كان لاجتماع عدة عوامل الأثر البالغ في تمركز الزعامة الدينية في شخص زعيم كنيسة القسطنطينية والتي ستنتقل الى روما لاحقاً، منها انتصارها في الجدالات المذهبية والتي مرَّ ذكر بعضها، من خلال تأييد كثير من الأساقفة والكُتاب المسيحيين لمواقفها، ومنها مجهودها المميز في إصدار "شهادة إيمان الرسل" والتي صارت مرجعاً في تحديد القراءات المرضية او المهرطقة، ومنها سعيها الدؤوب في اصدار "العهد الجديد" من الكتاب المقدس، كما كان لحث "ايرينايوس" من موقعه في بلاد الغال، للكنائس الغربية، و"سيبريانوسن" في شمال أفريقيا للكنائس الشرقية الأثر المهم في تثبيت مركزية كنيسة القسطنطينية، واعتبارها الكنيسة الرئيسية التي تستمد منها الوحدة الكهنوتية للمسيحية.
وقد دعم البابا "ليو" (440 ــ 461) هذه المركزية بزعمه إن القديس بطرس كان الأول بين الرسل (تلاميذ المسيح)، فإن كنيسة القديس بطرس يجب أن تولى الصدارة بين الكنائس. كما أنه وبمعونة بعض القراءات القديمة للكتب المقدسة ادعى بأن جميع صلاحيات بطرس الشرعية انتقل الى خليفته وهو بابا الكنيسة الكاثوليكية، فتأسست "الخلافة الرسولية".
وقد كان هذا المفهوم قديماً في كلمات "كليمنت الروماني" إلا أنه طبقه على كافة الأساقفة بوصفهم خلفاء للرسل، لكن البابا "ليو" خصه بأسقف كنيسة بطرس، باعتباره الأول من بين الرسل، فخليفته يكون الأول من بين الأساقفة.
وقد أثمرت دعوة البابا ليو عند سقوط روما على ايدي القوط الجرمانيين، ورغم أنهم من الطائفة الأريوسية التي حكمت عليها الكنيسة الكاثوليكية بالهرطقة، إلا أنهم أبدوا احتراماً للكنائس، فلم ينالها النهب والتخريب كما نال باقي المدينة.
نشوء الرهبانية
كان لظهور مذاهب باطنية كالغنوصية والمريقونية المتقدم ذكرهما في الجزء السابق أثر كبير في نشوء ظاهرة "الرهبانية"، والتي تدعو للزهد والعزلة الاجتماعية، كما كان لكلمات بطرس المنقولة في الأناجيل، والتي تفيد بأن الأفضل للمؤمنين والمؤمنات اختيار البتولية والامتناع عن ممارسة الفعل الجنسي، ومن وجهة نظر إسلامية، فهناك بعض النصوص تشير الى أن ظهورها في العالم المسيحي نتيجة انتكاسات عسكرية للمؤمنين، دعت البعض منهم للانزواء بعيداً وانتظار ظهور نبي آخر الزمان محمد صلى الله عليه واله، حيث نقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لابن مسعود: «هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانية؟ فقلت: الله ورسوله أعلم. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله، فغضبت أهل الإيمان فقاتلوهم، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات، فلم يبق منهم إلا القليل، فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه، فتعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى (عليه السلام) (يعنون محمدا) – فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية، فمنهم من تمسك بدينه، ومنهم من كفر.
ثم قال: أتدري ما رهبانية أمتي؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة».
وهذا قريب جداً، ففي بداية القرن الثالث حكم الإمبراطور الروماني "ديسيوس" من عام 249 إلى 251، وكان معروفاً بمناهضته وعداءه الشديد لأتباع السيد المسيح عليه السلام.
كما أن الخبر المروي لا يتنافى مع ما ذهب اليه بعض المؤرخين من ظهور الرهبانية في بداية القرن الثالث على يد أول ممثليها "إنطونيوس الكبير" من مدينة كورما في مصر، والذي فشل في ممارسة الزهد داخل قريته، فذهب بعيداً الى عزلة الصحراء، وقد تبعه جماعة على ذلك، فصارت مصر مليئة بهؤلاء المنعزلين، وكانوا يتمتعون باحترام المجتمع.
فالتاريخان متقاربان جداً، ويمكن أن يتعدد السبب والغاية من الرهبنة.
إلا أن أغلب هؤلاء كانوا يصابون بالجنون، لفقدان المرشد والمعلم، فقام "باخميوس" وهو من جنوب مصر بتنظيم حياة النساك بصورة جماعية، من خلال إنشاء أديرة للرهبان، تحت أنظار رئيس الدير، وتحت قاعدة العمل والتأمل المتوازنين.
انتشرت الرهبانية في سوريا وتركيا، فعاش بعضهم في المغارات والأماكن الصحراوية، وعاش آخرون على قمم الأعمدة المنصوبة في المدن المهدمة، "كسمعان العمودي"، بينما عاش بعضهم على قمم الأشجار وسموهم "الشجرانية"، وكانوا يحصلون على طعامهم من خلال صدقات الناس التي ترمى اليهم. إلا ان الرهبانية الجماعية ضمن الأديرة كانت أكثر تنظيماً، واكتسبت تنظيماً أكثر على يد "باسيل" مطران مدينة قيصرية في تركيا، فكان يُحضر الشراب القوي وقراءة كتب غير مسيحية، او مخالفة للقانون الكنسي، وضرورة تقيد الخدمة للفقراء والمساكين.
وما تقدم كان في الشرق، وأما الغرب فكان ظهور الرهبانية فيه متأخراً عن نظيرتها الشرقية، فلم تنتشر إلا بعد الغزوات الجرمانية التي غيرت الكثير في المجتمعات المسيحية، فانتشرت الرهبنة في أغلب الأديرة، وكان بعضها متراخياً بصورة كبيرة، حتى ظهرت في القرن السابع "منظمة القديس بندكتوس" التي أوجبت على أتباعها حياة مليئة بالعمل اليدوي في الحقول، والتعلم الصارم، والعبادة الطويلة.
موقف الإسلام من الرهبانية
تناول القرآن الكريم الرهبانية في عدة آيات كريمات، منها قوله تعالى: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)، الحديد: 27. وتشير الآية الى أن الرهبانية في الأصل لم تكن تشريعاً إلهياً، وإنما ممارسة لجأ لها البعض بنوايا ودوافع سليمة وصالحة، إلا أنها تلوثت بسلوكيات حرفتها عن مقاصدها، ولم تتم رعايتها وحفظها، مما جعل أكثر معتنقيها فاسقين.
فالرهبانية وإن كانت تسعى للزهد والابتعاد عن الملذات تقرباً الى الله تعالى، لكن طريقتها جرت الى انعزال وسلبية بالتعاطي مع مشاكل المجتمع، وأي فضيلة في هروب الإنسان وانزواءه تجاه التحديات الأخلاقية والسلوكية التي تعترضه، فتكامل الانسان روحياً يعتمد على ضبط سلوكه تجاه المغريات، الأمر الذي تقوى معه ملكة الطاعة والتسليم لأمر الله تعالى، فالتقوى وهي ملكة الخشية والخوف من الله تعالى لا تتحقق من دون ممارسة الانصياع لأوامره تعالى وتجنب نواهيه، والانزواء والابتعاد لا يغذي نماء هذه القوة النفسية في الإنسان، كما أن مخالفة الطبيعة البشرية بترك التزويج من شأنه أن يكون منشئاً للعديد من الرذائل الأخلاقية، وهذا ما حصل بسبب الرهبنة، ومع هذه الحالة فإن التأريخ يذكر لنا فضائح عديدة من الأديرة إلى حد أن وصفها (ويل دورانت) بأنها بيوت للفحشاء والدعارة، ومراكز لتجمع عباد البطون وطلاب الدنيا واللاهين، بحيث أن أفضل المشروبات كانت توجد في الأديرة. أنظر قصة الحضارة، ج 13، ص 443.
يكفيك ما نسمعه بين الفينة والأخرى من فضائح جنسية قديمة ومعاصرة يرتكبها القساوسة والرهبان ضد الأطفال في الكنائس والدير.
من هنا كان موقف الإسلام رافضاً لهذا النوع من الرهبنة، فنقرأ في قصة "عثمان بن مظعون" في موت ولده أنه لم يعد يخرج للعمل حزنا عليه، وانشغل في العبادة وترك كل عمل سواها وجعل من بيته مسجدا...
فعندما وصل خبره للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أحضره وقال له: «يا عثمان، إن الله تبارك وتعالى لم يكتب علينا الرهبانية، إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله». بحار الأنوار، ج 70، ص 114 باب النهي عن الرهبانية، حديث 1.
وذلك إشارة إلى أن الإعراض عن الحياة المادية والانزواء الاجتماعي، وتعطيل الأعمال بصورة سلبية، يجب أن يصب في مسير إيجابي، وذلك بالجهاد في سبيل الله. ثم أن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) بين له بعض فضائل صلاة الجماعة، والتي هي تأكيد على نفي الرهبانية في الشرع الإسلامي.
القديس أوغسطين
لا يهمنا من تاريخ أوغسطين إلا ما أحدثه من قراءة جديدة في بعض مفاصل المسيحية، كان لمروره بعدة تجارب من إفلاطونية محدثة الى المانوية ثم المسيحية أثرها المهم فيها، وقد استطاع أن يوظف خبرته الصوفية وفلسفته الإفلاطونية المحدثة في اعطاء الثالوث المسيحي مفهوماً جديداً، ففي الوقت الذي كان يرى اللاهوتيون السابقون أن الأقانيم الثلاثة (الأب والأبن والروح القدس)، هي ذوات مستقلة، وأن الأب مقدم على الأبن والروح والقدس، وأن الروح القدس لا يصدر إلا من الأب، ذهب أوغسطين الى مساواتها وعدم تقدم بعضها على بعض، وقد كتب: توجد في ذلك الثالوث مساواة كبيرة جداً، وليس الأب أعظم من الأبن من حيث الألوهة، بل ليس الأب والأبن أعظم من الروح القدس.
كما خالفهم في احصار صدور الروح القدس من الأب فقط، فذهب الى صدوره من الأبن ايضاً، فيقول: «فإنه لا ينبعث من الأب وحسب، بل كذلك من الأبن».
إلا أن الرأي الخطير الذي أبدعه أوغسطين، كان في تكييف الثالوث المسيحي مع الفلسفة الإفلاطونية المحدثة، فيذهب الى أن الأقانيم الثلاثة ليست إلا وجوه لحقيقة واحدة، لا انها ذوات مستقلة كما يذهب السابقون.
وعليه فاتحاد الأب والأبن والروح من قبيل اتحاد العاشق والمعشوق والعشق، فهي حقيقة واحدة، ننتزع منها مفهوماً واحداً من المفاهيم الثلاثة إذا نظرنا اليها من زاوية معينة، أو كاتحاد التذكر والفهم والإرادة، فعنده هي مفاهيم ثلاثة تحكي عن حقيقة واحدة، فيقول: «إذن ما دامت هذه الأمور الثلاثة وهي التذكر والفهم والإرادة ليست ثلاث حيوات، بل حياة واحدة، ولا ثلاثة عقول بل عقل واحد، فحتماً يترتب على ذلك أنها ليست ثلاثة جواهر بل جوهر واحد».
وأما نظرته للإنسان فقد كانت مختلفة ايضاً عن أسلافه، فكان يعتقد ـ بتأثير من تجاربه وضعفه تجاه رغباته الجنسية في شبابه ـ أن الإنسان فاسد في ذاته، وأنه لا ينجو من هذا الفساد بجهوده الشخصية، بل يتوقف إنقاذه على أن يناله الله برحمته، وهذه هي (محبة الله)، وهذه المحبة (الرحمة) لا ينالها العبد إلا إذا كرس نفسه للعبادة، وهي ما يسميه (مثابرة القديسين)، ومن دونها يبقى الإنسان محكوماً باللعنة والطرد من ساحة رحمته.
ووفقاً لأوغسطين أن الكنيسة هي المؤسسة الوحيدة والمعينة من قبل الله تعالى في بيان المناسك المقدسة التي تجلب محبته، ولا توجد إلا كنيسة واحدة، ولا أحد خارجها يمكن أن ينجو.
انقسام الكنيسة
كان لظهور الإسلام واتساع رقعة دولتهم دوراً بارزاً في ضعف الإمبراطورية الرومانية، ففي الوقت الذي كانت تواجه خطراً من غزوات البرابرة في الشمال، استطاع المسلمون فتح سورية وفلسطين وآسيا الصغرى وشمال افريقيا وأسبانيا، ولولا دفاعات شارل مارتل في فرنسا لفتح المسلمون كامل أوربا.
وفي محاولته رص الصفوف الرومانية لمواجهة المسلمين استجاب الامبراطور "ليو الثالث" لمطالب بعض الفئات المسيحية فيما يتعلق بالإجلال الوثني للتماثيل والرسوم في الكنائس، فأمر سنة 726 بحظر استخدامها، مما أثار حفيظة وغضب البابا "غريغوريوس الثاني" في روما، ورد عليه بالدعوة لمجلس كنسي يحرم فيه تحطيم التماثيل والصور، مما دعى الامبراطور لانتزاع صقلية وجنوب شرق إيطاليا من سلطة البابا، الأمر الذي جعل دولة البابا مكشوفة أمام الغزاة، فاستنجد البابا بشارل مارتل، إلا أن وفاته منعته من النصرة، وقد قام بالمهمة أبنه "بيبان القصير" الذي أخضع البرابرة في الشمال، وفتح أبواب أوربا الغربية لمد نفوذ الكنيسة عبر جبال الألب.
من بعد "بيبان القصير" أقام ولده "شارلمان" دولة مترامية الأطراف تشمل كل دول أوربا الغربية (فرنسا واسبانيا وبلجيكا وهولندا وألمانيا والنمسا وهنغاريا وإيطاليا)، وقد اضطر "ليو الثالث" اضطر لتتويج شارلمان في عيد الميلاد عام 800 باعتباره الامبراطور الروماني المقدس، والذي يعني عملياً انقسام الإمبراطورية الى امبراطوريتين شرقية وغربية.
لم تكن مسألة التماثيل والصور هي الخلاف الفكري الوحيد بين كنيسة القسطنطينية وكنيسة روما، فقد أدى تأثر كنيسة روما بآراء أوغسطين المتقدمة الى إضافة كلمة (ومن الأبن) في شهادة الايمان مباشرة بعد الكلمات التي تقول إن الروح القدس ينبعث من الأب، فبحسب أوغسطين ـ كما تقدم ـ ينبعث الروح من الأبن كما ينبعث من الأب، وهذا ما رفضته الكنيسة الشرقية، فأقامت مجمع كنسي عام 876 في القسطنطينية باستنكار ما أضافه البابا لشهادة الايمان، والذي زاد الطين بله والهوة بين الكنيستين ما حدث سنة 1054 عندما قامت كنيسة روما بحرمان بطريرك كنيسة القسطنطينية فرد عليها بالمقابل بصب اللعنات.
ومن ذلك الحين سار فرعا الكنيسة الكاثوليكية في طريقهما منفصلين، مع الحفاظ على نحو من الوحدة الشكلية، والتي انتفت ايضاً بعد ما يسمى بـ"الجمعة العظيمة" سنة 1204، عندما استباح الجيش المسيحي الذاهب للحروب الصليبية في طريقه مدينة القسطنطينية، ونهبوها بصورة لا تغتفر، فصارت القطيعة نهائية وتامة.
الكنيسة في العصور الوسطى (الفترة الذهبية)
استمرت سلطة بابا الكنيسة بالتوسع حتى زاحمت أكبر ملوك أوربا، ولم يتوقف الصدام بينهما إلا على ظهور شخصيتين متطرفتين، وهذا ما حصل عندما اتلى البابوية غريغوريوس السابع سنة 1073، واعتلى عرش ألمانيا هنري الرابع، فقد أمر البابا هنري الرابع بعدم تسليم الأساقفة صوالجة مناصبهم بنفسه، وأن هذا الأمر من الصلاحيات الحصرية للبابا، ليرد الامبراطور بعد عقد مجلس مع أشرافه وأساقفته برفض سلطة البابا، ليتلقى صفعة مدوية بإعلان الكنيسة من حرمان هنري الرابع ويُحل رعاياه في المانيا وإيطاليا من الولاء له. الأمر الذي أضطر النبلاء على إجباره للتنازل للبابا، وأمهلوه سنة للتخلص من الحرمان الكنسي، وإلا يُخلع من العرش.
وفي وسط الشتاء عبر هنري جبال الألب بمشقة كبيرة متوجهاً الى قصر البابا في "كاسوكا"، حتى وقف وسط ساحة القصر في الثلج ثلاثة أيام حافياً ومرتدياً ثوباً أبيضاً، طالباً التوبة، ليسمح البابا بلقائه بعد أن ثأر لنفسه، وأعتقه من الحرمان الكنسي.
لم ينس هنري ما فعله البابا به، فاستدرجه لخلاف جديد، أدى الى حرمان هنري من الكنيسة مرة أخرى، ليزحف الى روما ويطرد البابا منها وينصب بديلاً عنه.
بعد مائة سنة وصلت البابوية لذروة مجدها بوصول البابا "إينوسنت الثالث" (1193 ـ 1216)، والذي قام بتنصيب "أوتو الثالث" امبراطوراً على المانيا في الوقت الذي كانت فيه ممزقة، والعديد يطالب بعرشها، ووضع جميع فرنسا تحت "الحَجر الكنسي" أي بطلان جميع الطقوس الدينية وتحريمها، عندما قرر ملكها طلاق زوجته، ليستسلم الملك لأوامر الكنيسة تحت الضغط الشعبي، وعندما حاول ملك إنكلترا وشقيق "ريتشارد قلب الأسد" "جون" فرض مرشحه لمنصب رئيس الأساقفة وضع جميع إنكلترا تحت "الحَجر الكنسي" وعندما قاومه الملك حرمه من العرش، وأعلن منصبه شاغراً، وجهز حملة عسكرية لتأديبه، ليستسلم "جون" ويُعلن إنكلترا اقطاعية للبابوية يستحق البابا منها ألف مارك سنوياً على نحو الضريبة الأقطاعية. فبرهن البابا "إينوسنت الثالث" أن يستطيع تنصيب وخلع ما شاء من الملوك.
توما الأكويني
أدى سقوط الاندلس وانتشار اليهود في أورباً، لظهور عملية ترجمة نشطة لكتابات العرب والمسلمين، والمشتملة على العديد من الأدلة الفلسفية على العقائد الدينية، الأمر الذي مكّن البعض من فهم العديد من المتون الفلسفية اليونانية وخصوصاً فلسفة أرسطو، نخص بالذكر "توما الأكويني" والذي سعى جاهداً للتوفيق بين العقل والوحي، وأن يقارب بين المسيح وأرسطو، فأثبت بأن العقل وحده يكفي في إثبات أصول العقيدة، ومع هذا فهو يحتاج الى الوحي لبيان تفاصيلها، وهكذا فالإيمان القائم على الوحي يتجاوز قدرة العقل، لكن لا يمكنه الاستغناء عنه، فيجب أن لا يقبل الإيمان ما يخالف العقل.
اكتست المسيحية على يدي الأكويني ثوباً جديداً يتسم بالعقلانية، فغدت كتبه "مصنف ضد الأمميين والمصنف اللاهوتي" كتباّ قيمة ومرشدة لكنيسة الروم الكاثوليك، ومنهجاً للتدريس.
ومن مخرجات لاهوته وتطبيقه على فلسفة أرسطو "المشائية" قوله بأن الإنسان جسد وروح وبتعبير فلسفي "مادة وصورة" لا يستطيع أحدهما أن يحيى بدون الآخر، فلا يستطيع الجسد "المادة" الحياة بدون الروح، ولا تستطيع الروح الاستكمال والخروج من القوة الى الفعل إلا من خلال اتحادها بالجسد، ومن هنا يأتي التأكيد المسيحي على انبعاث الجسد.
كما أنه طبق نظرية ارسطو "اتحاد المادة والصورة" على الطقوس الدينية المسيحية، خصوصاً اعتقادهم بأن تناول الخبز والخمر في القداس يحيل جسد المسيحي الى جسد إلهي باتحاده بجسد المسيح اعتماداً على نص من الكتاب المقدس يقول: "وفيما هم يأكلون، أخذ يسوع الخبز وبارك، وكسر وأعطى التلاميذ وقال: «خذوا، كلوا. هذا هو جسدي»." (متى 26: 26)
يتكرر هذا النص بشكل مشابه في الأناجيل الأخرى، مثل إنجيل مرقس (14: 22-24) وإنجيل لوقا (22: 19-20)، وأيضًا في رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس (11: 23-25). هذا الحدث معروف باسم "العشاء الأخير" أو "القداس" في التقاليد المسيحية، ويمثل تأسيس سر القربان المقدس.
ففي كل منسك عنصران، مادي (ماء، خبز، خمر، زيت)، وصوري (الهيئة الخاصة للطقس)، وباتحادهما يحصل الأثر (النعمة)، وبحضور الفاعل (العنصر الإلهي)، والمنفعل (الإنسان)، واجتماع الشروط الخاصة تنتقل النعمة الفائقة للطبيعة من العنصر الإلهي الى الإنسان، فيتحد مع الإله!!