أفضل طريقة لتفهّم الحياة هي أن تستعدّ للموت، غاية الحياة الإنسانية أداء الفرائض، واجتناب المحارم، والاشتمال على المكارم، وأفضل المكارم هي خدمة الآخرين والتعاطف معهم والرغبة في مساعدتهم، فالاستعداد للموت هو بمثابة فرامل السيارة وبدونها فانك لا محالة تصطدم بصخرة الواقع، والحياة بدون فرامل حياة العبيد، نحن لا نرضى إلا حياة الأحرار، ولا نرضى إلا أخلاق الأحرار، ولا نرضى الا تقوى الأحرار، فإنها الضمانة الأبدية من الانعتاق من أسر العبودية الى رحاب الحرية، والحياة علمتنا انه لا نمشِ في طريق من طرق الحياة إلا ومعنا بيد سوط عزيمتنا وإرادتنا، لنضرب به كل من يعترض طريقنا، وبيد ثانية شعلة ايماننا وعقائدنا، لننير بها دربنا ودرب التائهين والمغفلين والنادمين.
الموت عادة يعكّر صفو عيش الانسان، كيف لا يكون كذلك وهو هادم اللذات وداحض الامنيات وقامع الشهوات وقالع منابت الغفلة وقاصم ظهر الحرص ومحقر الدنيا وما فيها من طيش وآمال ورغبات، طبيعي ان الذي قلبه يكون معلقا بهذه الأمور الدنيوية، فانه يخاف ويهاب منه مخافة الانسان من الأسد المفترس، يخاف من الموت لأنه عمّر الدنيا وخرّب الآخرة، وانه يخاف الانتقال من العمران الى الخراب.
أما الذي أصلح فيما بينه وبين الله تعالى بالعبادات، وأصلح فيما بينه وبين الناس بالمعاملات، وأصلح فيما بينه وبين الآخرة بالمبرات، فانه لا يبالي بالموت سواء أوقع على الموت بالشهادة، أو وقع الموت عليه بانتهاء أجله في الحياة، فانه يغادر الدنيا وقلبه مطمئن برحمة الله تعالى، بل ان الرسول وعترته الطاهرة هم رحمة الله الواسعة، فانهم يضربون لنا أروع الأمثلة في الاستعداد للموت بل الاستئناس به استئناس الطفل بمحالب أمه، وما وصلوا الى تلك الدرجات الرفيعة الا بامتلاكهم مؤهلات تجعلهم تبوأ موقع الصدارة في هذا المجال ومن ضمنها:
1ـ طهارة قلوبهم وصفاء سريرتهم ونقاء عبوديتهم لله تعالى، اذ انهم بلغوا الذروة في العبادة والتذلل والتضرع لله تعالى، واعظم دليل على ذلك ما ورد عنهم في الأدعية والمناجاة والأوردة المبثوثة في مضانها المعتبرة.
2ـ اماتة شهواتهم في النفس الأمارة، اذ انهم ليس فقط لا يرتكبون المحرمات والمعاصي ولا يفكرون بها، بل انها لا تخطر على بالهم بأي حال من الأحوال.
3ـ اقلاع منابت الغفلة، وانهم لا يغفلون عن ذكر الله تعالى طرفة عين، ولسان حالهم كما ورد في الدعاء: (اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا، ولا تحوجني إلى أحد من خلقك، وأثبت قلبي على طاعتك) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٩٥ - ص ٤٧.
4ـ اقواء القلب بمواعد الله، والذي يثق بالله تعالى بان وعده حق، وان الموت والنشور حق، وان الجنة للمطيعين والنار للعاصين حق، فانه وبصبره يقوى على الطاعات ولا يوهنه استخفاف المنافقين، قال تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) الروم: 60.
5ـ رقة الطبع، ولين الجانب، والتواضع بلا انكسار، والهيبة بلا استعلاء، كقوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) آل عمران: 159.
6ـ كسر أعلام الهوى، بل ان أنفسهم يروضونها بالتقوى ويكسرون بذلك أعمدة السوء والفحشاء والمنكر في أنفسهم فتكون نقية ولا نقاء الثلج واللجين.
7ـ اطفاء نار الحرص، بل انهم ازهد الناس ولا يحرصون على شيء من فتات الدنيا، بل ان حرصهم محصور في اقامة السنن والفرائض وإماتة البدع والفضائح.
8ـ استحقار الدنيا وما فيها من مغريات خادعة وآمال مبتورة وبلاءات محفوفة وطعنات معروفة.
وهكذا أجاب امير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) - لما سئل عن الاستعداد للموت -: (أداء الفرائض، واجتناب المحارم، والاشتمال على المكارم، ثم لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه، والله ما يبالي ابن أبي طالب أوقع على الموت أم وقع الموت عليه) أمالي الصدوق: 97 / 8.
صراع يراود الانسان منذ ولادته حتى مماته، حب الدنيا لذاتها والتعلق بملذاتها الفانية، أم جعل الدنيا ممرا لاعمار الآخرة، يبقى هذا الصراع يراود جسم وروح الانسان، فالجسم بحاجة الى الابنية والقصور ووسائل النقل والاتصالات واشباع لذائذ البطن والفرج، والروح بحاجة الى تهذيب النفس وتزكيتها من الشوائب والادران والموبقات، واذا ما لبى الانسان ما يسعى اليه الجسم بما يرضي الله تعالى ويخدم العباد، فانه لا محالة يكون وجوده ومحضره وجود خير في المجتمع، أما اذا ما لبى رغبات الجسم واهمل رغبات الروح فانه في خسران مبين.
يبقى الانسان المادي متشدقا بالدنيا التي هي أمله الأول والأخير، ويكون الموت بالنسبة اليه نقمة عليه ووبالا على ما قدّمه في حياته من اعمال دنيئة، فالموت نقمة لذلك المتعلق قلبه بالدنيا؛ لأنه نهاية لمشواره العبثي، والانسان الحر باستطاعته ان يجعل نقمة الموت الى نعمة، يصيّر بسلوكه الحسن الموت من شر الى خير، يجعل من الدنيا مزرعة لكي يحصد ثمارها في الآخرة، ذلك الذي يهجر الذنوب، ويقيم على الخيرات، ليلقى ربه وهو في أعلى الدرجات، فالإمام زين العابدين (عليه السلام) - لما سئل عن خير الموت أجاب -: (أن يكون قد فرغ من أبنيته ودوره وقصوره، قيل: وكيف ذلك؟ قال: أن يكون من ذنوبه تائبا، وعلى الخيرات مقيما، يرد على الله حبيبا كريما) بحار الأنوار للمجلسي: ٧١ / ٢٦٧ / ١٧.
ما الفرق بين الذي يستعد للموت وبين الذي لم يستعد؟! الفرق واضح وهو نفسه الفرق بين المؤمن والكافر، بين المصلح والمنافق، بين أهل الخير والطاعة وبين أهل الفسوق والعصيان، الذي يستعد للموت هو الذي يأتي بالواجبات ويتجنب المحرمات، هو الذي يهذّب سلوكه لينعم الآخرين منه خيرا وعطاء ونوالا، الموت بالنسبة الى المؤمن هي الانتقال من محطة ضيقة الى محطة عظيمة لا حدود لها ولا قيود، وهو ليس كذلك للكافر الذي جعل ثقله كله في سلة الدنيا ولم يعر اي أهمية الى الثقل الأكبر وهو الأهم والأجدى لقوم يتفكرون، والذي يجعل رهانه في الدنيا الفانية التي هي بالغدر معروفة وبالبلاء محفوفة وبالغدر معروفة، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نزّالها، أحوالها مختلفة، تاراتها متصرفة، العيش فيها مذموم، والأمان منها معدوم، فان مصيره لا محالة يكون مجهولا وما ينتظره من عواقب تكون لا محالة مهوولة مرعبة مخيفة، والإمام زين العابدين (عليه السلام) يعطينا وصفة للتخلص من تلك الاهوال بقوله: (إنما الاستعداد للموت تجنب الحرام، وبذل الندى والخير) علل الشرائع للصدوق: ٢٣١ / ٥.
الانسان وبما يملك من ارادة باستطاعته تجنب الحرام، باستطاعته تجنب الزنى بالزواج، باستطاعته تجنب الربا بالبيع والشراء، باستطاعته تجنب الاستغراق باللهو واللعب بالطاعة والعبادة، باستطاعته تجنب السياحة المحرمة بالسياحة المحللة، باستطاعته تجنب هدر الأوقات في المقاهي والنوادي الليلية باستثمارها في المساجد والعتبات المقدسة، باستطاعته تجنب الشر والعدوان ببذل الخير والاحسان، وهكذا فانه بتجنب مهلكات الحرام باستطاعته الوصول بسلام الى منجيات الحلال، يصل الى تلك المنجيات بأقل الخسائر وانفع الأرباح، بقلب مطمئن وارادة راسخة وطموح راق، لا يرقى اليها الا العارفون.