الجمعة 10 شوّال 1445هـ 19 أبريل 2024
موقع كلمة الإخباري
ثورة العراق الفاشلة بعد الثورة الإيرانية في العام 1979
2019 / 05 / 26
0

مركز بروكنجز

كان للثورة الإيرانية في العام 1979 أثرٌ كارثي في المنطقة. وبعد مرور أربعين عاماً على تأسيس الجمهورية الإسلامية، لا يزال ما خلّفته الثورة موضوعَ جدل. فقد شكّل بروز الجمهورية الإسلامية ما وصفه الباحث يتزاك ناكاش بأنّه “بروز الشيعية كقوّة سياسية”، ممّا ولّد نوعاً من الاضطراب والشكوك لدى الأنظمة الأتوقراطية العربية بقيادة سنّية والأنظمة الملكية في أنحاء المنطقة. فلعقود، حاولت هذه الأنظمة أن تنشر قيماً تأسيسية تعدّدية وهويةً موحّدة لإدارة مجتمعاتها الشيعية المتقلقلة (في بعض الأوقات) وإشراكها.

وبالنسبة إلى البعض في هذه المجتمعات، بمن فيهم حركات الإسلاموية الشيعية وناشطوها، أتاحت الثورةُ في إيران نوعاً من الفرصة للبدء بثورتهم المحلّية. فقد أمضى آية الله روح الله الخميني، العقل المدبّر المسؤول عن الثورة، 13 عاماً في المنفى في مدينة النجف المقدسة في العراق. وحاضر في ندوات وأنشأ روابط مع طلّاب وباحثين دينيين من مختلف الأماكن، بالإضافة إلى أعضاء قياديين من المؤسّسة الدينية الشيعية في النجف وكربلاء.

ومن المنفى في العراق، خطّط الخميني للإطار الفكري والأيديولوجي الذي يشكّل الأرضية لنظام الحوكمة في إيران اليوم. ويؤيّد هذا النظام، المعروف بولاية الفقيه، ولايةَ رجال الدين الشيعة المباشرة والتنفيذية ويشكّل نموذجَ الثيوقراطية الإيراني بالاستناد إلى تفسير فقهي للإسلام. وشكّل تنفيذُ هذا الحكم بعد الثورة ابتعاداً جذرياً عن التقليد الإسلامي الشيعي القاضي بفصل الدين عن السياسة والمُعتمد منذ قرون.

وعندما نشبت الثورة الإيرانية في العام 1979، لم تكن الحركة الشيعية في العراق في موقع يمكّنها من أن تحذو حذو أبناء دينها عبر الحدود. فأفضت الثورة الفاشلة إلى قمع وحشيّ بحقّ المجتمع الشيعي، لكنّها رسمت أيضاً معالم علاقة الدولة مع مجتمعها الشيعي للعقود التي تلت، محدّدةً نوعاً ما طبيعة التمرّدات الشيعية الأخرى وظروفها، بما فيها تلك التي حصلت في التسعينيات على وجه الخصوص.

بروز حزب الدعوة وسقوطه

لم يكن الخميني أوّل مَن أيّد التدخّل الديني في السياسة، بل شكّل حزبُ الدعوة الإسلامية في العراق، الذي تأسّس في العام 1958، أوّل حركة وحزب إسلاموي شيعي حديث، ممّا أدّى إلى إنشاء فروع منفصلة في البلدان العربية الأخرى التي تضمّ عدداً كبيراً من السكّان الشيعة، مثل البحرين والكويت. وتضمّن الأعضاء المؤسّسون للحزب أبناءَ رجل الدين الشيعي القائد آية الله العظمى محسن الحكيم، الذي يوازيه مكانةً في العصر الحالي في المجتمع الديني آيةُ الله العظمى علي السيستاني.

وسعى مؤسّس الحزب الإيديولوجي، محمد باقر الصدر، إلى تطوير إطار عمل إسلامي هَدَفَ إلى التوفيق بين العصرية ذات الهيمنة الغربية والفكر الشيعي الكلاسيكي، غير أنّه لم ينجح سوى باعتماد ما أصبح نموذجَ الثيوقراطية الإيراني. وكان الطلّاب البحرينيّون والسعوديون من بين الباحثين المبتدئين الأجانب الكُثر الذين تبعوا تعاليمه. وسعى الأعضاء المؤسسّون لحزب الدعوة إلى إنشاء حركة لا تتحدّد بخطوط مجتمعية أو دينية وأنشأوا الحزبَ على أساس نظرةٍ شاملة وفكرية وتجديدية إسلامية، وهي نظرة استمدّت الإلهام من الإخوان المسلمين في مصر.

غير أنّه تمّ استهداف الصدر وحزب الدعوة على صعيدَين. فقد تأسّس حزب الدعوة ضمن شبكات دينية شيعية كردٍّ على بروز الحزب الشيوعي العراقي بعد سقوط النظام الملكي في العام 1958. وحصلت الشيوعية على الدعم من فئات كبيرة من الشعب الشيعي، بمن فيهم أقارب القيادات الدينية الشيعية. وفيما توخّى النظامُ في العراق الحذرَ من الحزب، تلقّى الحزب ضربتَه الأولى في خلال سنواته التأسيسية من داخل المؤسّسة الدينية الشيعية في النجف.

فما إن أخذ الحزب يحظى بالدعم والشعبية حتّى عارضت المؤسّسة الدينية تأسيسَ حركة إسلاموية شيعية سعت إلى إشراك السياسة وهيكليات السلطة، محذّرةً بأنّ هذا التصرّف ينتهك تقليدَ الإسلام الشيعي التصوفي المعتمد لقرون وقد تتمخّض عنه ردودٌ خطيرة من الدولة ضدّ الحوزات (المدارس الدينية). وأطلق نقّاد حزب الدعوة والصدر حملة قدح وذمّ ضدّ رجل الدين هذا وحشدوا ما يكفي من الدعم لإجبار الصدر على الانسحاب من الحزب.

بالفعل، شكّلت التوتّرات حول المدى الذي ينبغي على رجال الدين الشيعة بلوغه عند الانخراط في السياسة والحوكمة أساساً في العلاقات الشائكة التي أقامها الخميني مع كبار رجال الدين التصوّفيين في النجف في خلال نفيه، بمن فيهم آية الله العظمى أبو القاسم الخوئي. وقد أرخت هذه الاحتكاكات عينها بثقل كبير على العداوة بين النجف ومدينة قُم المقدّسة في إيران منذ الثورة في العام 1979. واليوم، تابع آية الله العظمى السيستاني، طالب الخوئي، التقليدَ التصوفي وواظب على حماية النجف من ولاية الفقيه، على الرغم من قصارى جهود إيران.

وتلقّى حزب الدعوة ضربةً كبيرة أخرى بعد أن استلم حزب البعث زمام السلطةَ في العام 1968، وطالت الضربة أيضاً قدرةَ الحشد التي تتمتّع بها المؤسّسة الدينية الشيعية، ولا سيّما بعد وفاة آية الله العظمى محسن الحكيم في العام 1970. وبحلول فترة اندلاع الثورة الإيرانية، كان حزب الدعوة قد سبق أن أرغِم على العمل سراً وخسر الكثير من أعضائه وداعميه، الذين سُجنوا وقُتلوا وأُرسلوا إلى المنفى.

ثورة فاشلة

مع ذلك، وعلى الرغم من الدّمار والمصائب التي شهدتها الحركة الإسلامية الشيعية، نجحت هذه الحركة ذات التنظيم السيّئ والقاعدة الواسعة التي برزت في العراق منذ العام 1958 (وضمّت داعمين لحزب الدعوة وأعضاء من شبكات العراق الدينية الشيعية وأعضاء عاديين من المجتمع الشيعي) في الحصول على فرصتها في العام 1979.

فعقب الثورة الإيرانية، طلب المجتمع الشيعي في العراق من محمد باقر الصدر أن يكون النسخة العراقية من “آية الله الخميني” وأن يقود ثورةً ضدّ النظام. وقدّم قادةُ المجتمع وزعماء العشائر ومئات الأشخاص العاديين ولاءَهم للصدر. وانطلقت الاحتجاجات بعد ذلك في بغداد وفي المقاطعات ذات الأغلبية الشيعية في الجنوب في مايو 1979. وفي كلّ يوم جمعة، زار عراقيون من أنحاء بغداد والمقاطعات الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية الصدرَ في منزله في النجف للإعلان عن ولائهم واستعدادهم لدعم الثورة.

ولمدّة تسعة أيّام، انتشرت الاحتجاجات ضدّ النظام، لكنّه تمكّن من قمعها واعتقال الصدر. وأدّى سَجن الصدر إلى قيام موجة أخرى من الاحتجاجات في يونيو بعد أن أطلقت شقيقة الصدر، بنت الهدى، وهي ناشطة بارزة بدورها ورمزٌ للحركة النسائية الإسلامية المطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة، تضرّعاً قوياً ومؤثّراً. ووقع المزيد من الصدامات بين القوى الأمنية والمحتجّين، فتمّت محاصرة النجف. وبلغ العنف مستويات عالية لدرجة أنّ النظام أطلق سراحَ الصدر، وقمع بالتزامن ممثليه وداعميه لإضعاف شبكة رجل الدين هذا وقدرة الحشد التي يتمتّع بها المحتجّون. فتمّ تعذيب الآلاف وإعدامهم.

ولم يكن حزب الدعوة والحركة الشيعية في العراق في موقعٍ يخوّلهما محاكاة الثورة في إيران. فبدايةً، كان الحزب منقسماً وقد خسر الكثير من عناصره القيادية الأولى أمام قمع حزب البعث عندما انفجرت الأحداث في إيران، بما معنى أنّ الحزب افتقر إلى توجيه وتنظيم استراتيجيَّين. فإمّا فرّ قادة حزب الدعوة من البلاد أم سجنهم النظام وقتلهم. بالفعل، في السنوات التالية للثورة، أخفى حزب الدعوة في خطاباته مقدارَ الخسائر والكوارث التي تكبّدها جرّاء الثورات. فقد أدّت محاولةُ اغتيال فاشلة في العام 1980 لنائب رئيس الوزراء في ذلك الوقت طارق العزيز إلى تعذيب النظامِ للصدر وشقيقته بنت الهدى وإعدامهما. واستنفد قمعُ حزب البعث بعد العام 1979 مواردَ الحزب وقدرته على الحشد ضدّ النظام، فأجبره على الاعتماد على هجمات متمرّدة متقطّعة وفاشلة في أغلب الأحيان.

وافتقر المجتمع الشيعي، على عكس أبناء دينه الإيرانيين، إلى المشاركة الناشطة من فئات المجتمع الأخرى، من بينها مجموعات أخرى مثل الأكراد والسنّة العرب. بعبارة أخرى، عجزت الاحتجاجات عن الوصول إلى العدد الكافي من المشاركين لتحدث تأثيراً. وقد أبدى الثوّار الأكراد في الشمال تعاطفاً مع القضية الشيعية، نظراً إلى علاقتهم الوطيدة والتنسيق في ما بينهم على مرّ التاريخ، غير أنّ الأكراد كانوا معزولين في الجبال ومنشغلين بحربهم ضدّ النظام. واعتمد آخرون آراء النظام المعادية للشيعة، فاعتبروا العمل الناشطي الشيعي طائفياً أو جزءاً من مؤامرة إيرانية. من هذا المنطلق، كان للثورة الإيرانية تأثيرٌ سلبي واستقطابي في العلاقات الطائفية.

وكان نظام البعث مدركاً لهذه النقطة السلبية. فبحسب السجلّات التي حصلت عليها الولايات المتحدة بعد غزو العام 2003، أشارت قيادات النظام العليا، ومن ضمنها صدّام حسين بنفسه، أنّ الخميني “يمتطي موجة الثورة” وقد “تفاعلت الأحداث السياسية الوطنية والإقليمية والدولية في ما بينها لتسمح للخميني بأن يسيطر على الثورة ويحصل على السلطة”. وعلى عكس ما حصل في إيران، تمّ إضعاف المؤسّسة الدينية الشيعية في العراق بشكل حادّ أيضاً في العقود قبل العام 1979 ولم يضاهِ بأيّ شكل من الأشكال عددُ رجال دينها وطلّابها في الحوزات العددَ الذي ضمّته المؤسّسة الدينية في إيران. وبحلول وقت بروز الثورة الإيرانية، كان الشيعة في العراق يفتقرون إلى الظروف الهيكلية المناسبة لتحقيق ثورة ناجحة.

“الثورة الإسلامية الأولى”

وفي حين أنّ الثورة الفاشلة ربما تكون قد أدّت إلى قمع وحشي وندم، غير أنّها رسمت معالم علاقة الدولة مع مجتمعها الشيعي لعقود قادمة، مُحدّدةً نوعاً ما طبيعة التمرّدات الشيعية الأخرى وظروفها، بما فيها تلك التي حصلت في التسعينيات على وجه الخصوص. فقد أدّت أيضاً مشاعر الغبن الجماعي والذاكرة الجماعية التي ولّدتها الأحداث بعد العام 1979 إلى شكلٍ عراقي مختلف من العصيان الشيعي، الذي يشكّل جزءاً من خطاب القومية والوطنية العراقي اليوم.

بالفعل، قد يكون من الخطأ إسناد احتجاجات العام 1979 في العراق بالكامل إلى الأحداث التي جرت في إيران. فكما تفسّر الباحثة ميشال برويرز، اتّسمت خطابات المجتمع الشيعي العراقي بالطابع الإصلاحي والمقاوِم قبل فترة طويلة من قيام الثورة الإيرانية في العام 1979. وما برز في العام 1979 أتى وليدة مسألة وطنية عراقية تبلورت على مدى سنوات، وأتاحه العملُ الناشطي لحزب الدعوة والمؤسّسة الدينية الشيعية. ففي الواقع، انتشرت احتجاجات العام 1977 المؤثّرة والمجهولة نوعاً ما والملقَّبة بانتفاضة صَفَر (الشهر الثاني في التقويم الإسلامي) بعد أن حاول النظام أن يمنع المسيرات الدينية الشيعية. وقد هدفت الاحتجاجات أيضاً إلى الإطاحة بالنظام البعثي وواجهت أيضاً قمعاً وحشياً. ويشير الناشطون الشيعة إلى احتجاجات العام 1977 على أنّها “الثورة الإسلامية الأولى، الثورة التي سبقت تلك التي حدثت في إيران”.



التعليقات