يحسبُ البعضُ أن الحكم الشرعيّ في الرسالة العمليَّة، والمعارف العقائديَّة في علم الكلام، وأحاديث النبوَّة وخطب الأئمَّة وصلت إلينا من غير تضحية، وجاءتنا من غير جهاد.
إنَّ مسائل هذا الدين فقهاً وعقائد، أصولاً وفروعاً جاءتنا عبر تضحياتٍ جسامٍ، وسهر الليالي، وتعب الأيام.
وكان المضحي الأول رسول الله – صلى الله عليه وآله – أُدميت قدماه في الطائف، ورُمي بالحجارة في مكة، وقاتل عن هذا الدين في المدينة كلُّ ذلك ليُبلّغ القرآن.
ثم تلاه أمير المؤمنين – عليه السلام – قاتل الكفار على تنزيله، وحارب المنافقين على تأويله حتى خضَّبَ شيبته في سبيله، ولمَّا كان الإسلام حديث عهدٍ في النّفوس، والتجسيم لم يزل فاشياً في العقول، فإنَّه نثر من كنانة علمه سهام التوحيد يرمي بها غرض الشرك، ويصوّب برياشها رميَّة التجسيم، وأرى المسلمين أنَّ الله يُرى ببصائر حقائق الإيمان لا بالأبصار؛ فكان كلامه في الإلهيات فاتحة سور التنزيه في قرآن التوحيد.
ثم تلاه الحسنان – عليهما السلام – فقذف الأول كبده في الطشت مسموما، ونزف الثاني دمه في كربلاء منحورا ليصل هذا الدين إلينا سالِما من التشويه، بريئاً من التحريف، وليحافظ السبط المُجتبى بمهادنته معاوية على كيان الشيعة كمجموع، وليُحيي الشهيد السبط بقتاله يزيد الإسلام بعد موات.
ثمَّ ارتدَّ النَّاسُ بعد فاجعة الطفِّ إلّا أربعة، ثم فاء النَّاسُ إلى وارف شجرة الدين، ورجعوا إلى ظلال دوحة الإسلام وكان من ذلك أن أعاد الإمام السجَّاد عليه السلام بيان مفاهيم الإسلام عقيدة، فبيَّن في مجلس يزيد منزلة أمير المؤمنين – عليه السلام – بعد أن شوَّهها الأمويون وقالوا إنَّه – عليه السلام – لم يكن يصلي! فعجبوا أن ضرب رأسه في محراب المسجد وهو في الصلاة.
وربط عملياً بين العبد والمعبود عن طريق فلسفة الدّعاء فهنا دعاء عند رؤية الهلال، وذاك ابتهالٌ في وداع شهر رمضان، وناجى الله تعالى في خمس عشرة مناجاة، فتلك مناجاة الخائفين، وذي مناجاة التَّائبين، ثمَّ بيَّن الحقوق، حتى حق المدين على الدَّائن.
ثم حانت فسحةٌ من الوقت بعد زوال بني أميَّة، وأزفت ندحةٌ من الزمان قبل مجيء بني العباس فاستثمر الصادقان الإمامان محمد الباقر وجعفر الصادق – عليهما السلام – النهزة، وانتهزا الفرصة لبيان أحكام الفقه في العبادات والمعاملات.
ونشرا نسيم علومهما في ربيع المعرفة، وسرجا قناديل البصيرة في غياهب الجهل، وجادلا دون الدين الزنادقة والملحدين، وفتقا سماء التعليم بمطر التفهيم وربَّيا التلاميذ المحصّلين، والطلاب المؤثّرين.
ثم جاء الإمام الكاظم – عليه السلام – في دورٍ من أدوار الأئمَّة جديد، دور انشقاق الشيعة إلى فرق، والمسلمين إلى مذاهب، وحاول – عليه السلام – جهده المحافظة على عقائد المؤمنين، ومجموع المتشيعيين.
وكانت له مناظراتٌ مع هارون العبَّاسي الذي كان يتبجَّح بأنَّه ابن عمِّ الرسول – صلى الله عليه وآله – وهو أجدر بوراثته، ويتجحَّف بانه من نسل الهاشميين وهم أحرى بخلافته، فأبان – عليه السلام – بأنَّه ولده من السيدة الزهراء البتول، كما كان عيسى عليه السلام ولد إبراهيم عليه السلام من مريم العذراء – عليها السلام – فألقمّه حجراً غصَّ به حلقوم حجَّته، ولم تمضغه أضراسُ مرواغته.
ثم جاء الإمام الرضا – عليه السلام – فأملى وهو في طريقه إلى مرو في نيسابور حديثاً عُرف بسلسلة الذَّهب عنعنَ فيه عن آبائه عن جدَّه – عليهم الصلاة والسلام – عن جبرائيل عن الباري – جلَّ جلاله – بيَّن فيه أن الإسلام وهو شهادة لا إله إلا الله هو حسن الله تعالى، وأنَّه لا يجوز دخول مدينة هذه الشهادة إلَّا من بابها بشروطها، وهو من شروطها.
وجاء الإمام الجواد – عليه السلام – فأبان أن الإمامة منصبٌ كالنّبوة، يختار الله لها من هو في سبع سنين، كما يختار للنبوَّة من هو في المهد.
ثم جاء التمهيد لانقطاع الإمامة الظاهرة عن الشيعة على عهد الإمامين العسكريين – عليهما السلام – والتمهيد لذلك.
ثم تسلَّم العلماء العدول والرواة الثقات الأمانة من المعصومين عليهم السلام، فحفظوا تراث الأئمة ودفعوا لذلك ثمناً غالياً من دمائهم كما صنع الشهيد الأول محمّد بن مكّي العامليّ الجزينيّ، الذي قتل في سبيل محاربة البدع بالسيف، ثم صُلب، ثم رُجِم ثم أحرق بدمشق بفتوى القاضي برهان الدين المكي وعباد بن جماعة بعدما سجن سنة كاملة في قلعة الشام.
والشهيد الثاني الشيخ زين الدين بن علي بن أحمد العامليّ الذي قُتل على ساحل البحر غدراً، وقطع رأسه بغيا وما ذلك إلَّا لتصلّبه في التشيّع.
والشيخ الطوسي – رحمه الله – كبسوا بيته، وأحرقوا مكتبته ففرَّ من بغداد إلى النَّجف وسقى بذرة الحوزة التي غرستها يدُ الإمام الصادق – عليه السلام – في مسجد الكوفة لما قال ابن الوشا حدَّثني أربعة الآف شيخٍ كلُّهم يقول حدَّثني جعفر.