لكي تنثبت من الحقائق ، ونرفض كل ما يشيعه المغرضون حول عقيدة الشيعة ، ونشوئها في الاسلام ، يلزمنا ـ في هذا الحال ـ الرجوع الى عهود بعيدة ، مضت عليها قرون متعاقبة .
ولكن ، حينما يتحد المضمون ، تتلاشى عنده كل المواقيت ، وكل مؤشرات القرب والبعد ، فهو لا يتغير ، ولا يتبدل ، ولا يخضع لأي ضوابط ، زمانية كانت أو غيرها .
المضمون بالنسبة لنا واحد ، ألا وهو « الاسلام » فهو في كياننا اليوم ، كما كان بالأمس ، وكما كان قبل قرون ، وكما يكون غداً ، لا يتغير ولا يتبدل .
والتشيع بالنسبة لنا ، هو من صميم ذلك المضمون . ليس طارئا ، وليس جديداً على الاسلام ، بل هو أصل من أصوله ، دعا اليه رسول الله (ص) ، كما دعا الى بقية أركان الدين .
فليس التشيع ، سوى حب أهل البيت عليهم السلام ، ومودتهم ، والتمسك بهم . وموالاة علي عليه السلام بعد رسول الله (ص) وأخذ معالم الدين من معدنه .
قال تعالى : « قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ » « ٤۲ ـ ۲۳ » هذا هو التشيع ببساطة .
قال الأزهري : الشيعة ، هم الذين يهوون عترة النبي (ص) ، ويوالونهم (۱) .
وقد نشأ التشيع لعلي ( عليه السلام ) في عهد الرسول الله (ص) الذي أوصى المسلمين في مواطن كثيرة ، بالتمسك بأهل البيت ( عليه السلام ) كما دعاهم الى ولاء علي (ع) ونصَّ على ذلك في حجة الوداع الاخيرة . حيث جاء في خطبته (ص) :
معاشر المسلمين ، ألست أولى بكم من أنفسكم ؟
قالوا : اللهم بلى .
قال : « من كنت مولاه ، فهذا علي مولاه ، اللهم والِ من والاه ، وعادِ من عاداه وانصر من نصره ، واخذل من خذله » .
وقد روي هذا الحديث بطرق مختلفة ، وألفاظ متغايرة ، بمضمون واحد .
فقد رواه من الصحابة اكثر من مائة وعشرة صحابياً . ومن التابعين أربعة وثمانون تابعياً ، ورواه من العلماء ، ثلاثمائة وستون عالماً (۲) عدا من ألَّف فيه .
وهذا الحديث هو المسمى بحديث الغدير ، نسبة لغدير خُمّ . وقد تمسك به الشيعة الإمامية كدليل هام في إثبات الخلافة لعلي عليه السلام بعد رسول الله (ص) ، بالاضافة الى الأدلة الاخرى الكثيرة ، التي سنذكرها فيما بعد .
وعرف من الشيعة في عهد رسول الله (ص) جماعة ، منهم أبو ذر رضي الله عنه . .
قال أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني : « إن لفظ الشيعة على عهد رسول الله (ص) كان لقب أربعة من الصحابة ، سلمان الفارسي ، وأبي ذر الغفاري ، والمقداد بن الأسود الكندي وعمار بن ياسر (۳) الى آخره .
من جهة أخرى ، فقد ورد لفظ الشيعة ( شيعة علي (ع) ) على لسان النبي (ص) في عدة مناسبات . وما علينا الآن إلا أن نعرض بعض الاحاديث النبوية الشريفة المتضمنة لذلك .
۱ ـ عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : « كنا عند النبي (ص) فأقبل علي بن أبي طالب ، فقال رسول الله ( ص ) : قد أتاكم أخي !
قال جابر : ثم التفت رسول الله (ص) الى الكعبة ، فضربها بيده ، ثم قال : والذي نفسي بيده ، إن هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة . . ثم قال : إنه أولكم إيماناً معي ، وأوفاكم بعهد الله تعالى ، وأقومكم بأمر الله ، وأعدلكم في الرعية ، وأقسمكم بالسوية ، واعظمكم عند الله مزيِّة .
قال : ونزلت فيه « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ » .
قال : وكان أصحاب محمد (ص) اذا أقبل عليهم علي عليه السلام ، قالوا : قد جاء خير البرية » (٤) .
۲ ـ أخرج الحافظ جمال الدين الذرندي ، عن ابن عباس رضي الله عنهما . « ان هذه الآية لما نزلت ، قال (ص) لعلي : هم أنت وشيعتك ، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين . . (٥) الخ .
۳ ـ أخرج أحمد في المناقب أنه ( ص ) قال لعلي ( ع ) : أما ترضى أنك معي في الجنة والحسن والحسين ، وذريتنا خلف ظهورنا ، وأزواجنا خلف ذريتنا ، وشيعتنا عن ايماننا وشمائلنا . »
٤ ـ واخرج الديلمي : يا علي ان الله عز وجل قد غفر لك ، ولذريتك ، ولولدك ، ولأهلك ولشيعتك ، ولمحبي شيعتك .
٥ ـ وأخرج الطبراني عن علي (ع) قال : يا علي ستقدم على الله وشيعتك راضين مرضيين ، ويقدم عليه أعداؤك غضابا مُقمَحين (٦) . .
٦ ـ وأخرج ابن مردويه ، عن علي عليه السلام قال : قال لي رسول الله ( ص ) ألم تسمع قول الله : « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ » هم انت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض ، اذا جائت الامم للحساب ، تدعون غُرَّاً محجلين .
۷ ـ وفي النهاية ( لإبن الاثير ـ مادة قمح ) : وفي حديث علي (ع) قال له النبي (ص) : ستقدم على الله أنت وشيعتك راضين مرضيين ، ويقدم عليه عدوك غضاباً مقمحين . ثم جمع يده الى عنقه يريهم كيف الإقماح .
۸ ـ عن ربيع الأبرار ، يروى عن رسول الله ( ص ) أنه قال : يا علي ، اذا كان يوم القيامة ، أخذتُ بحُجزة الله تعالى ، وأخذت أنت بحُجزتي وأخذ ولدك بحجزتك ، وأخذ شيعة ولدك بحجزهم . فتُرى أين يؤمر بنا ؟ (۷)
وأما الأحاديث الأخرى التي تدعو المسلمين الى التمسك بعلي ( عليه السلام ) وأهل البيت الطاهر فان استقصاءها وذكرها يحتاج الى وضع مجلد ضخم . لكننا نذكر بعضاً منها هنا ، لأجل التبرك بها من جهة ، ولاطلاع القاریء الكريم على مدى ما تحمل من أهمية ، من جهة أخرى .
۱ ـ روى الجويني بسنده عن ابن عباس (رض) قال : قال رسول الله (ص) :
من سره أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن غرسها ربي ، فليوال علياً من بعدي ، وليقتدِ بالأئمة من بعدي ، فانهم عترتي ، خلقوا من طينتي ، ورزقوا فهماً وعلماً ، ويل للمكذبين بفضلهم من أمتي ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم الله شفاعتي (۸).
۲ ـ وعن أنس بن مالك قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا أنس ، أسكب لي وضوءاً ( قال : ) ثم قام فصلى ركعتين ثم قال : يا أنس ، أول من يدخل عليك من هذا الباب ، أمير المؤمنين ( وسيد المسلمين ) وقائد الغر المحجلين ، وخاتم الوصيين .
قال أنس : قلت : اللهم اجعله رجلا من الانصار ـ وكتمته ـ اذ جاء علي صلوات الله عليه ، فقال : من هذا يا أنس ؟ فقلت : علي . فقام ( ص ) مستبشراً ، فاعتنقه ثم جعل يمسح عرق وجهه بوجهه ، ويمسح عرق وجه علي بوجهه .
فقال علي عليه السلام : يا رسول الله ، لقد رأيتك صنعت شيئا ، ما صنعت بي من قبل ؟
قال (ص) : وما يمنعني ، وأنت تؤدي عني ، وتسمعهم صوتي ، وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي .
۳ ـ وعن ابي ذر الغفاري ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أنا خاتم الأنبياء ، وأنت يا علي خاتم الأوصياء الى يوم الدين .
ولفظ أبي ذر : أنا خاتم النبيين ، كذلك علي خاتم الأوصياء الى يوم الدين .
٤ ـ وعن جابر بن عبد الله ( الأنصاري ) قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي . ( هذا الحديث رواه الجويني بعدة طرق ، وهو حديث مشهور وهو المسمى بحديث ( المنزلة ) . ورواه مسلم في صحيحه عن سعد بن ابي وقاص عن أبيه » راجع فضائل الصحابة / ٤ ـ ۱۸۷۰ ) .
٥ ـ وجاء في حديث طويل ، عن أبي أيوب الأنصاري :
يا عمار ، إن علياً لا يردك عن هدى ، ولا يدلك على ردى .
يا عمار ، طاعة علي طاعتي ، وطاعتي طاعة الله عز وجل . !
٦ ـ وعن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
علي بن أبي طالب حلقة معلقة بباب الجنة ، من تعلق بها دخل الجنة .
۷ ـ وعن انس بن مالك ، قال :
إن سائلا أتى المسجد وهو يقول : من يقرض المليّ الوفي ؟ وعلي ـ عليه السلام ـ راكع يقول (۹) بيده خلفه للسائل خذه ، أي اخلع الخاتم من يدي . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا عمر ، وجبت .
قال : بأبي انت وأمي يا رسول الله ، ما وجبت ؟ قال : وجبت له الجنة . والله ما خلعه من يده ، حتى خلعه من كل ذنب وخطيئة (۱۰) .
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي
۸ ـ وعن ابن عباس رضي الله عنه ، قال :
أقبل عبد الله بن سلّام ، ومعه نفر من قومه ، ممن قد آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إن منازلنا بعيدة ، وليس لنا مجلس ، ولا متحدث دون هذا المجلس ، وان قومنا لما رأونا آمنا بالله ورسوله ، وصدقناه ، رفضونا ، وآلوا على أنفسهم أن لا يجالسونا ، ولا يناكحونا ( أي لا يتزوجون منا ولا نتزوج منهم ) ولا يكلمونا ، فشق ذلك علينا .
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ » ( ٥٥ ـ المائدة )
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج الى المسجد ، والناس بين قائم وراكع ، وبصر بسائل .
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : هل أعطاك أحد شيئاً ؟
قال : نعم ، خاتم من ذهب.
فقال النبي (ص) : من أعطاكه ؟
قال : ذلك القائم ـ وأومأ بيده الى علي بن أبي طالب ـ .
فقال النبي (ص) : على أي حال أعطاك ؟
قال : اعطاني وهو راكع ! .
فكبَّر النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قرأ : « وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ » ( ٥٦ ـ المائدة ) .
فأنشأ حسان بن ثابت يقول :
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي
وكل بطيیء في الهوى ومسارع
أيذهب مدحي والمحبين ضائعاً
وما المدح في جنب الإله بضائع
فأنت الذي اعطيت اذ كنت راكعاً
فدتك نفوس القوم يا خير راكع
فانزل فيك الله خير ولاية
وبينها في محكمات الشرائع (۱۱)
وقصة التصدّق بالخاتم ـ هذه ـ من أشهر المشهورات ، وقد رواها الجويني بعدة طرق ، وبأسانيد مختلفة ، كما رواها غيره من أرباب الحديث .
ونكتفي هنا بهذا العرض لبعض الروايات في هذا المضمون ، والتي هي نزر قليل من الكثير الكثير ، اذ لو أردنا استقصاء وذكر الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وآله في فضل أمير المؤمنين علي عليه السلام ، والمشتملة على النص بالولاية منه (ص) له (ع) من بعده ، وعلى إلزام المسلمين بالأخذ عن أهل البيت (ع) معالم دينهم لألزمنا ذلك بافراد كتاب مستقل ، ولأخرجنا عن الموضوع .
ومجمل القول :
فان الشيعة يعتقدون بأن الإمامة ، لا تكون إلا بالنص من الله تعالى ، على لسان النبي ، أو على لسان الإمام الذي قبله ، وأن الإمام لا بد وأن يكون معصوماً من جميع الرذائل ، ومن السهو والخطأ والنسيان ، كما لا بد وأن يكون أفضل الناس بعد النبي (ص) .
ولا يهمنا من بحث الإمامة هنا « اثبات انهم هم الخلفاء الشرعيون ، وأهل السلطة الإلهية ، فان ذلك أمر مضى في ذمة التأريخ ، وليس في اثباته ما يعيد دورة الزمن من جديد أو يعيد الحقوق المسلوبة الى أهلها ، وانما يهمنا منه ، ما ذكرنا من لزوم الرجوع اليهم في الأخذ بأحكام الله الشرعية ، وتحصيل ما جاء به الرسول الأكرم على الوجه الصحيح الذي جاء به ، وان في أخذ الأحكام من الرواة والمجتهدين الذين لا يستقون من نمير مائهم ، ولا يستضيئون بنورهم ، ابتعاداً عن محجة الصواب في الدين . » (۱۲)