أول ما أدركتُ من الكتب ملمسها ورائحتها، كتب عتيقة ينعقد بعضها فوق بعضٍ وينمو فوقها الغبار في صندوق ضخم، لكنّها مليئة بالأسرار. تلك التي كانت لدينا في المنزل ليست كتبًا أدبية، بل كتبًا للصلوات، وكتابَ طبخٍ (للسيدة بيتون) وكتيبات إرشادات للتعامل مع الخيول. لم توجد في قريتنا مكتبة عامة، ورغم ذلك فإنني وقعتُ في حب الكتابة قبل أن أعرفها؛ حب ما قبل الحُب لو أردت قول ذلك. أما أمي الفنانة، فأظن، من وجهة نظرها، أنها لا تُحب الكتب، ولا سيّما كتب الخيال، ظنت أنها نتاج خطيئة مُتحوِّرة. يبدو وكأنَّها قرأت مناجاة مولي بلوم في يوليسيس في وقتٍ ماضٍ، وما زالت تترنّح وتعاني لما احتوته من فجورٍ.
لا أستطيع تذكر أوَّل كتاب قرأته، مهما بذلتُ من جهدٍ، لكنني أعلم أنني في العاشرة أو الحادية عشرة قرأت صفحة عشوائية من «ريبيكا» التي كتبها دافني دو مورييه. احتُفظ بنسخة منها محمية في قريتنا، بلا شك من احتفظت بها زوج أنهكها الحُب أو عانس، وكنت تُعار بالصفحة لأنَّ الجميع ظل يتحاشى قراءة قصة حُبٍ مُدمِّرة، ولأنَّ الجميع وجد نفسه فيها. في أحلامي وقت الصبا، صار الحُبّ الذي يحول دون استمراره القدرُ هو نبض الحياة، خاطرٌ لم أتخلَّ عنه قط. يا له من طريق طول قطعته حتى عثرتُ على أدب تشيخوف، خيال مُشرَّب وغارق في الحقيقة حتّى إنَّه لا يخلو عن كونِه نَفسًا زفرته الطبيعة.
أول كتاب كنزته على الإطلاق هو كتاب من قماشٍ، ربما كتاب أطفال، وعلى الرغم من أن لا ذكرى لديّ عن القصة، ما أزال أراه شيئًا مقدسًا، أقرب إلى دينٍ، يُذكرني قماش الكتاب بقماش القلادة التي تُعلّق على الكتفين ونرتديها أسفل الثوب وتحوي أثرًا من القديسين. أدمنتُ الكلمات أكثر من الصُّور. كانت الكلمات طلسميّة الأثر، تتبدل هيئتها ومظهرها، تُحيل الأشياء أمورًا أشد وضوحًا، وفي الوقت نفسه هي أشد تعقيدًا. الكلمات للعقل والعاطفة كمصارف المياه في السدود. القراءة كما عهدتها، وكما تزال الآن، ليست متعة، بل شيئًا له عمق سحيق، مَسًّا رقيقًا يصحبه رعب. دارت الأساطير في بلدي عن الغزو والمعارك والأفعال البربرية والخيانة بلغة جميلة ما ورائية؛ قصة فرسان الفرع الأحمر، ومراثي كورك ونيال وخدع المئة معركة، وجنون سويني في الأدغال، الأغنية الحلوة لديار مويد وجرين وموريجان، إلهة الحرب، تُمجد سفك الدماء:
آن للغربان أن تقطع
أعناق الرجال
آن للدماء أن تنهمر
في حربٍ جامحة وقتال
آن للجلود أن تُسلخ
لرغبةٍ محمومة في نيل الغنائم
آن لأجساد الرّجال
في معركة باسلة أن تُشق جوانبهم
إلى إيرن ابن ويل
إلى ألستر ابن ويل.
أمَّا نقيض ذلك، فلغة كتب الصلوات تجاور رقة الشعور، التسبيح للمسيح الزاهد، الذي كان رجلًا فانيًا كذلك، رجلًا فانيًا سالت دماؤه على الصليب من أجلنا. الدين والأدب نسيج لا ينفصل. لذا في سن الرابعة عشر كان من المُريح والمهدئ في الآن ذاته أن أصل إلى الروايات الرومانسية القصيرة المبتذلة، والقصص الفوّارة بالعاطفة، على سبيل المثال، قصص للآنسة آني ب. سميثسون؛ أقاصيص الحُب الفاسد والفرار والاختلاس وأشياء من هذا القبيل. كانت "ابنة اللورد أولين" لتوماس كامبل، و"لوسي جراي، أو "العزلة" لوردزورث، و"سيدة شالوت" لتينيسون بطلات متعاقبات يمكن لفتاة أن تجد نفسها فيهن. ومما لا شك فيه أن السيد هيثكليف والسيد روشستر الصارم الأنيق بطلا أحلام هذه الفتاة. استبدل بيتر أبيلارد في مراهقتي، بهذين النبيلين، سحرًا مَرَضِيًّا محمومًا تجاه شخصية دراكولا. ليست مُصادفة أنَّ مؤلف تلك القصة، برام ستوكر، أيرلندي ينقل هوس أبناء وطنه الخفيّ بعَرْض نَفْسِيّة كُونت في منطقة البلطيق.
أعظم اكتشاف في حياتي في القراءة في سن السابعة عشرة ظهيرة يَوم أَحدٍ في متجر للأدوية في دبلن، المكان الذي عملتُ، أو لأكون دقيقة، كدحتُ فيه لمدة اثنتي عشرة ساعة يوميًّا. تلقيتُ مكافأة أسبوعية قدرها سبعة شلنات وستة بنسات، كنتُ أتضور الكتب جوعًا، وعلى الرغم من أنني لم أشعر بجوعٍ مماثل تجاه الطعام وشراء الزينة، فإنني اقتطعتُ جزءًا صغيرًا من هذا الراتب الكبير لشراء كتاب مستعمل أسبوعيًّا. من مكتبة جورج ويب على رصيف دبلن، اشتريتُ كتابًا صغيرًا بأربعة بنسات عنوانه مدخل إلى جيمس جويس بقلم تي. إس. إليوت. خيّم هدوء في تلك الظهيرة على متجر الأدوية وأنا أقرأ أول بضع صفحات من رواية لوحة للفنان في شبابه، أحسستُ بنفسي أنتقل إلى منزل عائلة ديدالوس، أتناول عشاء عيد الميلاد، وأرى لهب البراندي على بودنج البرقوق، وأرتجف من حدة الجدل حول الزاني الوطني تشارلز ستيوارت بارنيل. يا لها من نعمة، على الأرجح صحيح هو القول بإن جويس في عيني كل كاتب أيرلندي طموح هو سيد الكلمات، وأبوها، وابنها، وروحها المقدسة، على أنني أقول إن ذلك المُنشق صاحب الإلهام والبصيرة النافذة، السيد بيكيت، له نصيبٌ من هذه الروُحانيات بقدر ما يحمل من الذخيرة الأدبية.
ذات مرة سألت السيد بيكيت عن كاتبه المفضل، أجاب بمسحة من العصبية أن هذا الأمر لا وجود له. أما أنا، فأرى أن له وجودًا، وكاتبي المفضل هو تشيخوف. تسري قصصه فيَّ مجرى الدم، مصائر شخصياته حيَّة في ذاكرتي وكأنها أحداثُ في حياتي التي أعيشها. هربتُ من متجر الأدوية وانتقلتُ إلى منتجع روحاني في البلد حيثُ أحظى بوقت فراغ وفرصة للقراءة. بعد قراءة قصة لتشيخوف بعنوان: "العروس" عن امرأة أحبت أولًا زوجًا، ثم آخر، فآخر، لكنها في النهاية جمعت كل أشواقها ووجهتها إلى صبي يُدعى ساشا، أسميتُ ابني ساشا. لكن حب تشيخوف هو شيء يسمو عن مُجرد عاطفة تجاه اسمٍ، بل هو واجبٌ إنسانيّ وجماليّ. الكتابة الجيدة تحفر عميقًا، أو ينبغي لها أن تحفر عميقًا في بئر إنسانيتنا. بل إن جويس، شبيه ويليام تيل فكريًّا، يرى أن هذا هو حق الامتياز الأوَّل المقتصر على الأدب، ولأن له طابعًا إنسانيًّا فإنه يُجلُّ قصة الأدويسة أكثر من أيّ شيء آخر. على الهامش: وجد في دانتي قدرًا من الملل، وقال إن قراءة أعمال دانتي كالنظر إلى الشمس مدة طويلة.
أَعظِم بالقراءة ليس لقضاء ساعة حول نارٍ أو في قطارٍ، بل للتأثير التراكميّ في العقل من لحظات في كتب، أو إثارة باقية، أو الطريقة التي تندمج بها الشخصيات في وعينا فتهمس لنا بعد مرور وقت يسير على قراءة القصة. من اللحظات الكثيرة المحفورة في ذاكرتي أسترجع شخصية الكونت الغيور في رواية نانا لزولا، لم يكن مُخلصًا قط طوال حياته، ساورته الشكوك في خيانة زوجته، فيقف خارج شرفة خليلته طوال الليل، يُراقب ظلًا أو ظلين، ثم يدركه التعب من كثرة السهاد فيخرّ نائمًا؛ اللحظة الباقية منذ الطفولة عندما ينتظر الصغير مارسيل بروست قبلة من أمه، القبلة التي سيتبرأ منها؛ الفرحة المُهلكة في نَفْس ياجو عندما يزرع أولى بذور الشك في عُطيل ويتكهن أنه ما من عقّار، "ولا شراب النُعاس من الماندراجورا الحلوة" بقادرٍ على أن يجعله ينام؛ بيكي شارب في رواية دار الغرور تؤكد براءتها باحتجاج عندما داهمها زوجها وهي مع اللورد ستاين في غرفة الرّسم في شارع كرزون؛ إيما بوفاري ورداؤها الأزرق والجرار الحمراء في نافذة متجر بيع العطور والعقاقير، والقربان السُم الذي ستحقق به موتها الذي تمنته؛ آنا كارنينا تغضب من شكواها، الحقيبة الحمراء الصغيرة فوق ذراعها، قياس المسافة بين العجلات الأمامية والخلفية للقطار قبل أن تقفز؛ لحظات قاسية كلها، لكن الأدب يتسع في دقة وصفه للأحزان والأسى ويضنُ على البهجة والفرح. بقدر ما أحب الكتابة حبًا جمًا، أحب الكُتّاب، المخلوقات عليلة العقل التي تسمح لنا بدخول عوالمها السحرية الملتوية التي سَمْتُها التيه.
لا يسعني أن أختتم المقال دون أن أقتبس من بطاقة التاريخ المحلي عبارة تقول إن وفاة إيميلي برونتي في سن الثلاثين "من المحتمل أن ما عَجَّل به هو فشل مرتفعات وذرينج ووفاة شقيقها برانويل"، لكن، كما يقولون في أيرلندا: لقد ماتت، لكن لم تَفِض روحها.