السبت 25 شوّال 1445هـ 4 مايو 2024
موقع كلمة الإخباري
ندعو فلا يستجاب لنا؟ اعرف السبب..
الشيخ مقداد الربيعي
2024 / 04 / 23
0

الدعاء هو ذلك الجسر المتين الذي يمتد بين الأرض والسماء، رابطاً العبد بربه في علاقة خفية تعتمد على الايمان والتسليم، فهو ليس مجرد كلمات ترددها الألسن في خشوع وضراعة، بل هو تفاعل روحي عميق يجسد فطرة الانسان الذي يبتغي السند من خالقه.

في الدعاء يلتقي العبد بربه في محراب خاص، يبوح فيه بأسراره، ويفيض قلبه بأمانيه، هو حالة من الاعتراف بالفقر المطلق أمام بارئها، تتجلى فيه عظمة الخضوع وجمال التوكل على العزيز الحكيم.

انه ينبوع العطاء الذي لا ينضب، ومصدر الطمأنينة الذي لا ينقطع، ومن هنا جاءت النصوص لتأكد قيمته، فعدته مخ العبادة، ففيه تتجلى روح وحقيقة العبودية والتسليم الكامل لإرادة الله، ومن خلاله نتعلم كيف نستقبل القدر بقلوب راضية موقنة بأن كل شيء بيد الله وضعه وتغييره.

ولعل قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، البقرة: 186، هي أجمل بيان وأرق أسلوب في بيان حقيقة الدعاء، فهي الآية الوحيدة في القرآن الكريم التي اشتملت على سبعة ضمائر للمتكلم تعود على الحق سبحانه وتعالى، ليرفع الواسطة بينه وبين عباده ويؤكد قربه تعالى منهم، فلم يقل مثلاً، قل لعبادي أني قريب..

وجاء بالفعل المضارع (أجيب)، للتأكيد أيضاً على الاستمرار بإجابة دعواهم ورفع حاجاتهم، كما ان قوله تعالى (عبادي)، بمنزلة العلة والسبب لإجابته تعالى دعائهم، فالعبد هو المملوك من البشر، لا يملك لنفسه شيئاً، وحق على مالكه تولي أمره.

 وهنا ينبغي التفريق بين ملكه تعالى لخلقه وملك الإنسان لماله، فملك الإنسان ليس ملكاً حقيقياً لإمكان سلبه منه، بالشراء او الغصب مثلاً، خلاف ملكه تعالى لخلقه، فهو ملك حقيقي لا يمكن لغيره التصرف به من دون إذنه، قال تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)، البقرة: 255، أي من هذا الذي له أن يتصرف في ملكي من دون إذني!!

وعليه فكل ما يملكه الإنسان من بدن ومال وولد وأهل، بل حتى نفسه وسمعه وبصره وجميع أفعاله، هي ملك حقيقي لله تبارك وتعالى ليس له أن يتصرف فيها إلا من بعد إذنه، ولا أحد يملك رفع حاجته غيره سبحانه، فالإنسان في حقيقة أمره دائماً يرفع يد الضراعة، والحاجة، وإن لم يرفع يده بالدعاء، قول في ذلك صاحب تفسير الميزان: «فهو سبحانه الحائل بين الشيء و نفسه، وهو الحائل بين الشيء وبين كل ما يقارنه: من ولد أو زوج أو صديق أو مال أو جاه أو حق فهو أقرب إلى خلقه من كل شيء مفروض فهو سبحانه قريب على الإطلاق كما قال تعالى: (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون) الواقعة: 85، وقال تعالى: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) ق: 16، وقال تعالى: (إن الله يحول بين المرء وقلبه)الأنفال: 24، و القلب هو النفس المدركة.

بل الملك لله سبحانه على الإطلاق ولا يملك شيء شيئاً إلا بتمليك منه سبحانه وإذن فما شاءه وملكه وأذن في وقوعه يقع، وما لم يشأ ولم يملك ولم يأذن فيه لا يقع وإن بذل في طريق وقوعه كل جهد وعناية، قال تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني)، الفاطر: 15». الميزان، ج2، ص16.

وخلاصة القول: أن العبودية ملكية محضة لله تعالى، وهذا يقتضي ان الله سبحانه وتعالى هو الوحيد القادر على رفع حاجات مملوكه، وقد ضمن الحق سبحانه الإجابة، فقال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ.. الآية)، غافر: 60.

لكن كيف نفسر عدم استجابة الدعاء، فكثيراً ما يرفع العبد حاجاته لبارئه ولا يجد جواباً؟

والجواب في نفس الآية الكريمة المتقدمة (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ)، فهذان قيدان لإجابة الدعاء، فقيد الاستجابة بدعوة عبده له (إذا دعانِ)، بكونه دعاءً حقيقياً، بأن يكون حاجة حقيقة للداعي، فقد يدعو بما يضره ولا ينفعه، وهو جاهل بذلك.

وأن يواطئ لسانه قلبه، وألا يكون مجرد لقلقة، كدعاء الأم على ولدها، فهي حقيقة لا تريد استجابة دعائها قطعاً، بل ان حقيقة الدعاء هو الذي يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة، دون ما يأتي به اللسان الذي يدور كيفما أدير صدقاً أو كذباً جداً أو هزلاً حقيقة أو مجازاً، ولذلك ترى أنه تعالى عد ما لا عمل للسان فيه سؤالاً، قال تعالى: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)، الرحمن: 29، فما من مخلوق إلا ويسأل الله تعالى على الدوام لا بلسان وإنما بحاجة فطرية واقعية.

فاستجابة الدعاء تخضع لنواميس الرزق، وقد قُرر فيها، أن الرزق منه تعالى يكون بحسب ما يناسب استحقاق العبد من الهداية، فالظروف الاقتصادية والاجتماعية والصحية ونحوها يقدرها الحق سبحانه بما يوصل العبد لاستحقاقه من الهداية او الضلال، ومن ذلك ما رواه أمير المؤمنين عليه السلام، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، قَالَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا اِبْنَ آدَمَ، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُ، وَ كُلُّكُمْ عَائِلٌ إِلاَّ مَنْ أَغْنَيْتُ، وَكُلُّكُمْ هَالِكٌ إِلاَّ مَنْ أَنْجَيْتُ، فَاسْأَلُونِي أَكْفِكُمْ وَ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ رُشْدِكُمْ، فَإِنَّ مِنْ عِبَادِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ مَنْ لاَ يُصْلِحُهُ إِلاَّ اَلْفَاقَةُ وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لاَ يُصْلِحُهُ إِلاَّ اَلصِّحَّةُ وَلَوْ أَمْرَضْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لاَ يُصْلِحُهُ إِلاَّ اَلْمَرَضُ وَلَوْ أَصْحَحْتُ جِسْمَهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ يَجْتَهِدُ فِي عِبَادَتِي وَقِيَامِ اَللَّيْلِ لِي، فَأُلْقِي عَلَيْهِ اَلنُّعَاسَ نَظَراً مِنِّي لَهُ، فَيَرْقُدُ حَتَّى يُصْبِحَ وَيَقُومَ حِينَ يَقُومُ وَهُوَ مَاقِتٌ لِنَفْسِهِ زَارٍ عَلَيْهَا، وَلَوْ خَلَّيْتُ بَيْنَهُ وَ َيْنَ مَا يُرِيدُ لَدَخَلَهُ اَلْعُجْبُ بِعَمَلِهِ، ثُمَّ كَانَ هَلاَكُهُ فِي عُجْبِهِ وَرِضَاهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ فَاقَ اَلْعَابِدِينَ وَجَازَ بِاجْتِهَادِهِ حَدَّ اَلْمُقَصِّرِينَ فَيَتَبَاعَدُ بِذَلِكَ مِنِّي، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ، فَلاَ يَتَّكِلِ اَلْعَامِلُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَإِنْ حَسُنَتْ، وَلاَ يَيْأَسِ اَلْمُذْنِبُونَ مِنْ مَغْفِرَتِي لِذُنُوبِهِمْ وَإِنْ كَثُرَتْ، لَكِنْ بِرَحْمَتِي فَلْيَثِقُوا، وَلِفَضْلِي فَلْيَرْجُوا، وَإِلَى حُسْنِ نَظَرِي فَلْيَطْمَئِنُّوا، وَذَلِكَ أَنِّي أُدَبِّرُ عِبَادِي بِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَأَنَا بِهِمْ لَطِيفٌ خَبِيرُ». أمالي الطوسي، ج1، ص144.

فلاحظ كيف قيد الحق سبحانه وتعالى استجابة الدعاء بما يتناسب وأقدار العبد التي توصله للهداية، فقد يسأل العبد ما لا ينفعه ولا يصب في صراط هدايته، قال تعالى: (.. وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، البقرة: 216.

وفي كتاب فضائل الشيعة للصدوق رحمه الله: بإسناده عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ويبغض، ولا يعطي الآخرة إلا من أحب، وإن المؤمن ليسأل ربه موضع سوط من الدنيا فلا يعطيه ويسأله الآخرة فيعطيه ما شاء، ويعطي الكافر في الدنيا قبل أن يسأله ما يشاء، ويسأله موضع سوط في الآخرة فلا يعطيه إياه». فضائل الشيعة الرقم ٣٢.

والسبب الثاني والأهم لعدم استجابة الدعاء، أن الداعي لم يدعو الله تبارك وتعالى، بل دعا إلهاً آخر، فمن تأمل في دعوات أكثرنا يجدها دعوات لإله يعمل بضميمة الأسباب، فهذا الذي يدعو بشفاء مرضه، وهو يعتقد في قرارة نفسه بتأثير الطبيب او الدواء مع غفلته عن أن كل ما يملكه الطبيب او الدواء من قدرة على شفاء المرض، هي من الله تعالى.  أو دعا الله تعالى بالرزق، وهو يعتقد بتأثير الأسباب المادية في ذلك بنحو مستقل، ونحو ذلك كثير، فهذا الإله الذي ندعوه هو ليس الله سبحانه وتعالى على الحقيقة، بل هو إله غيره، فنحن واقعاً لم ندعو الله!!

هذا الداء الذي أصاب أكثر الناس نتيجة الغفلة عن مسبب الأسباب، وقد ذكرنا بياناً مقتضباً لمسألة الاستطاعة في مقال لنا سابق بعنوان (سحر أم معجزة.. كيف نفرق؟!).

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله: «يقول الله عز وجل: من سألني وهو يعلم أني أضر وأنفع استجيب له». عدة الداعي، ص131، وعن الإمام الصادق عليه السلام وقد سأله قوم: ندعو فلا يستجاب لنا؟! فقال: «لأنكم تدعون من لا تعرفونه». التوحيد للصدوق، ص 209، باب أنه لا يعرف الا به.

وفي جواب الإمام الرضا عليه السلام للبزنطي وهو يسأله عن علة تأخر الإجابة، وهي مسألة أخرى غير عدم الإجابة، فأجابه عليه السلام: «.. فكن بالله أوثق فإنك على موعد من الله أليس الله تبارك وتعالى يقول: (وإذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان)، وقال: (ولا تقنطوا من رحمة الله) وقال: (والله يعدكم مغفرة منه وفضلا)، فكن بالله عز وجل أوثق منك بغيره، ولا تجعلوا في أنفسكم إلا خيراً فإنكم مغفور لكم». قرب الإسناد، 228.

هذا الأمر الذي اكتسبناه لطول اعتمادنا وتوكلنا على ما عداه من الأسباب، ونرى مالها من التأثير في الواقع، بينما متى ما تنزه الإنسان من هذا النظر المستقل لغير الله، وتوجه بكل اعتماده على بارئه، فإن دعاءه مستجاب لا محالة، لذا حكم الحق سبحانه باستجابة دعاء المضطر، فقال: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ..)، النمل: 62. وما ذاك إلا لأنه فقد الأمل بغير الله تعالى وعلق كل رجاءه عليه.

والخلاصة: أن الآية الكريمة في قوله تعالى (إذا دعان)، قد أصحرت بسببين لعدم استجابة الدعاء، الأول عدم وجود دعاء حقيقة، أي حاجة واقعية للعبد، وإن طلبها بلسانه، فقد لا تكون في نفعه او ممتنعة وقوعاً، والثاني، عدم دعائه الله، وإنما كان المدعو إلهاً يعمل مع الأسباب وهذا ليس الله، فلم يدعو الله على الحقيقة.



التعليقات