على التوالي.
ورغم أن تغير المناخ ليس السبب الوحيد لندرة المياه، فإنه يؤدي إلى انخفاض كمية الأمطار المخصصة للزراعة وتدهور نوعية احتياطيات المياه العذبة بسبب عودة المياه المالحة القادمة من الخليج العربي إلى طبقات المياه الجوفية العذبة وزيادة تركيزات التلوث.
ودعا الموسوي إلى تبنّي سياسات تهدف إلى "الحدّ من التصحر وتعزيز الغطاء النباتي"، مشدداً على "أهمية زيادة الوعي لدى المواطنين بأهمية الاستزراع والمحافظة على المزروعات لتحقيق استدامة بيئية".
كما يشير خبراء البيئة إلى أن مواجهة آثار التغيرات المناخية في العراق "تتطلب تعاوناً على المستويين المحلي والدولي، بما يشمل تطوير نظم ري حديثة، وزيادة الاستثمارات في مشاريع الحزام الأخضر، وتعزيز السياسات الدبلوماسية لضمان حقوق العراق المائية".
الأزمة المائية العراقية عالمياً
نظراً للأزمة المائية الكبيرة التي ضربت العراق في السنوات الأخيرة، والتحذيرات التي تصدر من مراكز ومعاهد خاصة حول مستقبل البلد في ظل تصاعد نسبة الجفاف وتأثيراته السلبية على حياة الناس ومعيشتهم، فقد احتلت الأزمة العراقية اهتماماً واسعاً على مستوى العالم.
ومثال على ذلك، قالت ممثلة منظمة (اليونيسيف) في العراق (شيما سين جوبتا) بتاريخ (29 أغسطس/ آب 2021) في تقرير للمنظمة نشرته باللغة الإنجليزية وترجمه (كلمة): إنّ "مستوى ندرة المياه في العراق مثير للقلق، ولا يستطيع الأطفال النمو والازدهار إلى أقصى إمكاناتهم بدون الماء". وأضافت: "لقد حان الوقت لاتخاذ إجراءات بشأن تغير المناخ وضمان حصول كل طفل على مياه آمنة".
فيما شدّد كلُّ من معهد الدراسات الإقليمية والدولية (IRIS) معهد السلام الأمريكي (USIP) على الحاجة الملحة إلى اتباع نهج شامل يتجاوز الحلول الفنية، وأوضح في تقرير مشترك ترجمه (كلمة) عن اللغة الإنجليزية، بأن "النتائج الرئيسية تؤكد على ضرورة الاستثمار الكبير في محطات معالجة المياه، وأنظمة الري، وإدارة الموارد المستدامة، إلى جانب تعزيز التماسك الاجتماعي لمنع الصراعات حول الموارد المتناقصة".
كما ذكرت منظمة العمل ضد الجوع (Action Against Hunger) في تقرير لها عن الأزمة المائية في العراق بتاريخ (5 يونيو/ حزيران 2024) ما يعانيه المزارعون في مناطق جنوب العراق وخاصةً في محافظة البصرة.
وأكّدت المنظمة على "ضرورة دعم المزارعين في معالجة أزمة المياه من خلال الدعوة إلى ممارسات الزراعة الذكية مناخيًا والتقنيات المبتكرة والزراعة الموفرة للمياه" كما شدّدت على "ضرورة مساعدة الأسر الزراعية الأكثر ضعفًا من خلال توزيع المعدات الزراعية وقسائم الطعام، ومنع سوء التغذية من خلال التدريب على التغذية".
كما أبدت منظمة (هيومن رايتس ووتش) العالمية هي الأخرى اهتماماً كبيراً بالأزمة الحالية في العراق، وما يمكن أن يفعله نقص المياه والجفاف بالمواطنين، وذلك عبر تقرير لها صدر بتاريخ (22 يوليو/ تموز 2019) باللغة الإنجليزية وترجمه موقعنا.
ففيما يتعلق بالواقع الزراعي وتراجعه بسبب أزمة المياه، ذكر التقرير أنه "قبل وقت ليس ببعيد، كانت الزراعة - التمور في الجنوب، والقمح والشعير والخضروات في الشمال - مصدرا رئيسيا لكسب العيش لأكثر من (70 %) من المجتمعات الريفية، وأكبر مصدر للعمالة الريفية. مع ذلك، تغير هذا الوضع خلال العقد الماضي، حيث انخفضت كمية المياه العذبة التي يحصل عليها أهالي محافظة البصرة".
وتابع أنه "في السبعينيات، أنتج العراق أكثر من مليون طن من التمور سنوياً، وبلغت الصادرات من البصرة وحدها (130 ألف) طن سنوياً. لكن منذ ذلك الحين، فُقدت حوالي (87 %) من الأراضي الزراعية في البصرة كليا أو جزئيا بسبب تسرب مياه البحر".
والبصرة بحسب تقرير المنظمة "ليست هي المحافظة الوحيدة التي تأثرت بهذه الطريقة؛ بل يفقد العراق يفقد حالياً نحو (25 ألف) هكتارٍ من الأراضي الصالحة للزراعة سنوياً، ومعظمها في محافظات الجنوب".
كما يزداد التصحر "حيث يتسبب تغير المناخ بارتفاع درجات الحرارة مما يؤدي إلى زيادة التبخر، وتناقص التساقطات المطرية، وتغيّر أنماط الطقس التي تُسهم في نقص المياه. بينما تلقى بعض المزارعين تعويضاً عن خسائرهم خلال الأزمات السابقة في (2009 و2015).
وأثّرت المياه الملوّثة كذلك على صحة الناس، وفقاً لتقرير المنظمة "كان التأثير الأكثر حدة في صيف (2018) عندما أٌدخِل (118 ألف) شخص على الأقل إلى المستشفيات بسبب الأمراض".
وقد وجدت المنظمة "أدلةً على وجود تكاثر كبير للطحالب على طول شط العرب مثلاً، والذي قد يكون متصلاً بتفشي المرض، إضافة إلى المواد العضوية المتراكمة من فضلات الإنسان والحيوان والقمامة".
سيناريوهات محتملة لأزمة المياه
نتيجةً لعقود من الصراع، وسوء الإدارة البيئية، وانعدام صيانة قنوات الري، والاعتماد على الجيران للحصول على موارد المياه، وتسارع تغير المناخ، أصبح الماء سلعة نادرة في العراق.
وبعد انخفاض مستويات مياه نهري دجلة والفرات بنسبة (30%) منذ ثمانينيات القرن الماضي، فإن من المتوقّع أن تنخفض بنسبة (50%) بحلول العام (2030).
ويرجع ذلك في المقام الأول إلى بناء السدود في البلدان المجاورة، خاصة وأن الأنهار تمثل أكثر من (90%) من احتياطيات المياه العذبة في العراق.
كما يتفاقم استنزاف الموارد المائية بسبب الاستخدام غير المنظم للمياه من قبل المستهلكين، وممارسات الري التي تستهلك كميات كبيرة من المياه، وأزمة المناخ، في حين تحاصر موجات الحر العراق بشكل متزايد، مما يخنق سكانه بدرجات حرارة قد تصل إلى (50 درجة مئوية).
وبحلول عام (2050)، من المقرر أن ترتفع درجة الحرارة السنوية المتوسطة للبلاد بمقدار درجتين، ومن المقرر أن ينخفض متوسط هطول الأمطار السنوي بنسبة (9٪)، وإذا انخفض هطول الأمطار أو الغطاء النباتي، تصبح الطبقات العليا من التربة أقل تماسكًا، مما يزيد من احتمالية حدوث العواصف الرملية والمزيد من التصحّر، وفقاً لتقرير منظمة (العمل ضد الجوع).
وطرح تقرير المنظمة في الختام حلولاً ومعالجات عديدة، وشدّد على إعادة التفكير في الممارسات الزراعية للتعامل بشكل أفضل مع ندرة المياه.
وأشار إلى أن "تعزيز التغيير في ممارسات الري وتحديث القطاع الزراعي أمر ضروري لمواجهة تحديات ندرة المياه في العراق".
وكجزء من استراتيجيتها لإدارة المياه المحلية وبالتعاون مع الري بالتنقيط المستجيب، نفذت منظمة العمل ضد الجوع مشروعًا تجريبيًا في ثلاث مزارع في قضاءي القرنة والدير في منطقة البصرة. وتم تدريب المزارعين المشاركين وتجهيز حقولهم بنظام ري بالتنقيط التفاعلي.
وبفضل هذا النظام، تنظم النباتات إمدادات المياه الخاصة بها، مما يوفر المياه ويزيد من إنتاجها مقارنة بأساليب الري الأخرى مثل الري السطحي والري بالرش والري تحت الأرض والري بالتنقيط القياسي.
ويستهلك نظام الري بالتنقيط التفاعلي حوالي (758) لتراً يومياً لمساحة (450) متراً مربعاً من الأرض، بينما يستهلك الري بالغمر التقليدي (2270) لتراً.
ويجعل النظام من السهل "ريّ المحاصيل ويعني استطاعة إنتاج المزيد وأفضل من ذي قبل".
وتشمل الأهداف المحددة لمعالجة الأزمة توفير مياه الشرب وفقاً للمعايير الدولية لاستهلاك الفرد، وتوسيع شبكات المياه، وتحسين أنظمة التوزيع، وتنمية مهارات الموظفين.
ومع ذلك، وبما أن تغير المناخ والبيئة لا يعرفان حدوداً، فيتعين على العراق أن يستثمر موارده المائية في حلول طويلة الأجل، بمشاركة ودعم كل الدول.