كان الرئيس السوري المعزول بشار الأسد يمثّل لعدة سنوات أقوى حليف لروسيا في الشرق الأوسط. وقد استثمر الكرملين فيه كثيراً، إلا أن ميزان القوى يتغيّر بين لحظة وأخرى، فشهد العالم سقوطاً مدوياً لرئيس تربّع على عرش بلاده لأكثر من (20 عاماً).
ورغم الجهود التي بذلتها روسيا منذ العام (2015) لدعم النظام الحاكم في سوريا، إلا أنّ أجنداتها الخاصّة ودورها كلاعب عالمي قويّ لن يسمح بتقديم التنازلات، ويبدو أن استمرار دعم الأسد ليس مهماً بقدر "عدم حصول انتكاسة كبرى لموسكو".
ولذا تظهر آراء العديد من المراقبين إلى أنه لم يكن أمام روسيا التي تواجه صراعاً عدائياً من قبل الغرب، سوى أن تغيّر من مسارها في السنوات الأخيرة من حكم الأسد؛ ورأى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن استمرار دعمه للنظام السوري لن يجلبَ له سوى المزيد من العداء؛ أما التخلّي عنه ـ وهو ما حصل أخيراً ـ سيقوي من موقفه.
ورغم أن بوتين سعى إلى وضع حلول عديدة أمام الرئيس السوري لتخليصه ونفسه من هذه الحرب التي استمرّت طويلاً، وكذلك لتعزيز موقفه تجاه حربه ضد أوكرانيا، إلا أن بشار الأسد رفضَ جميع العروض التي تقدّمت بها موسكو كحليف استراتيجي له.
وكان من أبرز هذه الحلول هي أما أن ينجح الأسد بإنهاء خصومه من خلال الدعم المقدّم له، أو التفاوض والتصالح معهم، وبطرح استراتيجي قدّمته له قبل الإطاحة به.
وتذهب أكثر آراء المراقبين للمشهد السياسي والعسكري في سوريا، إلى أنّ نهاية الأسد في عزله من حكم بلاده كانت متوقّعة جداً، كما أنَّ تخلّي روسيا عنه لا يُفهم في إطاره "العاطفي" بقدر ما علينا أن نعرفَ أن لديها أجنداتها الخاصة في مواجهة الولايات المتحدة وحلف الناتو عبر حربها على أوكرانيا.
ويطرحُ عددٌ من المراقبين أبرز سببين لتخلّي روسيا عن بشّار الأسد وأولّهما: أن روسيا طلبت مراراً من الأسد بدء الحوار مع دول إقليمية ومنها تركيا لتسوية الأمور في الداخل.. لكنه رفض!
ومن أجل البحث بشكل أعمق في هذه الأسباب وخلفيات الأحداث الأخيرة من سقوط النظام الحاكم في دمشق، نقفُ عند رأي الباحث في مركز الدراسات العربية الأوراسية ديميتري بريجغ الذي تابعه (كلمة) الإخباري وقال فيه: إنّ "الأسد قرّر الاستقالة من الرئاسة ومغادرة البلاد معطياً أوامر بالانتقال السلمي للسلطة، فيما روسيا لم تشارك في تلك المفاوضات".
وأشار أيضاً إلى أن "روسيا كانت تريد تغييراً في المشهد السياسي في سوريا لكنّ ذلك لم يحدث".
وبحسب بريجغ، فإن ما أزعج روسيا هو أنها "عملت على إنجاح الحلّ السياسي في إطار قرار الأمم المتحدة الخاص بسوريا رقم 2254، لكنه لم يطبقه بسبب هذه المماطلة"، وفق تعبيره.
أما الأمر الآخر الذي ضاعف استياء بوتين كان فشل الوساطة الروسية في ملف التقارب بين سوريا وتركيا بسبب رفض الأسد.
ويشرح بريجغ أنّ رفض الأسد أغضب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الداعم الرئيسي لفصائل المعارضة المسلحة في الشمال والتي أسقطت حكم الأسد، كما أغضب في الوقت ذاته الرئيس بوتين، مضيفاً "يبدو أنه تم التوافق بين روسيا وتركيا بخصوص الملف السوري" واُتخذ قرار للتغيير في سوريا.
كما يذهب آخرون للقول: إلى أنّ روسيا "كانت تأمل دائمًا في المصالحة بين الأطراف المختلفة في سوريا، وكان يمثّل ذلك حلاً أخيراً في الدعم المقدّم منن قبلها للنظام الحاكم في سوريا".
ثم نقطة أخرى تشير إلى أن "روسيا لم تعد تبالي بما سيحدث في سوريا" على اعتبار أن "أولوياتها هي أمنها نفسها".
في حين يرى آخرون، أن هناك سبباً آخر يعدّ مهماً واستراتيجياً لروسيا، ويتمثل في أنّها "لا تريد أن تُستدرج أكثر في الشرق الأوسط والسودان وليبيا؛ فهي تواجه الناتو الآن عبر أوكرانيا".
ويمكن معرفة ذلك الآن من خلال تعليق وزير الخارجية الأوكراني السابق دميتري كوليبا الذي قال بعد الإطاحة بالأسد: "لقد ألقى بوتين بالأسد تحت الحافلة؛ لإطالة أمد حربه في أوكرانيا"، ويرى أن "موارد بوتين أصبحت شحيحة، وهو ليس قوياً كما يدعي".
ووفقاً للكاتب ناثان هودج فإن "أوكرانيا تستعد لعواقب فوز ترامب بإعادة انتخابه وسط مخاوف من احتمال سحب الإدارة القادمة لدعمها لكييف"، ولكن انهيار نظام الأسد بحسب قوله الذي اطلع عليه (كلمة) "من الممكن أنْ يضعفَ موقف بوتين في المفاوضات بشأن إنهاء الحرب في أوكرانيا، وخاصة إذا ما اعتبرت روسيا التهديدات العدوانية التي أطلقها بوتين في الأسابيع الأخيرة بالتصعيد النووي مجرد تهديدات جوفاء" على حدّ قوله.
في حين أشارت تاتيانا ستانوفايا، وهي مراقبة مقربة لبوتين، في منشور على موقع (إكس) إلى أن "هزيمة الأسد قد تؤدي إلى تقوية موقف بوتين التفاوضي بشأن أوكرانيا".
وأضافت أن "بوتين قد يطرح شروطاً إضافية ولن يوافقَ على المفاوضات بسهولة. وسوف يصرّ على أن الأمر متروك الآن للغرب وأوكرانيا لتغيير موقفهما".
ويجيب مراقبون آخرون عن أسباب تخلي روسيا عن دعم الأسد، حيث أشاروا إلى أن "بوتين لم يعد يرغب بتقديم تنازلات أخرى، بعد حربه على أوكرانيا التي كلّفته كثيراً ولذلك ضحّى بالأسد".
ولفتوا إلى أن "هذا التخلّي يعد خطّة من قبل بوتين بعد أن وجد نفسه محاصراً في صراع عدائي مع الغرب، كما أنه يواجه مذكرة من المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب مزعومة في أوكرانيا".
ورأوا بأن "إزاحة الأسد قد تؤدّي إلى تقوية موقفهِ".
كما تقول مصادر مطلعة أن "مسؤولين روساً كانوا على اتصال بممثلي المعارضة المسلحة السورية".
ووفقاً لتقرير نشرته الـ (بي بي سي) وترجمه (كلمة) فإن "زعماء المعارضة ضمنوا أمن القواعد العسكرية الروسية والبعثات الدبلوماسية على الأراضي السورية" هذا يعني أنّ موسكو تريد الحفاظ على موقعها وعدم التخلّي عن خططها في الشرق الأوسط.
كما قالت وزارة الخارجية الروسية في بيان لها اطلع عليه (كلمة): إنّ "القواعد في سوريا وُضِعت في حالة تأهب قصوى"، لكنها زعمت أنه "لا يوجد تهديد خطير لها في الوقت الحالي".
ورغم هذه الخسارة التي مُني بها الرئيس السوري المعزول، إلا أنّ روسيا لا تزال قوية ليس في سوريا فقط، وإنما على مستوى الشرق الأوسط.
ويقول الكاتب الصحفي ستيف روزنبرج: إنّ "السلطات السورية منحت روسيا عقود إيجار لمدة (49 عاماً) للقاعدة الجوية في (حميميم) والقاعدة البحرية في (طرطوس)، في مقابل المساعدة العسكرية التي قدّمتها طوال هذه السنوات".
ورأى بأن روسيا ومع تخلّيها عن دعم الأسد إلا أنها "نجحت في تأمين موطئ قدمٍ مهم في شرق البحر الأبيض المتوسط، وأصبحت القواعد مراكز مهمة لنقل القوات العسكرية داخل وخارج أفريقيا" على حدّ قوله.
ويبقى الأهم هنا بالنسبة لروسيا، هي كيفية مواصلة المواجهة مع حلف الناتو وداعمه (تركيا)، وعدم استدراجها أكثر في الشرق الأوسط والصراعات الجارية في كلّ من ليبيا والسودان.