خليل العناني
يبدو أن الاتجاهات الرئيسية للفكر العربي، سواء القومية أو الإسلامية أو العلمانية، قد وصلت إلى مرحلة انتهاء الصلاحية، ذلك أنها فشلت فشلاً ذريعاً في تقديم إجابات مقنعة وملهمة على أسئلةٍ ملحةٍ كثيرةٍ، واجهت المجتمعات العربية في عصر ما بعد الانتفاضات والثورات. وما ظهور تيارات أصولية ومتطرفة، دينية كما "داعش"، أو شوفينية قُطرية كما اليمين الوطني المتشدد الذي ظهر وانتشر رد فعل على فشل "الربيع العربي"، إلا مجرد أعراض ومظاهر لحالة الفشل الفكري والقيمي التي تعم العالم العربي، وفي القلب منه نخبته السياسية والثقافية.
منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، هيمنت فكرتان أساسيتان على "سوق الأفكار" في العالم العربي، هما الفكرتان، القومية والإسلامية. وقد شكلت كلتاهما الأساس الجدلي أو الديالكتيك الابيستمولوجي لمسألة الإصلاح والنهضة في العالم العربي. وجسّدتا معاً، بشكلٍ أو آخر، الصراع حول "المشروع الحداثي" العربي الذي وصل الآن إلى نقطةٍ مسدودةٍ، تستدعي مراجعة شاملة لهذا المشروع، وبنيته وسردياته الحاكمة.
حدث خلال النصف الثاني من القرن العشرين تبدّل في الفكرتين، ففي الخمسينيات والستينيات، هيمنت الفكرة القومية، بتجلياتها المختلفة، سواء الناصرية أو البعثية، على المجالين، السياسي والفكري، في العالم العربي، ووصلت أنظمتها السياسية إلى السلطة في أكثر من بلد عربي. بينما نجحت الفكرة الإسلامية، بتجلياتها وصورها المتعددة، السلمية والراديكالية، في الهيمنة على المجال العام ومساحات العمل الجماعي، منذ نهاية الستينيات وحتى أواخر التسعينيات، فيما عرف لاحقاً بمشروع "الصحوة الإسلامية". وقد ظلت كلتا الفكرتين تتنافسان وتتقارعان، وظل العقل العربي يتنقل بينهما أحياناً في مساحات جدالية بيزنطية، وأحياناً أخرى، وهي قليلة، في مساراتٍ نقديةٍ جادةٍ وواعية. نقول ذلك مع إدراك وتأكيد أن العقل العربي ليس شيئاً واحداً، أو كتلة جامدة صماء، وإنما اتجاهات وتوجهات ومدارس وتيارات متنوعة، هي في الأساس نتاج البيئات السياسية والاجتماعية والدينية التي تنمو داخلها. في حين تكشف حالة الإفلاس الفكري الراهنة أن التيارات الفكرية العربية، على تنوعها واختلافها، لم تحظ بتراكم معرفي وفلسفي
"تبدو تجليات الأزمة الفكرية في العالم العربي أكبر من أن تداريها الصراعات السياسية الراهنة" مضطرد، ناهيك عن ضعف قدرتها وجرأتها على النقد والمراجعة، على الرغم من مرور أكثر من قرن على ظهورها. بل ومن المدهش أن تصل هذه التيارات والأفكار إلى حالة يرثى لها، بعد أن تدهورت قدراتها المعرفية، وانحدرت من الإبداع إلى التقليد، ومن سعة الآفاق إلى ضيق الرؤى، ومن المرونة إلى الجمود والتكلس، فكانت النتيجة الفعلية لهذا الكساد الفكري ارتدادات سياسية وإيديولوجية، نشهدها الآن في طول العالم العربي وعرضه.
وتبدو تجليات الأزمة الفكرية في العالم العربي أكبر من أن تداريها الصراعات السياسية الراهنة، وهذه في النهاية انعكاس وتجسيد حقيقي لها. خذ مثلاً الموقف العربي الراهن مما يطلق عليها "صفقة القرن"، والتي تنهى عملياً أطروحة وأفكار القومية العربية التي كانت تعتبر قضية فلسطين باعتبارها القضية "الأم" ورافعتها الإيديولوجية. وخذ أيضاً حالة الفشل السياسي والفقر المعرفي والإيديولوجي لتيارات الإسلام السياسي، والتي يجسدها واقعياً ظهور "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (تنظيم داعش). وبغض النظر عن الخلفيات الجيوسياسية والإقليمية لظاهرة "داعش"، إلا أنها كانت تعبيراً جلياً وواضحا عن جمود فكر الإسلاميين واجتهاداتهم.
كان من المفترض أن يجدّد "الربيع العربي" الأطروحات الفكرية الكلاسيكية، وإنما أيضاً بضخ أفكار جديدة، يمكنها أن تساير حركة التغيير التي اجتاحت المنطقة طوال السنوات الثلاث الماضية. وقد كان الرهان بعد "الربيع العربي" أن تصبح "الفكرة الديموقراطية" قيمياً وفلسفياً وليس فقط إجرائياً، بمثابة البديل الفكري والتعويض السياسي للشعوب العربية عن تعثر الفكرتين القومية والإسلامية، وأن ينشأ "تيار ديموقراطي" عربي، يحتل المساحات الفكرية والسياسية الشاغرة، ويملأ حالة الفراغ الإيديولوجي التي أصابت العقل العربي، بفعل سياقات التسلط والاستبداد.
بكلمات أخرى، كان من المفترض أن تؤدي حالة السيولة السياسية التي أطلقتها الثورات العربية إلى "ربيع أفكار"، يعيد تأسيس مفاهيم ومشاريع السياسة في العالم العربي، بيد أن ما حدث هو أنها أحيت وشجعت قيام "ثورة مضادة" سياسياً، ورجعية فكرياً وإيديولوجياً، حاولت، ولا تزال، بكل السبل، إجهاض ما تبقى من آمالٍ وطموحاتٍ للتغيير.
ومع انسداد أفق التفكير، وجمود النخب العربية المثقفة وانتكاسها، تبدو المنطقة مقبلةً على مرحلة أكثر سيولة، وأشد عنفاً، وأقل أمناً واستقراراً، وستظل الحال هكذا، ما دامت السياسة عندنا تصارع الفكر، والقوة تسحق العقل.
يبدو أن الاتجاهات الرئيسية للفكر العربي، سواء القومية أو الإسلامية أو العلمانية، قد وصلت إلى مرحلة انتهاء الصلاحية، ذلك أنها فشلت فشلاً ذريعاً في تقديم إجابات مقنعة وملهمة على أسئلةٍ ملحةٍ كثيرةٍ، واجهت المجتمعات العربية في عصر ما بعد الانتفاضات والثورات. وما ظهور تيارات أصولية ومتطرفة، دينية كما "داعش"، أو شوفينية قُطرية كما اليمين الوطني المتشدد الذي ظهر وانتشر رد فعل على فشل "الربيع العربي"، إلا مجرد أعراض ومظاهر لحالة الفشل الفكري والقيمي التي تعم العالم العربي، وفي القلب منه نخبته السياسية والثقافية.
منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، هيمنت فكرتان أساسيتان على "سوق الأفكار" في العالم العربي، هما الفكرتان، القومية والإسلامية. وقد شكلت كلتاهما الأساس الجدلي أو الديالكتيك الابيستمولوجي لمسألة الإصلاح والنهضة في العالم العربي. وجسّدتا معاً، بشكلٍ أو آخر، الصراع حول "المشروع الحداثي" العربي الذي وصل الآن إلى نقطةٍ مسدودةٍ، تستدعي مراجعة شاملة لهذا المشروع، وبنيته وسردياته الحاكمة.
حدث خلال النصف الثاني من القرن العشرين تبدّل في الفكرتين، ففي الخمسينيات والستينيات، هيمنت الفكرة القومية، بتجلياتها المختلفة، سواء الناصرية أو البعثية، على المجالين، السياسي والفكري، في العالم العربي، ووصلت أنظمتها السياسية إلى السلطة في أكثر من بلد عربي. بينما نجحت الفكرة الإسلامية، بتجلياتها وصورها المتعددة، السلمية والراديكالية، في الهيمنة على المجال العام ومساحات العمل الجماعي، منذ نهاية الستينيات وحتى أواخر التسعينيات، فيما عرف لاحقاً بمشروع "الصحوة الإسلامية". وقد ظلت كلتا الفكرتين تتنافسان وتتقارعان، وظل العقل العربي يتنقل بينهما أحياناً في مساحات جدالية بيزنطية، وأحياناً أخرى، وهي قليلة، في مساراتٍ نقديةٍ جادةٍ وواعية. نقول ذلك مع إدراك وتأكيد أن العقل العربي ليس شيئاً واحداً، أو كتلة جامدة صماء، وإنما اتجاهات وتوجهات ومدارس وتيارات متنوعة، هي في الأساس نتاج البيئات السياسية والاجتماعية والدينية التي تنمو داخلها. في حين تكشف حالة الإفلاس الفكري الراهنة أن التيارات الفكرية العربية، على تنوعها واختلافها، لم تحظ بتراكم معرفي وفلسفي
"تبدو تجليات الأزمة الفكرية في العالم العربي أكبر من أن تداريها الصراعات السياسية الراهنة" مضطرد، ناهيك عن ضعف قدرتها وجرأتها على النقد والمراجعة، على الرغم من مرور أكثر من قرن على ظهورها. بل ومن المدهش أن تصل هذه التيارات والأفكار إلى حالة يرثى لها، بعد أن تدهورت قدراتها المعرفية، وانحدرت من الإبداع إلى التقليد، ومن سعة الآفاق إلى ضيق الرؤى، ومن المرونة إلى الجمود والتكلس، فكانت النتيجة الفعلية لهذا الكساد الفكري ارتدادات سياسية وإيديولوجية، نشهدها الآن في طول العالم العربي وعرضه.
وتبدو تجليات الأزمة الفكرية في العالم العربي أكبر من أن تداريها الصراعات السياسية الراهنة، وهذه في النهاية انعكاس وتجسيد حقيقي لها. خذ مثلاً الموقف العربي الراهن مما يطلق عليها "صفقة القرن"، والتي تنهى عملياً أطروحة وأفكار القومية العربية التي كانت تعتبر قضية فلسطين باعتبارها القضية "الأم" ورافعتها الإيديولوجية. وخذ أيضاً حالة الفشل السياسي والفقر المعرفي والإيديولوجي لتيارات الإسلام السياسي، والتي يجسدها واقعياً ظهور "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (تنظيم داعش). وبغض النظر عن الخلفيات الجيوسياسية والإقليمية لظاهرة "داعش"، إلا أنها كانت تعبيراً جلياً وواضحا عن جمود فكر الإسلاميين واجتهاداتهم.
كان من المفترض أن يجدّد "الربيع العربي" الأطروحات الفكرية الكلاسيكية، وإنما أيضاً بضخ أفكار جديدة، يمكنها أن تساير حركة التغيير التي اجتاحت المنطقة طوال السنوات الثلاث الماضية. وقد كان الرهان بعد "الربيع العربي" أن تصبح "الفكرة الديموقراطية" قيمياً وفلسفياً وليس فقط إجرائياً، بمثابة البديل الفكري والتعويض السياسي للشعوب العربية عن تعثر الفكرتين القومية والإسلامية، وأن ينشأ "تيار ديموقراطي" عربي، يحتل المساحات الفكرية والسياسية الشاغرة، ويملأ حالة الفراغ الإيديولوجي التي أصابت العقل العربي، بفعل سياقات التسلط والاستبداد.
بكلمات أخرى، كان من المفترض أن تؤدي حالة السيولة السياسية التي أطلقتها الثورات العربية إلى "ربيع أفكار"، يعيد تأسيس مفاهيم ومشاريع السياسة في العالم العربي، بيد أن ما حدث هو أنها أحيت وشجعت قيام "ثورة مضادة" سياسياً، ورجعية فكرياً وإيديولوجياً، حاولت، ولا تزال، بكل السبل، إجهاض ما تبقى من آمالٍ وطموحاتٍ للتغيير.
ومع انسداد أفق التفكير، وجمود النخب العربية المثقفة وانتكاسها، تبدو المنطقة مقبلةً على مرحلة أكثر سيولة، وأشد عنفاً، وأقل أمناً واستقراراً، وستظل الحال هكذا، ما دامت السياسة عندنا تصارع الفكر، والقوة تسحق العقل.