قال تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) النور: 2. من هذه الآية المباركة نتبين حكمة التشريع الإسلامي في تحريم الزنا والعلاقات المريبة، وتظهر دقة أحكامه في التنكيل بمقترفي هذه الموبقات المشينة، والأمر بالقضاء على الجريمة وتخليص العالم من شرورها، والشدة في معالجة هذه المعاصي ليس للانتقام، وإنما لاستئصال شأفة الجريمة في المجتمع وتقديم الأنموذج الأمثل في اشباع الرغبات والشهوات، حفظا للنسل والكرامة، واشباعا للغريزة الجنسية، دونما تعد على حقوق الآخرين.
وكما قيل في محله (من استطاب لحم الجرذان استطابت لحمه الثعالب) من تطاول على شرف الاخرين وانتهك الأعراض بلا وازع من دين أو ضمير يكون هو عرضة للماكرين والمتصيدين في الماء العكر، وهذه هي سنة الله في الكون بأن الذي يسن سنة حسنة يقطف ثمارها اليانعة، ومن يسن سنة سيئة يتلوى بتبعاتها المؤلمة، فالذي يعتدي على شرف الناس يُعتدى على شرفه، والذي يصون شرف الآخرين فشرفه يصان ورفعته تظهر ومقامه يزهر لا محالة، والإنسان الذي يكون بلا شرف يخيل إليه بأنه يحيا، ويخفى عليه أنه يحيى بآلام غيره، ولا يعلم بأن ما يحيا به هو عدوه وعدو الناس الأكبر، ولعل المنبه الأعظم له عندما تداهمه الشيخوخة أو تداهمه الأمراض والأسقام أو يداهمه الموت، لذاك سوف ينتبه إلى ما اقترفت يداه من خطايا وما بدر منه من فحش ورذيلة وفساد تهتز لها الجبال هزا، ويذعن وقتذاك أن ما كان يعمله هو السراب بعينه وإن كان في وقت ريعان شبابه ينشد الماء؟! ولكنه ليس بماء معين إنما هو الغور بنفسه...
أما آن لك الأوان أنت يا ثمل الفساد والموبقات أن تصحو من غفلتك وترجع إلى رشدك وصهوة عقلك، كيف تنال سعادة موهومة ولذة موتورة والحال أنك تلبس لباسا من أوصاب الناس وأتعابهم؟! متى تعلم وليتك تعلم أن ثيابك نتف لا تربطها ألفة ولا محبة، بل تأتزرها وتشدها رغم أنفها خيوطا واهية لا تلبث حتى يدب فيها الوهن والخور والإعياء، فإذا أنت رهن البلى لا تنجع في خلاصك إبرة ولا يجدي في شفائك خيط، وإذا أنت رهن البلى لا انسجام بينك وبين الطهر والعفاف والكمال، فأنت المتردية والنطيحة ما دمت على الفضيحة، وأنت في خيالك الساحر تمشي على أرض مليئة بالشظايا والأشواك، إنما توصي بجسدك للعث فليس كالعث ساترا لعيوبك، كالذي يحجب أشعة الشمس عنه بغربال، غامر رأسه في خيال الشهوة وكاشف عن سائر جسده للأغوال والأهوال، كالنعامة حينما تغرس رأسها في الرمال حينما يداهمها الخطر تحسب أنها تحسن صنعا ولكنها تعرض نفسها وروحها للأخطار.
الواضح إن الإسلام عندما يؤكد على طهارة الحضن والمولد إنما يؤسس إلى تكوين أسرة متماسكة أصيلة تربطها علاقات وثيقة قائمة على القيم والفضائل وحفظ الحقوق والواجبات لكلا الجنسين، ومن خلالها تبرز الكثير من المواقف المعنوية في الإيثار والمواساة والوفاء والإحسان، تلك المناقبيات التي لا نكاد نراها في المجتمعات المتحللة خلقيا، والتي أطلقت العنان لإرضاء الشهوات الحيوانية دونما ضوابط خلقية، فالفرد الذي يترعرع في هكذا أجواء صاخبة تراه يكتوي بنار الآثار الوضعية لهذه المعاصي شاء أم أبى، ولا محيص من التخلص من آثار الأمراض المزمنة وموت الفجأة والفقر والقحط والتدمير والإبادة إلا من خلال الإحجام عن الفسق والفجور، وابدالها بالعلاقات الشرعية التي تحافظ على النسل وتلبي الرغبات في أجواء ملئها المودة والرحمة والعطف والحنان بعيدا عن مؤثرات الكراهية والحقد والعداوة والبغضاء التي نراها شاخصة في العلاقات المريبة.
عندما يموت ضمير الإنسان، ويغيب حسّه الأخلاقي.. وعندما يأمن الرقابة، ويطمئن إلى عدم وجود المسؤولية والعقاب.. عندما تجتمع هذه العوامل كلها لشخص لا يؤمن بالله، ولا يعتقد بعالم الجزاء والحساب بعد الموت، فإنه لا يجد حرجاً ولا مانعاً يحول بينه وبين المعصية والجريمة؛ بعكس الإنسان المؤمن، الذي يربّيه الإسلام، ويركّز في نفسه عقيدة الإيمان بالله، عالِم الغيب والشهادة، الذي لا يغيب عنه شيء، ولا يضيع في حسابه شيء.. فإن مثل هذا الإنسان يشعر برقابة لا تغيب، ويؤمن بأن كل عمل أو تفكير يصدر عنه، لا يمكن أن يكون بلا حساب أو مسؤولية.. لذلك فإن هذا الإحساس الأخلاقي والإيمان الروحي، يشكّل وقاية للفرد والمجتمع من السقوط تحت أقدام المعصية، أو الوقوع في هاوية الجريمة، وما يترتّب عليها من شقاء وعناء يمكن بالتفكير والأناة والتبصر تخطيهما، والسير بخطى حثيثة ازاء ما يرضي الضمير ويشبع الشهوة وينجي المصير بما ينتظر الانسان من محطات جزائية تحاسبه عما بدر منه لتجازي المحسن والمنصف والعفيف بما أحسن، وتعاقب المتهتك والمعتدي والشره بما أساء، وهذا هو مقتضى العدالة الإلهية في الوجود، وهي دعوة مفتوحة للإنسانية بالتمتع بالحلال عن الحرام، لأنه أزكى للنفس وأنمى للعقل وأهدأ للضمير والوجدان... ومما يدل على عظم شأن الزنا أن الله سبحانه خص حده من بين الحدود بخصائص:
أحدها: القتل فيه بأشنع القتلات للمحصن والمحصنة، وعقوبة الجلد لغيرهما.
الثاني: أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه؛ بحيث تمنعهم من إقامة الحد عليهم، فإنه سبحانه من رأفته بهم شرع هذه العقوبة؛ فهو أرحم منكم بهم، ولم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة؛ فلا يمنعكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من إقامة أمره.
وهذا وإن كان عاماً في سائر الحدود، ولكن ذكر في حد الزنا خاصة لشدة الحاجة إلى ذكره؛ فإن الناس لا يجدون في قلوبهم من الغلظة والقسوة على الزاني ما يجدونه على السارق والقاذف وشارب الخمر؛ فقلوبهم ترحم الزاني أكثر مما ترحم غيره من أرباب الجرائم، والواقع شاهد بذلك؛ فنهوا أن تأخذهم هذه الرأفة وتحملهم على تعطيل حد الله.
الثالث: أنه سبحانه أمر أن يكون حدهما بمشهد من المؤمنين، فلا يكون في خلوة بحيث لا يراهما أحد، وذلك أبلغ في مصلحة الحد، وحكمة الزجر.
ومما يحسن التنبيه عليه في هذا الشأن: أن فاحشة الزنا تتفاوت بحسب مفاسدها؛ فالزاني والزانية مع التعدد أشد من الزنا بواحدة أو مع واحد، والمجاهر بما يرتكب أشد من الكاتم له، والزنا بذات الزوج أشد من الزنا بالتي لا زوج لها؛ لما فيه من الظلم، والعدوان عليه، وإفساد فراشه، وقد يكون هذا أشد من مجرد الزنا أو دونه.
والزنا بحليلة الجار أعظم من الزنا ببعيدة الدار، لما يقترن بذلك من أذى الجار، وعدم حفظ وصية الله ورسوله، وكذلك الزنا بامرأة الغازي في سبيل الله أعظم إثماً عند الله من الزنا بغيرها، ولهذا يقال للغازي: خذ من حسنات الزاني ما شئت، وكذلك الزنا بذوات المحارم أعظم جرماً، واشنع، وأفظع؛ فهو الهلك بعينه.
وكما تختلف درجات الزنا بحسب المزني بها، فكذلك تتفاوت درجاته بحسب الزمان والمكان، والأحوال؛ فالزنا في رمضان ليلاً أو نهاراً أعظم إثماً منه في غيره، وكذلك في البقاع الشريفة المفضلة هو أعظم منه فيما سواها.
وأما تفاوته بحسب الفاعل: فالزنا من المحصن أقبح من البكر، ومن الشيخ اقبح من الشاب، ومن العالم أقبح من الجاهل، ومن القادر على الاستغناء أقبح من الفقير العاجز.
وقد يقترن بالفاحشة من العشق الذي يوجب اشتغال القلب بالمعشوق وتأليهه، وتعظيمه، والخضوع له، والذل له، وتقديم طاعته وما يأمر به على طاعة الله، ومعاداة من يعاديه، وموالاة من يواليه، ما قد يكون أعظم ضرراً من مجرد ركوب الفاحشة.
تقديم الزانية على الزاني في الآية الشريفة في اجراء الحد عليها دليل على أن النساء هن مصدر الفتنة والإغواء، ولهذا فإن الشرع أمرهن بارتداء الحجاب درءا للفتنة وردعا للميول الجنسية الحيوانية الطائشة، فالمرأة ذات التزين والتغنج والتبختر تكون أقدر على ايقاع الشباب في شراكها من المرأة المتعففة المصونة المستورة، ومن هنا يتبين الفرق في آية (السارق) من أن الله تعالى قدمه على السارقة بأنزال الحد عليه، لأن السرقة عادة ما يرتكبها الرجل، حيث تتطلب الجهد والعضلات وكذلك فهي إليه اعذر منها إلى المرأة من جهة ما يتوجب عليه الانفاق والقوامة والصدارة.
ولا يخفى أن حد الزنا هنا تنظيف للإنسان مما اقترف من ذنب عظيم، وهذا التنظيف له جنبتان مادية ومعنوية، أما المادية فإن بدنه يتذوق ألم السياط كما تذوق لذة المتعة المحرمة، والمعنوية فإنها تطهر الزاني من الذنب بعدما لوث روحه بالفاحشة وأبعدها عن ربقة الايمان، والروايات تؤكد هذا المعنى أن المؤمن في حال كونه مؤمنا لا يزني، والجلد بمثابة التكفير عن الذنب وتخليص الإنسان من عذاب الآخرة شريطة عدم العود عليه ثانية.
أضف إلى ذلك إن كل هذه العقوبات التي تقع على الزناة هي في حقيقة الأمر دافع لهم بترك القبائح وانتهاج الأطايب من السنن التي تأخذ بيد الانسان إلى سلم النجاة، وفضيحة العذاب أمام الآخرين فيها ردع الزاني بعدم الارتكاب مجددا وفيها عبرة لكل من تسول له نفسه بانتهاج هذا الطريق المعوج، فإن مصيره لا يكون أفضل من مصير ذلك الذي يقام عليه الحد، وهو خير رادع له بأن يحجم عن العلاقات المحرمة ويدخل إلى دوحة العلاقات الطيبة ومن أوسع أبوابها.
هذه الطريقة في معالجة الزنا وإن كانت قاسية في الظاهر بيد أنها تستأصل شأفة الزنا من جذوره، وتبذر مكانه بذرة الزواج المباركة، وهو ما يفرق المؤمن عن غيره في اشباع شهوته الجنسية عن طريق الحلال مما يضفي عليه هالة من الاطمئنان والاستقرار النفسي والقلبي، ويكون بذلك قد أعطى زمام أمره بيد المشرع الحكيم وأبعد نفسه عن متاهات الشيطان ونزغات النفس الأمارة بالسوء، وشتان بين شهوة يطفي أوارها إنسان بنفس مطمئنة وهدف واضح ويقين صادح، وبين شهوة تسوقه إلى متاهات المرض والضياع والعتمة، هذا هو الفرق بين من ينتخب الزواج الهادف، وبين من يرتمي في أحضان الزنا وما فيه من متاهات فكرية واجتماعية ومصيرية.