لفت انتباهي مؤخراً برنامج تلفزيوني تناول مسلسل (الحشاشين) الذي عُرض خلال شهر رمضان المنصرم، والذي يحكي سيرة مؤسس إحدى فرق الإسماعيلية، خصوصاً حالة الاستغراب والاستفهام الشديدين عند المقدمة في سؤالها للمؤلف عن حقيقة الكرامات التي ظهرت على يد (حسن الصباح)، بطل القصة؟ الحالة التي تحولت لصدمة عندما أجابها بصحة وصدق هذه الكرامات، فكيف تصدر مثلها من شخص نعتقد ببطلان دينه، وانحراف مذهبه؟!
أضف إلى ذلك ما نراه ونسمعه كثيراً من صدور مثل هذه الأفعال من أناسٍ نعتقد أنهم من أهل النار؟!
فمنهم من يتنبأ بالمستقبل، ومنهم من يشفي المرضى، ومنهم من يدفن نفسه أياماً في الأرض، ثم يخرج حياً، والعشرات من أمثال هذه القصص. الأمر الذي يلح على أذهاننا لمعرفة السر الغامض!!
بل يطالعنا التاريخ بحالات من الحيرة والصدمة أصابت أشخاصاً يفترض أنهم قادرون على تمييز الحق من الباطل!!
كاليهودي الذي كان في المدينة المنورة يخبر الناس بما غاب عنهم، فجعل عمر بن الخطاب يصاب بالحيرة، واتهمه بأنه فتنة للمسلمين، فكشف له اليهودي عن سره، وهو أنه أكتسب هذه الموهبة بسبب مداومة مخالفة رغبات النفس.
ونحن وإن قلنا بصحة وقدرة البعض على الاتيان بما خالف العادة، إلا أننا نؤكد بأنه لا يكشف عن صدق دعواهم، ولا صحة أديانهم، ولا استغراب في ذلك ان عرفنا السبب، فالبشر ومنذ عصور سحيقة، أدركوا أن الإنسان مركب من نفس وبدن، وأن هذه النفس لها من القوة ما يمكنها أن تأتي بالأعاجيب.
والطريق لامتلاك هذه القوى الخارقة هو جملة من الرياضات النفسية يأتي بها المرتاض، تخلق في النفس نوعاً من الإرادة واليقين، بحيث إذا أراد شيئاً فإنه لا يتخلف عن الوجود، يقول السيد الطباطبائي حول ذلك: «أثر الرياضة أن تحصل للنفس حالة العلم (اي اليقين القطعي) بأن المطلوب مقدور لها فإذا صحت الرياضة وتمت صارت بحيث لو أرادت المطلوب مطلقاً أو أرادته على شرائط خاصة كإحضار الروح للصبي غير المراهق في المرآة حصل المطلوب.
وإلى هذا الباب يرجع معنى ما روي: أنه ذكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن بعض أصحاب عيسى عليه السلام كان يمشي على الماء فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لو كان يقينه أشد من ذلك لمشى على الهواء. فالحديث - كما ترى - يومئ إلى أن الأمر يدور مدار اليقين بالله سبحانه وإمحاء الأسباب الكونية عن الاستقلال في التأثير، فإلى أي مبلغ بلغ ركون الإنسان إلى القدرة المطلقة الإلهية انقادت له الأشياء على قدره، فافهم ذلك.
ومن أجمع القول في هذا الشأن قول الصادق عليه السلام: ما ضعف بدن عما قويت عليه النية، وقال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتواتر: إنما الأعمال بالنيات». الميزان، ج6، ص104.
ويقول في موضع آخر: «وربما كانت الإرادة إذا شُفعت باليقين والإيمان الشديد والإذعان الجازم تفعل أفعالاً لا يقدر عليها الإنسان المتعارف، ولا أن الأسباب العادية يسعها أن تهدي إلى ذلك». نفس المصدر السابق.
فالأمر إذن يعود الى الحصول على قوة نفسانية (إرادة منطلقة من يقين)، من خلال جملة من الرياضات، يجمعها مبدأ مخالفة رغبات النفس، ولا علاقة له بمعتقد ديني أو عبادة، «والذي يهمنا التنبه عليه هو أن هذه الأمور جميعاً تتوقف في وقوعها على نوع من انصراف النفس عن الاشتغال بالأمور الخارجة عنها - وخاصة اللذائذ الجسمانية - وانعطافها إلى نفسها ولذا كان الأساس في جميع الارتياضات النفسانية - على تنوعها وتشتتها الخارج عن الإحصاء - هو مخالفة النفس في الجملة، وليس إلا لأن انكباب النفس على مطاوعة هواها يصرفها عن الاشتغال بنفسها، ويهديها إلى مشتهياتها الخارجة فيوزعها عليها ويقسم شعورها بينها، فتأخذ بها وتترك نفسها». المصدر نفسه.
وهنا نأتي للسؤال الأهم: فإن كان ما يصدر من هؤلاء حقاً، فما أدرانا أن ما جاء به الأنبياء لم يكن من هذا القبيل، فقد يكون مجرد سحر سحروا به أعين الناس؟! وبعبارة أخرى، إن أمكن صدور خوارق الأفعال من غير الصادقين، سقطت حجية المعجزة، ولم تعد دليلاً على صدق صاحبها، فكيف نميز بين السحر والمعجزة؟
للتعرف على ما يميز المعجزة عما سواها من خوارق الأفعال، لابد من بيان مسألة (الاستطاعة)، المبحوثة في علم الكلام الإسلامي، ولو بنحو مجمل: أن الله تبارك وتعالى خلق العالم وفق نظام السببية، وهو أن كل حادث ومُسَبب لابد له من علة وسبب، فعن ربعي بن عبد الله، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: «أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسباب، فجعل لكل شيء سبباً.. الحديث»، الكافي، ج1، ص183.
ولكل فعل وحادث جملة من الأمور التي يتوقف عليها، تشكل بمجموعها العلة التامة للفعل، وليس جميعها من قبيل الأمور المادية، بل بعضها ولعل المهم منها هي أسباب خارج نطاق المادة، فخذ فعلاً ما، كشربك للماء مثلاً، فرغم توقفه على جملة أمور مادية، كتوفر الماء وعدم المانع من تناوله، إلا أنه ايضاً يتوقف على ما هو خارج عن المادة، فقدرتك على تناول الماء وشربه، وإن تمثلت بفعل فسيولوجي (بدني)، إلا أنها لابد أن تنتهي لفيض وجود منه تعالى، والذي يتوقف بدوره على علة غير مادية، هي الله سبحانه وتعالى. فهذه القدرة والقوة في البدن ليست ثابتة ومستقرة، وإنما هي متجددة مفاضة من الله سبحانه على عبده في كل آن آن، وإن لم نشعر بذلك لدوام الفيض.
فما من حادث إلا وهو مرتبط بأسباب مادية وغيبية، والمعجزة لا تختلف عن سائر الأفعال في ذلك، إلا أن الفرق بينها وبين غيرها، في الأسباب الغيبية للفعل، فالسحر مثلاً مرتبط بأسباب مادية وغيبية، كما المعجزة، إلا أن السحر مرتبط بسبب غيبي ضعيف متناهي وهو نفس الساحر، بينما المعجزة مرتبطة بسبب غيبي لا متناهي وهو الله تبارك وتعالى.
وبحسب ما تقدم يكون الفرق بين المعجزة والسحر او الفعل الصادر من قوة نفس المرتاض، هو اعتماد المعجزة على سبب لا يقهر، بينما غيرها مرتبط بأسباب محدودة، شاهدنا في ذلك ما فعله موسى مع السحرة، فهم قبل أن يتحدوه كانوا قد سمعوا بتحويله عصاه الى حية، فتصوروا أنه من قبيل أفاعيلهم، لكن لما وجدوه أمراً يفوق قدرة النفوس البشرية، فمهما اشتدت النفس فهي أضعف من إصدار مثل هذا الفعل، حينها أدركوا بأنه فعل الله تعالى.
وهذا هو سبب إيمانهم العميق، وتحولهم السريع، من أعوانٍ للظلمة الى مؤمنين مستعدين أن يُنشروا بالمناشير على أن يتركوا ما آمنوا به.
يقول السيد الطباطبائي: «وبالجملة جميع الأمور الخارقة للعادة سواء سميت معجزة أو سحراً أو غير ذلك ككرامات الأولياء وسائر الخصال المكتسبة بالارتياضات والمجاهدات جميعها مستندة إلى مبادٍ نفسانية ومقتضيات إرادية على ما يشير إليه كلامه سبحانه إلا أن كلامه ينص على أن المبدأ الموجود عند الأنبياء والرسل والمؤمنين هو الفائق الغالب على كل سبب وفي كل حال، قال تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)، الصافات: 173، وقال تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)، المجادلة: 21، وقال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، المؤمن: 51. والآيات مطلقة غير مقيدة». الميزان، ج1، 78.
ومنه نعرف بأن مائز المعجزة عن غيرها ليس هو إتيان الفعل من غير طريقه المعتاد، وإنما هو قهره لكل ما عداه، فلا يمكن أن يؤتى بفعل يبطله ويلغيه.