السبت 18 ربيع الأول 1446هـ 21 سبتمبر 2024
موقع كلمة الإخباري
فهم الأحكام الشرعية بين النصوص الثابتة والمصالح المتغيرة: قراءة في جدل زواج الصغيرة
الشيخ مقداد الربيعي
2024 / 09 / 07
0

نزلت الآية الكريمة: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (البقرة: 189) لتصحح سلوكًا كان متبعًا في الجاهلية، إذ كان بعضهم إذا أحرم للحج وأراد دخول منزله، لا يدخله من بابه، بل يتخذ في جدار البيت فتحة من الخلف يدخل منها. فجاء الإسلام بنهي عن هذا التصرف، وأمرهم بالدخول من الأبواب.

ورغم نزول الآية في هذا السياق الخاص، فإن العبرة أعم، إذ "المورد لا يخصص الوارد"، كما هو معروف. وقد أشار الإمام الباقر عليه السلام في "محاسن البرقي" إلى أن الآية تشير إلى أهمية أن يُؤتى الأمر من وجهه، أي بالطريقة الصحيحة والمشروعة، فقال عليه السلام: «يعني أن يأتي الأمر من وجهه أي الأمور كان».

وفي سياق دلالتها الأعم، يُفهم من الآية تحذير من استغلال الأحكام الدينية والقوانين الشرعية بطرق غير التي شُرعت من أجلها. وقد استخدم الإمام الصادق عليه السلام الآية ليبين أن الأوصياء هم أبواب الله التي منها يُعرف، إذ قال في "الكافي": «الأوصياء هم أبواب الله التي منها يؤتى، ولولاهم لما عُرف الله عز وجل، وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه».

وتتجلى في هذه الآية دعوة إلى الالتزام بروح الشريعة، التي تضع لكل حكم شروطًا وحدودًا لا ينبغي تجاوزها. وهذا الأمر ليس مقتصرًا على الشريعة الإسلامية وحدها، بل هو موجود في كل الشرائع السماوية والوضعية، إذ لا تخلو شريعة من أحكام مقيدة بأحكام أخرى، تجسد القاعدة الشهيرة لدى فقهاء المسلمين: "ما من عام إلا وقد خُص، وما من مطلق إلا وقد قُيد."

في خضم الجدل الدائر حالياً حول قانون الأحوال الشخصية، يُثار تساؤل حول إباحة الإسلام لزواج الصغيرة التي لم تبلغ سن الرشد. ويتخذ البعض من هذا الأمر وسيلة للطعن في التشريعات الدينية، متناسين – أو متجاهلين عن عمد – أن الإسلام حين أباح زواج الصغيرة وضع شرطاً أساسياً وهو أن يكون هذا الزواج في مصلحتها. فقد قيّد الإسلام ولاية الأب على ابنته بمصلحة البنت، ليس وفقاً لرؤيته الشخصية فحسب، بل بحسب نظرة العقلاء ومنطقهم.

ومن الواضح أن زواج الصغيرة كان سائداً في الأزمنة الماضية، حيث كانت الظروف الاجتماعية والثقافية مختلفة تماماً عن زماننا هذا، الذي لا يرى فيه العقلاء مصلحة غالباً في تزويج الصغيرة. وبناءً على ذلك، لا يجوز لولي الصغيرة أن يزوجها إلا إذا تحقق من وجود مصلحة حقيقية لها في هذا الزواج.

وبصيغة فقهية دقيقة، يمكن القول إن صحة تزويج الصغيرة هي حكم أولي، ولكنه مقيد بشرط يتغير بتغير الزمان والمكان، وهو شرط "مصلحة البنت". وهذه المصلحة قد تختلف من مجتمع إلى آخر ومن زمن إلى آخر، مما يعني أن الحكم ليس مطلقاً، بل هو خاضع لاعتبارات وظروف متغيرة.

وقد تناول سماحة المرجع الأعلى للشيعة السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله) هذه المسألة بوضوح جلي لا لبس فيه، حينما أجاب على سؤال طرحته مراسلة قناة BBC، حيث ألقى الضوء على التفاصيل المتعلقة بهذا الموضوع. لقد أوضح سماحته، ببصيرته الفقهية وعمق فهمه للتشريعات الدينية، أن الأحكام المرتبطة بزواج الصغيرة ليست مطلقة، بل مشروطة بمصلحة الفتاة كما يراها العقلاء في السياق الزمني والمكاني الراهن. بهذا البيان، قطع سماحته الطريق أمام محاولات التشكيك والطعن في القوانين الإسلامية، مؤكدًا أن الإسلام يراعي مصالح الأفراد ويرتكز على قواعد مرنة تتكيف مع تطورات الزمان والمكان.

فعند سؤال مراسلة BBC: لدينا تسجيلات مصورة لرجال دين يقدمون نصائح دينية تفيد شرعية عقد زيجات مع اطفال دون السن القانوني في العراق وهو 15 عاماً. بعض رجال الدين هؤلاء يشيرون الى فتيات صغيرات جداً، كما أنهم يحددون الممارسات الجنسية التي يقولون أنها شرعية.

 

هل يدين مكتب سماحة السيد نصائح كهذه من رجال الدين؟ 

أجاب مكتب سماحته: هذا مدان أيضاً، ويجري عليه ما تقدم في أعلاه (إشارة الى قوله: يتعين على السلطات المعنية اتخاذ الإجراءات القانونية الرادعة عن هذه التصرفات المشينة أينما كانت) ونؤكد على ضرورة أن تلاحق السلطات المعنية من يظهر في زيّ رجال الدين ويمارس هذه الافعال ويروّج لممارسات لها تبعات بالغة السوء على المجتمع وموقع الدين في نفوس الناس.

وبخصوص سؤال مراسلة القناة: كتب سماحته في طبعات سابقة من (منهاج الصالحين) أنه لا بأس بما دون الوطء من الاستمتاعات الجنسية من الزوجة غير البالغة. نحن ندرك بأن هذه النصيحة لم تتضمنها الطبعة الأخيرة المتوفرة.

هل يمكن لسماحته ايضاح نصيحته الدينية بهذا الشأن؟  

أجاب المكتب: كان زواج الصغار ـــ أي زواج غير البالغة من غير البالغ ـــ أمراً متداولاً في العديد من المجتمعات الشرقية الى وقت قريب، ومن هنا تضمنت الرسالة الفتوائية في طبعاتها السابقة بعض أحكامه، ولكن لوحظ انحساره في الزمن الراهن فتمّ حذف جانب منه من الطبعات الأخيرة، وما نريد التأكيد عليه هو: أنه ليس لولي الفتاة تزويجها الا وفقاً لمصلحتها، ولا مصلحة لها غالباً في الزواج الا بعد بلوغها النضج الجسمي والاستعداد النفسي للممارسة الجنسية، كما لا مصلحة لها في الزواج خلافاً للقانون بحيث يعرّضها لتبعات ومشاكل هي في غنى عنها. 

في الختام، يتضح أن الجدل حول بعض الأحكام الفقهية، مثل زواج الصغيرة، يعكس في كثير من الأحيان سوء فهم أو تفسير غير دقيق للتشريعات الإسلامية. إن الإسلام، في جوهره، دين يراعي مصالح الأفراد ويرتكز على مبادئ العدالة والرحمة. الأحكام الشرعية، كما بيّنها العلماء والفقهاء، ليست جامدة ولا مطلقة، بل هي متغيرة ومقيدة بما يتماشى مع الزمان والمكان ومعايير المصلحة العامة.

لقد أكد المرجعيات الدينية على أهمية فهم الأحكام الشرعية ضمن سياقها الصحيح، مشددين على أن كل حكم يحمل في طياته مرونة تتيح له التكيف مع متغيرات الزمن والمكان، وذلك بما يخدم مصلحة الإنسان ويراعي ظروفه واحتياجاته. من هنا، تأتي أهمية العودة إلى مصادر التشريع الأصيلة واستشارة أهل العلم في فهم الأحكام الفقهية بعيداً عن التأويلات المغرضة أو السطحية.

علينا، إذن، أن نتبنى فهماً أكثر عمقاً ووعيًا للتشريعات الإسلامية، وأن نواجه أي محاولات لتشويهها أو تحريفها بوعي ومعرفة، مع الحفاظ على احترام النصوص الدينية وتعاليمها التي وضعت لمصلحة البشرية كافة. (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)، يونس: 32.



التعليقات