يولد زيد في مجتمع مؤمن فيصير مؤمناً، لقربه من الهداية، وبعده عن أسباب الضلال، بينما يولد شخص آخر في مجتمع كافر أو ملحد؛ فيكون تبعاً لذلك مثلهم، كافراً وملحدا، فأين العدل في ذلك؟
يولد أحدهم سليماً خالياً من المرض فيتمتع بملذات الدنيا ولا يحرم من شيء، بينما يولد آخر معاقاً لا يقدر على شيء منها، فأين العدل في ذلك؟
فلان مولود في عائلة ميسورة تمكنه من التغلب على الصعوبات التي تواجهه في حياته، وبالتالي لا يضطر لارتكاب المعاصي، وآخر يولد في عائلة معدمة وظروف تسوقه الى ما لا يحمد عقباه، فأين العدل في ذلك؟
كذلك قد يهيئ لإنسان أن يعيش سنين أكثر من شخص آخر، مما يمكنه من فعل طاعات أكثر فيستحق عليها مزيد الثواب، ولو تسنى ذلك للآخر لفعل مثل فعله ولعله أكثر، فلم حرم الثاني وأعطى الأول؟
وهكذا الكثير من موارد التفاوت بين البشر، وسبب هذا التفاوت لا يعود الى الإنسان، فما ذنب الإنسان إذا ولد في مجتمع او ظروف تسوقه للمعصية؟
من هنا ينبغي التوقف لمعالجة مثل هذه الموضوعات.
وبالإجمال يمكن إرجاع جميع المسائل السابقة من ظروف اجتماعية ساقته للإيمان او مال او صحة أو أجل الى مسألة الرزق، فكل ما تقدم يكون من الرزق المقسوم للعبد، فتتلخص مسألتنا بمعرفة سبب التفاوت في الرزق.
تقدم في مقالات سابقة (سياسة التلاعب بالمفاهيم)، أنه تعالى أخذ على نفسه إيصال كل إنسان لغايته واختياره، فمن أراد الدنيا يؤتيه منها ثم يضطره الى عذاب شديد، ومن أراد الاخرة وسعى اليها، يوصله لغايته وينصر عبده ويدخله الجنة مظفراً، وبين القرآن الكريم هذه الحقيقة في قوله عز من قائل: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19) كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)، الإسراء: 18 ــ 20.
فالأساس هو أن يوصل كل إنسان لما يستحقه ويختاره، وهو تعالى غير مسؤول عن اختيارات الإنسان بعد أن بين له طريق الجنة وطريق النار، فقال سبحانه: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، يونس: 25، وحذرنا من اتباع الشيطان بقوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)، البقرة: 168، وقال ايضاً: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، البقرة: 268، ثم ترك الخيار للإنسان فهو من يتحمل نتائج خياره، فقال: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)، الشمس: 8 ــ 10، هذا أولاً.
وثانياً إن الدنيا مراتب كما ان الآخرة مراتب ودرجات، فمن اختار الدنيا فليس على درجة واحدة، كما ان من يختار الآخرة كذلك ليسوا على درجة واحدة.
ثالثاً: الناس تختلف فيما بينها في طريقة إيصالها لدرجتها من الهداية او الضلال، فمنهم من لا يصل لذلك إلا عن طريق الغنى ومنهم من لا يصل الا عن طريق الفقر، ومنهم من لا يصل إلا عن طريق الصحة ومنهم من لا يصل إلا عن طريق المرض وهكذا.
فإذا اتضح ما تقدم نقول: ان الله تبارك وتعالى عالم بالغيب كما هو ثابت، لا يعزب عنه مثقال حبة من خردل في ظلمات الأرض ولا في السماء، فيعلم أن فلاناً إذا خلقه ماذا سيختار، هل يختار الجنة او يختار النار، او قل هل يختار الدنيا او يختار الاخرة، وأي درجة منهما، وعلى أساس اختياره سيوصله الله تعالى لاختياره، كما تقدم في الآية الكريمة، وكذا في قوله تعالى: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى)، الليل: 4 ــ 13.
لكن بالنظر الى ان اختلاف طرق إيصال الناس الى غاياتهم، أختلفت أقدارهم، فقدر الله لبعضهم ظروفاً اجتماعية واقتصادية وصحية تختلف عن البعض الاخر.
وقد صرحت الكثير من الأحاديث الواردة عن اهل بيت العصمة والطهارة بهذا المعنى إضافة لما تقدم من الآيات، فقد ورد داود بن سليمان، قال حدثنا الرضا علي بن موسى: «قال حدثني أبي موسى بن جعفر، قال حدثني أبي جعفر، قال حدثني أبي محمد بن علي، قال حدثني أبي علي بن الحسين زين العابدين، قال حدثني أبي الحسين بن علي، قال حدثني أبي علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله، قال الله عز و جل: يا ابن آدم، كلكم ضال إلا من هديت، و كلكم عائل إلا من أغنيت، و كلكم هالك إلا من أنجيت، فاسألوني أكفكم و أهدكم سبيل رشدكم، فإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الفاقة و لو أغنيته لأفسده ذلك، و إن من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة و لو أمرضته لأفسده ذلك، و إن من عبادي من لا يصلحه إلا المرض و لو أصححت جسمه لأفسده ذلك، و إن من عبادي لمن يجتهد في عبادتي و قيام الليل لي، فألقي عليه النعاس نظراً مني له، فيرقد حتى يصبح و يقوم حين يقوم و هو ماقت لنفسه زار عليها، و لو خليت بينه و بين ما يريد لدخله العجب بعمله، ثم كان هلاكه في عجبه و رضاه من نفسه، فيظن أنه قد فاق العابدين وجاز باجتهاده حد المقصرين فيتباعد بذلك مني، و هو يظن أنه يتقرب إليّ، فلا يتكل العاملون على أعمالهم و إن حسنت، و لا ييأس المذنبون من مغفرتي لذنوبهم و إن كثرت، لكن برحمتي فليثقوا، و لفضلي فليرجوا، و إلى حسن نظري فليطمئنوا، و ذلك أني أدبر عبادي بما يصلحهم، وأنا بهم لطيف خبير». الأمالي للطوسي ص 167.
ولنتأمل قوله تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)، الشورى: 27، وقوله ايضاً، في سورة الزخرف: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)، الزخرف: 33 ــ 35.
والخلاصة ان الاختلاف في الرزق وإفاضة الله تعالى على عبيده في الصحة والمال والآجال وباقي الظروف تابع لما يختاره العبد، فبحسب اختياره الدنيا او الاخرة واي درجة منهما يتحدد الطريق المرسوم والموصل لهذه الغاية، وقد يكون طريق زيد في وصوله لدرجته من الجنة يختلف عن طريق عمرو، فكلاهما يستحقان الجنة، لكن الأول لا يصل لغايته إلا عن طريق الفقر بينما الاخر يصل عن طريق الغنى، وثالث لا يصل إلا عن طريق المرض بينما رابع يصل عن طريق الصحة، وهكذا، فالتفاوت في الرزق والآجال تابع لما يختاره العبد.